Wednesday, January 18, 2017

 تعدد الأصوات ومقاربة الواقع الإنساني
في ديوان (هكذا تكلم الكركدن)
                                                      عادل ضرغام

        في ديوان(هكذا تكلم الكركدن) للشاعر رفعت سلام هناك مواجهة خاصة مع الواقع الفردي والجماعي، مواجهة فنية تتوسل بمحاولة استعادة فاعلية الأسطورة، ودمجها في سياقات تاريخية وآنية تستند إلى وعي بوليفوني، وهذا الوعي المتعدد يبنى على رؤية، وليس على ألاعيب ساذجة كما يفعل البعض، فالإنسان لا يقارب العالم بطريقة خطية، وإنما يقاربه في ذات اللحظة بذاكرة منفتحة ممسوسة بالماضي الفردي والماضي الجماعي، وهذه الذاكرة المنفتحة تشارك في طريقة المقاربة والاشتباك، فنص المتن يتجلى في امتداده، ولكن نصوص الهامش الموضوعة في أعلى الصفحة أو في أسفلها، تشكل وقفة افتتاحية قبل القراءة، كما في الهامش الموضوع في أعلى الصفحة، وتشكل وقفة تجعلنا نعاين الأفعال الباطنية المترسبة، وتعمل عملها في تحديد وجهة المتن وطريقة تجليه.
        والمتن والهوامش في ظل ذلك التصور يتنافران ويتكاملان، ولكنهما يتجاوبان معا لمعاينة ذلك العالم الذاهب للاندحار والتلاشي، بالرغم من تكراره بنمطية تاريخية ثابتة، وكأن ديوان (هكذا تكلم الكركدن) يتماس مع تشكيل هوية للمحبطين المنهزمين، الذين يتعاظمون على الهزيمة في كل سقوط، ويحاولون التسامي على ذلك العالم المنحط الذاهب لتلاشيه الذاتي، من خلال فقدان المجموع لصوتهم الكاشف عن هويتهم، واندحارهم تحت سطوة قاهرة، لا تمل اللعب بالمصائر، وتنتشي بالموت والقتل والانتهاك.
        يبنى الديوان على أسطورة( الكركدن)، أو وحيد القرن، الذي يحب المرأة العذراء، فيمتنع عن تلبية كل أشكال الإغراء، وينتهي إلى تلك المرأة ناسيا ضراوته، ويستسلم فتسلمه المرأة العذراء إلى الصيادين الذين يمزقون جسده، ويأخذون قرنه، الذي يستخدم في علاج العقم عند النساء والرجال.
        هذا هو المستوى النمطي أو المادة الخام، ولكن رفعت سلام غير في ملامح الأسطورة، ولم يبق إلا على خطوطها العريضة، فالكركدن- الذي يمثل الضحية في مقابل العذراء الفاختة الكذوب- تحول نفسه إلى جلاد يمارس البطش واللعب المرضي المشدود إلى غياهب وتشكيلات عالم نفسي موغل في المرض والنقصان، وتتحول العذراء- والحال تلك- إلى ضحية لكل أشكال وأنماط ومرايا الكركدن عبر التاريخ، وهنا تنتفي عنها صفة العذرية، وكأنها في كل تجل من هذه التجليات العديدة للانتهاك عبر الأزمنة المتوالية، تصنع غشاء عذريا من الحلم والانتظار لمخلص لا يتحقق، إلا من خلال فعل المراقبة، وتثبيت العين على نقطة بعيدة في الأفق البعيد.
        يتجلى الديوان في إطار تعدد صوتي، وفي داخل كل صوت هناك تعدد داخلي خاص بفئة المراقبين، فقد يكون المراقب صوت الشاعر، الذي يمتلك شهوة إصلاحية ومسئولية التضحية تجاه العالم، وقد يكون صوت المجموع الذي ينقل لنا وقائع الكارثة وحركة السبي والفرار في لحظات السقوط والانتهاك، بالإضافة إلى صوتي الكركدن والعذراء الساردين الأساسيين في الديوان.
