الشاعر سعدي يوسف
مقالي في جريدة الوطن السعودية
..
إن الشعرية العربية الحديثة حاولت - خروجاً من المأزق الفني الذي كانت تمر به, أن تجرب آليات فنية جديدة, حتى تظل في بحث دائم عن الجديد بعيداً عن المقرر والمعروف والممهد. وهذه الشعرية - في بحثها عن الآليات الفنية الجديدة, والمرتبطة حتماً بصيغة توجه مذهبي ما - تعرفت على فنيات مأخوذة من مجالات أدبية أخرى, فظهرت في تكويناتها سمة مهمة, وهي سمة السردية. والسردية هنا لا تعني - وإن تلبست بشيء منها - القصة القائمة على الحكاية, وإنما تعني في الأساس التوجه البنائي القائم على التنامي المتسلسل, أو التوجه البنائي القائم على التشظي, ولكنه - في النهاية - توجه يشير إلى ارتباط الذات الشاعرة بالواقع وبجزئيات هذا الواقع. وكان ضرورياً أن يرتبط هذا التوجه الفني الخاص بتشكيل السردية الشعرية في الشعر العربي المعاصر, بالعناية باليومي, وتقديم إدراك الذات الشاعرة لهذا اليومي وربما كان الاهتمام باليومي جزئية أساسية وشكلاً أساسيا لإثبات طبيعة تحول الوعي من الداخل إلى الخارج, لأن رصد اليومي يجعل الذات تدرك أنه لا وجود لها خارج السياق الواقعي, فطبيعة الذات تتشكل في حدود ذلك السياق. والتوجه السردي المرتبط بالعناية باليومي, توجه أوجدته طبيعة التحول الشعري, التي لحقت بالشعرية العربية بداية من النصف الثاني من القرن العشرين على أقلام رواد الشعرية العربية ممثلة في السياب، ونازك الملائكة, وصلاح عبدالصبور, وأحمد عبدالمعطي حجازي, وآخرين في ذلك السياق. وربما كان صلاح عبدالصبور أكثر شعراء العرب استخداماً لتقنية السردية في صورتها الأولى, فقد ظهرت في ديوانه الأول بشكل لافت للنظر, ففي هذا الديوان تظهر الذات الشعرية متشظية نتيجة اصطدامها بجزئيات هذا الواقع, وهي في تشظيها تحاول أن تقدم وعيا ذاتياً بهذا العالم, وتحاول - أيضاً - أن تقدم سجلاً لهذا اليومي الذي تحياه, من خلال لهاثها المحموم للبحث عن راحة ذاتية, قد تتلبس في بعض الأحيان بسؤال وجودي محموم. وصلاح عبدالصبور, في تخطيطه لأفقه السردي مهموم ببناء إطارات سردية, وتشكيل نماذج إنسانية بشرية نلمسها يقيناً في حياتنا, وهو في ذلك السياق متأثر إلى حد ما بتنظير "لوكاش" للنمط الإنساني.ويجيء الشاعر العراقي "سعدي يوسف" - وهو أحد شعراء الستينيات بحسب تقسيم الأجيال الأدبية - رمزاً مهماً لذلك التوجه الفني القائم على تكوين البنى السردية, ولكن سعدي يوسف في تشكيله للبنى السردية لا يقف عند حدود اليومي, الذي قدمه صلاح عبدالصبور في إطار علاقاته المتشظية بالواقع, وإنما بدأ - وإن اعتمد على اليومي أيضاً - في تصوير حالة سردية لذلك الصراع الداخلي بين الإنسان والشاعر, وذلك في ديوان: "الأخضر بن يوسف ومشاغله". ففي هذا الديوان تتجلى البنى السردية في إطار صراع خاص بين الشاعر الموجود والمتواري بين الإنسان الكائن المادي الملموس. وفي إطار تلك الثنائية السردية الخاصة, تتشكل ملامح ثنائية أخرى تتمثل في الحضور الممثل في الإنسان والغياب الممثل في الشاعر, والشاعر - بالرغم من الغياب - يستطيع أن يكون مسيطراً, ويستطيع أن يخطط, بل ويؤثر في علاقاته بالآخرين, وجعله إنسانا لا يستقيم مع التقاليد. يقول سعدي يوسف على لسان الإنسان في وصف الشاعر الذي يسكنه: "يرافقني في زيارة محبوبتي - يدخل قبلي - يقبلها في الجبين - وإذ أرسم الرغبة المبهمة - وسائد أو منزلاً - يرسم الرغبة المفعمة".إنه صراع سردي بين الإنسان المرتبط - حتماً - بالآخرين, وبلغة التواصل العادية والمعهودة, والشاعر الذي لا يقيم وزناً لتلك الأشياء, ولا يقدم كبير عناء لهذه التقاليد, التي لا تستقيم مع رغباته المحمومة.ولكن هذا التوجه السردي الخاص القائم على الصراع بين الإنسان والشاعر, في شعر سعدي يوسف, وإن أثر على بعض الشعراء وخاصة أحمد بخيت في قصيدته: "الظل الثالث" بدأ وهجه يخفت تدريجياً, وأصبحت سمة السردية لدى سعدي يوسف تأخذ منحى جديداً, خاصة في ديوانه "خذ وردة الثلج خذ القيروانية" فقد أخذ الشاعر يبحث عن الشعري في العادي والمعيش, ويحاول أن يشعر المتلقي بجمال هذا العادي وشعريته وسرديته المرتبطة بالحياة بكل رهاقتها.إن هذه السردية, التي رأينا بداية وجودها على يد صلاح عبدالصبور, وتوزعها إلى توجهات عديدة على يد سعدي يوسف ورفاقه, انطلاقاً من الإيمان بالفلسفة التي شكلت حدود الواقعية, أصبحت تتوارى تدريجياً تحت تأثير التوجه الجديد كحركة الحداثة على يد شعراء السبعينيات, الذين كانوا يبحثون عن التشكيل الفني ويتغنون به, ويرون أن معظم الشعراء السابقين عليهم يدورون في مرآة الأسلاف دون قطيعة حقيقية مع الواقع الشعري السابق. وقد أثر هذا على البناء السردي في الشعرية العربية نتيجة للإيمان بالتشكيل الفني, وحدة الإيمان بالمغايرة.ولكن هذه المغامرة الفنية التي وجدنا صدى لها لدى شعراء السبعينات في الوطن العربي على امتداده, ما لبثت أن هدأت وأصبح معظمهم مسيجين بإطار مؤسسة ثقافية, بالإضافة إلى نضوج تجربتهم, فأخذت تقلل من ثورة خروجهم عن المتعارف والمعهود.وأخذت السردية الشعرية بعد ذلك مناحي جديدة على أيدي شعراء ينتمون إلى أجيال لاحقة, وإذا أخذنا نماذج من الشعراء السعوديين, فسنجد أن هناك شعراء شباباً مهمين في ذلك السياق مثل محمد حبيبي, وعيد الحجيلي, ويحيى خواجي
No comments:
Post a Comment