صوت الكركدن
        يأتي صوت الكركدن في الديوان كاشفا عن القوة الهادرة بالجهل، حين تبلغ أقاصي لعنتها وتبددها، إلى ذات جوفاء، نتاج مخيلة مملوءة بالوهم والعجز، مشدودا إلى حتمية اللقاء، بعد أن أسدل النص الشعري ارتكانه إلى رؤية مغايرة للأسطورة، فهو ليس مقلدا للسابقين الذين سبقوه، في إطاره النمطي(هولاكو-هتلر-الحجاج- موسوليني- بيونشيه) فلم يستند إلى خطاهم، فهو على حد تعبير النص الشعري:
      (أنا أصل السلالة، والكل ظلال باهتة
      أنا اللحظة المارقة الفارقة
     استعاروا قامتي وسيرتي، سلبوني مني، ارتدوا قناعي الذهبي
     في غفلة من الزمن)      
        تنطلق رؤية الكركدن لذاته من التفرد، وغياب المواجه المناظر، ومن ثم تبدأ غطرسة القوة بالالتحام بالإله، وتتجلى قدرته غير المحدودة في الفعل والفاعلية، قد تزيد في منطق النص الشعري(انفلت إلى ضفة ما خطرت ببال العرافين، لا ينالها لاهوت ولا ناسوت). ويشدنا النص الشعري في إطار ذلك إلى العبث واللهو، حين تكون القوة موجودة ومسيطرة بيد طفل، وهذا يكشف عن غياب المعرفة، من خلال الإلحاح على تجمع جزئيات مثل (القوة / الملل/ الطفل/اللعب):
        أعابث الزمن
       أراوغه، أروغ منه إلى أن يصيبه الوهن، أقطع الخيط الواصل بيننا حرا
      طليقا بلا رسن، أنا المفرد الفرد، الواحد الأحد الوحيد وارث البلاد
      والعباد
                     أنا الأبد
   والكون كرة سقيمة في يدي.
        في حدود تشكيلات الأنماط الأربعة(القوة-الملل- اللعب- الطفل) تتشكل ملامح الخراب، السلطة المطلقة التي تقمع المجاورين لها، تحيلهم إلى خدم وحشم، ومن ثم تتحرك هذه السلطة دون معرفة تهدهد طغيانها المطلق، أو تسلط ضوءا ينير لها الطريق، فتصل إلى مشهد الافتضاض، الذي يفتح الدلالة لتغادر العذراء طبيعتها المادية، فهي ليست عذراء، فقد افتض عذريتها أناس كثيرون قبله، وتسلم قيادها إليه، من خلال عكس ملامح الأسطورة.
        ملامح التشكيل الخاص بالكركدن من خلال المرايا أو الدفقات النصية المتتابعة، بعد طقوس الافتضاض والانتهاك تتجلى في إطار الفرادة والديمومة والاستمرار والمعرفة، ويتحول إلى إمام تصلي خلفه الكائنات سورة الغاشية.
صوت العذراء
      إذا كان كسر المتوقع أو التغيير في ملامح الأسطورة حاضرا فيما يخص الكركدن، فإنه ياتي أكثر حضورا مع العذراء(لست أنت أنت، ولا أنا أنا)، فهي ليست العذراء التي تتولد لها صورة لحظة النطق بهذه اللفظة، وقداستها تبنى من المتخيل النموذجي، بالرغم من العابرين على جسدها.
        ففي الموجات المتتابعة أو المرايا المتفرقة ما يخرق الصورة النمطية للأسطورة، وبشكل قد يكون أكثر دقة ما يجدد سماتها، ويجعلها تنزاح بشيء من المغايرة أو تتجلى بشكل معكوس، فالهزيمة في ذلك الإطار ليست هزيمة الكركدن، وإنما هي هزيمة للعذراء الفاختة، التي لم تدرك وعورة الطريق، ويأتي قطف الوردة كاشفا عن ذلك، وكأن العذرية- بوصفها مظهرا دلاليا- تتجدد مع كل كركدن، ومع كل توجه ينتهك عذريتها.
        صوت العذراء يأتي في بعض التجليات النصية محددا الملامح التاريخية للجسد، وهذا المسح التاريخي يند عن التصور الواقعي المباشر، ويجعل دلالتها مشدودة إلى البعد المعرفي المراقب عبر مرور الأزمنة، فتتجلى ملامح الأسطورة المعكوسة من الفاعلية إلى الانفعال، من القاتل إلى القتيل، من العذراء إلى الثيب، وتلح صورة الشياه بوصفها رمزا دالا على الجماهير، في كل بقعة من بقاع العالم.
        ولكن تحديد أصناف الكركدن في لحظات زمنية سابقة(أكانوا التتر أم المغول أم قبائل الشمال البعيد البعيد؟)، قد يشد النص الشعري إلى دال مباشر محدود، ولكن قيمة نص رفعت سلام تتمثل في توسيع زاوية الرؤية، وتجسير العلاقة بين ما هو واقعي مباشر إلى ما هو إنساني عام في تجليه العميق، فيغدو الكركدن- والحال تلك- صورة لكل قوة غاشمة، تتوسل بإسدال الخوف من القادمين لترسيخ جذورها، وتوطين بطشها، وجعله مشروعا، ومن ثم ياتي صوت الهامش:
       كانوا- كما قال كفافيس- حلا ما، والآن ماذا سأفعل، ماذا سيحل بي
       بلا برابرة؟ تلك هي المشكلة.
الصوت الثالث:
        هذا الصوت قدم في الديوان بشكل كتابي مغاير، ويشعر المتلقي في مرايا هذا الصوت، أنه صوت المجموع المراقب والشاهد على الكارثة، على فعل السبي والفرار، كما في قول الشاعر:
        نحن نساء المدينة المغدورة
        ساقوا رجالنا في الليل
        وخلونا في العراء
        لا قطرة ماء
        لا كسرة ظل أو ضوء
        نحن نساء المدينة المغدورة
        فهذا الصوت يطل وكأنه صوت يعبر عن السقوط، وعن السبي والفرار، وحضور البوم، الذي أصبح غيمة على الروؤس للتعبير عن الحال الآنية قبل ظهور الكركدن، فالكركدن لا يتخلق من فراغ، وإنما يستند استيلاده إلى عمق الكارثة، ومن ثم تتساوق ظروف عديدة للمشاركة في استيلاده، وتنصيب قوته وبطشه، فهذه الحال من الضياع التي يعبر عنها صوت النساء في لحظة السبي حال سابقة لوجوده، وسابقة لحال الافتضاض المجازي الذي لم يحدث بعد.
        إن الصوت الثالث ليس صنفا واحدا، وإن كانت كل الأصناف ترتبط بفعل المراقبة، وكأن المراقبة فعل سكون وتسليم. من هذه الأصناف صوت الشاعر حين يصفى من الأصوات الأخرى، يأتي كأنه الشاهد أو المراقب الإنساني الفاعل، الذي يحاول أن يثبت أن للإنسان دورا في تغيير التاريخ والواقع المطبقين عليه.وفي إطار البحث عن ذلك الدور تظهر تشابهات قوية في الديوان بين الشاعر والمسيح، مما يجعل هذا الدور مرتبطا بالتضحية، كما في قوله:
        إلى أن يصيح الديك صيحته الثالثة، فيسلمني إلى قريني اللدود
        يسرجني إلى الأرض البائدة.
        الشاعر- أي شاعر حقيقي- هو المغني العارف، وما يقدمه معرفة أو نبوءة، ولكن هذه المعرفة أو تلك النبوءة يتم طمسها عمدا، فتقع الكارثة، لأن هناك أصوات مغنين مزيفين يتقنون الغناء المصنوع انطلاقا من معرفة مدجنة تشكل حسب رغبة القوة أو السلطة، فبعد تغييب صوت المغني/المعرفة الحقيقية، من خلال إلقاء العصفور في الجب ورميه بالحجارة- كمعادل تغييب لسبيل من سبل الخروج من الأزمة الطاحنة في قصة يوسف- يأتي صوت التهليل المدجن:
        فيا سيد القلعة العظيمة الموصدة
        لا تفتح إلا للأسلاب والغنائم
        يا وحيد القرن أيها الكركدن
        لك المجد على ما فعلت
        يا سيد الصمت
        لك المجد على ما أسلفت
        والمجد لك.
        الإشارة إلى تغييب صوت المغني، من خلال حادثة الجب، تمثل تغييبا لنسق من المعرفة، كان كفيلا للخروج من الأزمة أو كارثة الجوع، التي يشير إليها النص الشعري، على لسان الشاعر /المراقب في مرآة تالية من مرايا الصوت الثالث من خلال الإلماح إلى بعض صور المحنة المملوكية(أيادي النساء الحانية طبخت أطفالهن- صاروا طعاما لهن).
        وفعل المراقبة أو التأمل من الصوت الثالث لا يتحرك لمعاينة آثار الكارثة أو غياب المعرفة أو مراقبة أحوال البشر، وإنما يتحرك أيضا لمراقبة الإضافات الأسطورية أو الشعبية(للكركدن)، بعد فعل الانتهاك الاستعاري، وتفصح المراقبة عن صورة تغادر النمطي لتلتحم بالشعبي بفعل غياب المعرفة بوصفها إدراكا ديناميا للواقع المحيط بأنساقه العديدة( ما علمني أحد..ما قرأت شيئا..عدوي اللدود القراءة)، فيطل من خلال هذه الصورة التقديس والتآليه:
        أنت أب لليتيم، أخ المطلقة، ساتر من لا أم له
        يا دفة السماء 
        يا سارية الأرض، وخيط المطمار
        لا تقل الكذب لأنك الميزان
        لا تخطئ لأنك الصواب.
        إنه صوت البطل التراجيدي المتأمل، الذي  يبدو شاهدا على الانتهاك، ويراقب نتائجه، هو الكائن الفوقي يأتي بوصفه بطلا في سبيل أمته، ومن هنا كان الإلحاح على صورة المسيح حاضرا، ولكن فاعليته ظلت واقفة عند حدود مراقبة التفسخ والتحلل، فيتحول الجميع إلى رهائن في البلد الخراب:
        رهائن نحن في البلد الخراب
        غنيمة حرب بلا حرب أو معركة
        سبايا تحاصرنا الأسلاك الشائكة
         ما يقدمه رفعت سلام في الصوت الثالث بصنفيه هو الوعي المتعالي، الذي يراكم ويقارب التفسخات الواقعية، وهو وعي ناتج عن التفاعل الإدراكي المشدود إلى معرفة، وإلى قراءة التاريخ الحضاري الإنساني، مما يفتح دلالة الكركدن في بعض الأحيان إلى قطب وحيد لا يبصر بعينيه، وإنما يبصر بقرنه الوحيد المعبر عن موطن وفكرة القوة أو السلطة في انتهاكها وجبروتها السقيم، فكأنه يقارب الكركدن الأعظم، الذي يحيل نماذجه في كل مكان إلى صور ومرايا عاكسة لوجهه.
الصوت الرابع الهامش
يمثل الهامش في ديوان(هكذا تكلم الكركدن) صوتا رابعا، وتتعدد أشكاله في إطار قسيمين كبيرين، الهامش العلوي، والهامش الموضوع في أسفل الصفحة.وقد تكون وظيفة الهامش- بوصفها وظيفة أولى- تبصير المتلقي، وتحديد صوت من الأصوات العديدة، وتأتي الوظيفة إجرائية هنا، فالهامش في أعلى الصفحة لم يأت إلا مع صوت الكركدن، وهو هامش له وظائف أخرى بعيدا عن وظيفته الإجرائية الأولى، منها توجيه أفق التلقي بالتجاوب أو التناقض مع متن النص الشعري، وفي أغلبها هناك عودة إلى التصوير التراثي للكركدن في ثقافات عديدة، سواء أكان هذا التصوير حقيقة خالصة، أو حقيقة تم الاستناد إليها لتطفو الأسطورة نافذة فاعلة.
        واعتبار الهامش صوتا شعريا في إطار التكوين البوليفوني للديوان له ما يبرره شعريا، فقد حافظ رفعت سلام على نقاء صوته الشعري في هوامشه العديدة للديوان، حتى الوظائف التفسيرية-بوصفها منطلقا أساسيا- لم تأت في إطار تفسيري فقط، وإنما كانت محملة بالرؤيا والفن، فالقارئ في بعض الأحيان يشعر بتحولات مكانية بين المتن والهامش، فتارة يصبح الهامش متنا، وتارة يتجلى المتن بشكل مغاير نتيجة لقراءة الهامش معه في آن.
         ولكن أهم ما في الهامش بعيدا عن وظائفه التفسيرية، إنه يعيد المتلقي إلى لحظات وتجليات سابقة لرؤية الشاعر، وهذا يجعل مشروع رفعت سلام مشدودا إلى جذر معرفي منفتح دائما للتطوير، والإضافة والمغايرة.وتجلياته في هذا الديوان ليست إلا توسيعا لأفق الرؤية، أو كتابة على كتابة فنية سابقة، خاصة مع ديوان (هكذا قلت للهاوية).
        الهامش الموضوع في أسفل صفحات الديوان قد يقدم ذاكرة منفتحة، أو رؤية مغايرة، أو رؤية متجاوبة مع نص المتن، او يقدم مساءلة للتاريخ على لحظات زمنية غير محددة. ومن هذه الهوامش التفسيرية، التي تفسر المعنى، وتنحت توجها دلاليا جديدا، قوله عن الحضيض في سياق نص الشاعر/ العارف /المغني، الذي يصنع اكنماله وتوحده بالخيال:
الحضيض قاموسيا ما سفل من الأرض، نهاية سفح الجبل، أدنى منزلة القمر، وهي كلها تعريفات ذات طابع سلبي.
أما حضيضي، فهو مغاير، حضيضي الحنون، أمي الرءوم، نعيمي المقيم .إلخ.
وقد يكون الهامش تفسيريا كاشفا عن رؤية مباينة، ففي نصه، يصور الاصطفاف المشدود إلى الديني أو إلى الشعبوي في ضلاله المدجن بتمثيلات النخبة، نجد المتن يقول:
يا قوم اصطفوا خلفي صفا منتصبا (لا يغفر الله للصف الأعوج) يصطفون محتكين بالردفين العظيمين ويشتعلون بلا دخان كهشيم أو عصف مأكول)
ولكن الهامش يقدم رؤية مغايرة، فهذا الاصطفاف، الذي قد يكون دينيا أو شعبويا اصطفاف مملوء بالتنافر، لأنه اصطفاف قائم على قهر السلطة سواء أكانت سلطة دينية أو غيرها، يقول الهامش:
قوم من شهوات ونزوات متنافرة، تفتقر إلى الاتساق المنهجي أو البنيوي، وربما كانت التفكيكية اصلح النظريات لمعالجتها تحليليا، وكشف أبعادها، طالما أنها مفككة بامتياز.
        فمعاينة الفرق الواضح بين نص المتن ونص الهامش تكشف عن رؤية مباينة متناقضة، رؤية تهدم هذا الاصطفاف من داخله فيحدث التعري، من خلال عيني المبدع /العارف المشدود إلى المثقف، الذي يبحث عن فاعلية، ومن ثم يتجلى الواقع المتفسخ من خلال الإشارة إلى( الكلاب والقطط النافقة الضالة)، ويأتي فعل معاينة صورته في المرآة-التي تأتي دائما في الديوان مجاورة للمرأة-لإثبات الحضور والوجود، وفعل المضاجعة لإثبات الفاعلية بوصفه فعلا تعويضيا نتيجة لعجزه أمام كيان لا تنفع مواجهته إلا بالتسليم.
        في ديوان(هكذا تكلم الكركدن) يؤدي الهامش دورا وظيفيا جديدا، وذلك من خلال الاتكاء على الهامش لإعادة قراءة نصوص سابقة للشاعر نفسه، وهو توجه وجدت له مشروعية بعد كتابي (قلق التأثير) و(خريطة للقراءة الضالة) لهارولد بلوم، فتغدو النصوص في ظل هذا المفهوم الواسع للحوار إساءة قراءة لنصوص قديمة، نطلاقا من مغايرة السياقات الحضاية.
        ففي نص المتن يقول:
        آن أن أعترف أني كذبت عليكم حين قلت إني(وردة الفوضى الجميلة)، وأحيانا (غيمة في بنطلون)
        وفي نص الهامش:
        هكذا زعمت في بعض قصائدي، فصدقت نفسي كعادة الجميع
        وحين نظرت اليوم في المرآة، لم أعثر على (وردة) أو (غيمة)
        فاكتشفت الخديعة المريعة، وبكيت ضياع الوهم الجميل، في مرثية قادمة)
         هنا يقوم الهامش بوظيفة الإلماح إلى تطور الرؤية لدى الشاعر، وكأنه يلفت الباحثين والنقاد لاكتشاف مراحل تطور الرؤية الشعرية، والتنبه لمراحلها من فترة زمنية إلى أخرى، ففي الرؤية الأولى المشار إليها تأتي مساحات الحلم واضحة ذات وجود فاعل، بينما تأتي الأخرى الجديدة الآنية كاشفة عن ضياع هذا الحلم والارتطام بالواقع بعد فعل الاشتباك والنزال، واللافت للنظر أن المرآة والمرأة هما الكيانان اللذان يقيس من خلالهما مساحة الاقتراب من المتخيل النموذجي للذات وللمجموع الذي ينتمي إليه، وكأنهما أداتان كاشفتان لقياس حجم المتحقق والمتأبي عن التحقيق، أو لضياع النموذج المتخيل كلية، أو للانتقال لنموذج جديد إذا تحقق النموذج القديم.
        إذا كان حضور الهامش سواء أكان موضوعا في اعلى الصفحة أو في أسفلها يحمل دلالات عديدة، فإن غياب الهامش عن صوت من الأصوات الأربعة المشكلة للديوان يعتبر غيابا له دلالة مشدودة إلى الرؤية الفكرية للديوان، فغياب الهامش بنسقيه عن صوت المجموع يكشف عن عدم فاعلية هذا الصوت، فالمجموع نفسه يشكل هامشا، في إطار فكرة هيمنة صاحب السطوة، أو يمكن تفسير الهامش في كون هذا المجموع ترك صوته في إطار فكرة التمثيلاتت للآخر الوكيل، الذي يمكن أن يكون الشاعر صاحب المعرفة المفقودة، أو الكركدن صاحب السلطة.
       

       

No comments: