السردية النقدية
طبيعة المصطلح والتجليات
عادل ضرغام
كان لاشتغال وتفعيل مصطلح الخطاب دور مهم في إعادة النظر وتقليب الأشكال الإبداعية والعلمية وفق تحديدات هذا المفهوم، لأنه أعاد- أو جعل الباحثين يعيدون- اكتشاف مكونات واستراتيجيات كل خطاب داخل كيان واسع، بحيث يبدو هذا الكيان الواسع أشبه بالإطار الذي يحتوي ويستوعب كل التحويرات التي يوجدها ويؤسسها كل شكل كتابي ارتباطا بهذا الكيان الواسع من ناحية، وارتباطا بخصوصية منطلقاته وأسسه التي يؤسسها في حركة مستمرة من جانب آخر.
ولم يعد القارئ يشعر بالدهشة داخل الحيز الأدبي بتجلياته العديدة مطالعة مصطلحات مثل (الخطاب الروائي)، أو (الخطاب الشعري)، أو (الخطاب النقدي)، فمثل هذه المصطلحات تشير إلى فاعلية الخطاب، وفي الوقت ذاته تشير إلى تلوينات وتحويرات الأشكال الكتابية، سواء أكانت مشدودة للفنون، أو مشدودة إلى المناحي العلمية. يتوجه اهتمامنا إلى معاينة ارتباط الخطاب النقدي بالسرد، أي بوصفه خطابا سرديا، يمارس دائما تأسيس مرتكزات وتحولات انطلاقا من نظرة إطارية للبناء العام، وارتباطا بنظرة مجهرية تحاول التركيز على النقلات والتحولات الجزئية التي تحدث داخل كل كتابة نقدية.
هناك بالضرورة آثار ونتائج سوف تترتب على هذا التوجه الذي نادرا ما يتمّ الالتفات والانتباه إليه، لأن استناد الخطاب النقدي على الآليات السردية يتكوّن في شكل متوار غير ملحوظ. فالبحث في هذه الجزئية لدى النقاد سوف يكشف عن جانب مهم يرتبط بعقل الناقد وثقافته ومكوناته وتوجهاته المذهبية والأيديولوجية والفنية، ويكشف عن الكيفية التي يؤسس بها وينضد حججه في إثبات مشروعية تأويله، وتنمية هذا التأويل وفق استراتيجيات للحركة والتحول، ووفق الوظائف التي يحددها في إطار فكرة التواصل مع القارئ أو المتلقي.
واعتبار الكتابة النقدية خطابا سرديا سوف يؤدي بالضرورة إلى كشف المرتكزات الأساسية التي يستحضرها الناقد للوصول إلى أهدافه، والكشف عن العقل النقدي وطبيعته وتوزعه إلى انشداده إلى المؤسس القديم من خلال فاعلية طبقات المعرفة المترسبة في ذهنه، أو إلى تطلعه نحو المعاينة النصية المشكلة آنيا محاولا التخلص من كل استلاب يشده للخلف. أما الأهداف التي تحاول الكتابة النقدية الوصول إليها من خلال الاحتماء بآليات السرد بوصفها وسيلة للغايات فهي- كما يشير ستيفن تيفرسن- جدلية وإقناعية وتحفيزية.
واستحضار هذه الوظائف السابقة لا ينفي أن هناك مغايرة واضحة في المقاربة النقدية التي تبحث في الوظائف الجمالية، وفي المقاربة النقدية المتوسلة بالسرد المهمومة بوظائف إقناعية جدلية، فالأولى ترتبط بالتأمل الكاشف عن الثبات، والأخرى ترتبط بالجدل المبطن الكاشف عن الحركة. فالسرد في الأساس قائم على الحركة أو التحول أو الانتقال أو التغيير، وأعتقد أن هذا االفهم البسيط يمكن أن يكون فاعلا في الاشتغال على سرد النقاد في إطار فكرة التحول. فالانتقال من سياق إلى سياق أو التحول من جزئية معرفية إلى أخرى جزء أساسي من السرد النقدي.
إن النظرة إلى الخطاب النقدي على أنه خطاب سردي تستحضر مجمل الوظائف المشدودة للتواصل والتأثير في القارئ، من خلال أساليب وآليات السرد التي يتذرع بها الخطاب النقدي. فالكتابة النقدية في ظل ذلك الفهم تستحضر من الوسائل ما يجعل كتابتها مقنعة من جانب، ومؤثرة من جانب آخر في القارئ أو المتلقي، خاصة في الجزئيات التي يتمّ الاختلاف والتنازع حولها. وعلى هذا الأساس فإن الخطاب النقدي- حين يتمّ اعتباره خطابا سرديا- يفترض وجود تحوّل وتحوير في طبيعة السرد نفسه، فهذا السرد لن يكون- كما نجد في الفنون السردية المعهودة- مشدودا إلى الشخصيات والآليات المستقرة، ولكنه يأتي مشدودا إلى تجل خاص توجبه وتحدد ملامحة طبيعة الخطاب النقدي، فهو تجل جزئي تدريجي مرتبط بحركة المعنى النامية في النص. فكل شيء في الثقافة- على حد تعبير ميكي بال- له شكل سردي أو يمكن تفسيره بوصفه سردا.
السردية النقدية
لكي نحدد دلالة مصطلح السردية النقدية نحن بحاجة إلى توسيع مفهوم السرد، ليصبح مرنا مشدودا ومرتبطا بالغاية التي تحاول الكتابة النقدية الوصول إليها. فالسرد في الخطاب النقدي لا يبقى على حاله المعهود، فالحركة أو الانتقال لا تتعلق بشخوص ولا أحداث، ولن تكون واضحة تمام الوضوح، بل على العكس ستتولّد هناك ظلال من الغموض ترتبط بذلك الشيء الذي يراد تجذيره داخل مجال بعيد عنه للوهلة الأولى. ولهذا يحلّ مكانها انتقال من فكرة إلى فكرة في سياق التواصل والإقناع للقارئ أو المتلقي. فالناقد في كتابته لا يتعامل مع حدث أو شخصية، وإنما مع أفكار أو مناح معرفية يؤسس لوجودها، أو يضرب بعمق في مرتكزاتها ليقوّضها.
يصبح استخدام السرد في الخطاب النقدي استراتيجية تحليلية، فاختيارات الناقد- سواء في حركته وارتداده إلى فاعلية وحضور أنساق قديمة أو أطر فنية أو في تطلعه لمعاينة نصه قيد التشكل- تصبح جزءا من تجل سردي له مشروعيته. فدراسة الخطاب النقدي- بوصفه سردا كما يقول ستيفن تفرسن- ترتبط بمعاينة العناصر السردية المتأصلة أو معاينة الأفعال التي تهدف إلى الإقناع أو غير ذك من الغايات المحددة.
في النقد الأدبي يأخذ مفهوم السرد معنى مختلفا يتأسس وفقا لنوعية الكتابة وطبيعتها الحاكمة والمهيمنة، فالنقد أقرب إلى الخطاب الشارح المشدود والتابع إلى خطاب آخر، ومن ثم فكونه خطابا شارحا يمارس تأثيرا في استراتيجيته السردية الخاصة ومنطلقاته في إثبات مشروعيتها من خلال التأكيد عليها. فالسردية النقدية موزعة بين منطقين: منطق النص الذي يشكل مجال الاشتغال وبنيته، وما يوجده من إحالة إلى سرديات سابقة، ومنطق الناقد الذي لا يقارب النص وهو خال من ثقافة وتكوين خاصين، ولكنه يقاربه وهو مملوء بقراءات سابقة، وقناعات فنية مؤسسة، ومرتكزات أيديولوجية لها تأثير بالضرورة في آلية الاقتراب والحركة، وفي اختيار- أو إهمال- الجزئيات التي يستند إليها لتحبيك مقاربته النقدية. ومن هنا تتشكل الخصوصية السردية في الكتابة النقدية، بكونها مشدودة إلى ثنائية أساسية.
يتشكل طرفا الثنائية من المؤلف بنصه وبنيته المتشكلة آنيا لحظة القراءة، حيث يظل حاضرا وليس بحاضر في الآن ذاته، والناقد الذي يمارس سطوته من خلال التغييب والتركيز في تشكيل سرديات عديدة تساعده في الدخول إلى عالم النص من خلال انعطافات وارتدادات محتمية بوسائل تحاول أن تغيبها وتمنعها من الظهور، ولكنها تتجلى عند التأمل الدقيق، فيستطيع القارئ أن يكتشف هذه الوسائل بمنطلقاتها المتوارية مع كل حركة، وكل تقدم، ومع كل ارتداد، ومع كل محاولة تقوم بها الكتابة النقدية لتوجيه نمو الفكرة محتمية بالمؤسس السابق، أو متطلعة لأفق جديد تنحت في تشكيله.
فالنقد الأدبي في سمته السردي لكونه خطابا شارحا ليس أحاديا في التوجه أو في الحركة في الانتقال من جزئية إلى أخرى، ففي الكتابة النقدية هناك محاولة للكشف عن الآلية أو الكيفية التي كتب بها النص مجال الاشتغال، وكيفية تشكل أجزائه ومنعطفاته، فهو خطاب تابع في توجهه العام، وتابع أيضا في متابعة أسس سردية سابقة التجهيز، لكنه فقط يحولها في تنقلاته وحركته البطيئة إلى حركة أشبه بالحركة الفكرية التي تأتي معنية بطريقة تشكل الأفكار وتمددها تناسب طبيعة التحوير حين يتمّ نقل الاشتغال من مجال إلى مجال آخر، فتتحول طبيعة الحركة من شخصيات ملموسة إلى أفكار مجردة يشكل لها الناقد إطارا مرنا لحركتها أو توجهها. وإذا ظل الناقد محتميا بهذه التبعية، دون أدنى محاولة للتعاظم لتجذير دور معرفي سابق للنص، أو على الأقل يتحد معه أو يجاوره على بساط واحد، سينتج سردية لاهثة تظل تتابع حركة النص موضوع الاشتغال، ولن يكون لها همّ سوى الدوران في أفقه، دون مساءلة أو مقارنة مع سابق أو لاحق.
السردية النقدية تستند إلى وسائل خاصة في بحثها عن تجليات جديدة، تجعل الكتابة النقدية مساوية في حركتها وفي حفرها للكتابة الإبداعية من خلال البحث عن طرق جديدة لمقاربة الفكرة في تجليها على نحو مميز. فالكتابة النقدية بناء مواز للكتابة الإبداعية، بالرغم من كونها كتابة نابعة مشدودة إلى نص تمّ إنجازه والانتهاء منه، ولكنها بالرغم من استنادها إلى هذا المنجز تبني وتؤسس إطارا خاصا في أطره الفكرية والمعرفية، وهذا البناء له آلياته السردية في التشكيل من خلال محاورات الحركة للانطلاق إلى الأمام والخلف، وفي حركتها تؤسس بنى سردية بانفتاحها على بنى دلالية مختزنة، ويبدو حضورها مشدودا وموزعا بين مؤسس قديم، وجديد في طور التكوين المستمر.
ويمكن في ظل هذا التوجه أن نتناول المقاربة النقدية- خاصة المقاربة التي تحاول الابتعاد عن أسر النص موضوع المقاربة، وتختطّ لنفسها إطارا موازيا يتحرك فكريا في حدود النص ومكوناته- كتابا كاملا أو بحثا أو مراجعة نقدية -على أنها بناء يتوسل بالبنى السردية والحجج المستمرة لتأسيس منظوره الخاص، بداية من العنوان الأساسي للمقاربة أو العناوين الفرعية أو عناوين الفصول. يبدو العنوان الرئيسي الموجه لمسار الحركة السردية، لأنه بوجوده في موقعه يصبح مؤشرا مهما كاشفا عن المنحى الفكري الذي يحرك وينمط كل الحيل والوسائل التي تحاول المقاربة ارتيادها.
فالعنوان الرئيسي- وفق التنضيد السردي للكتابة النقدية- يمثل أفق الحركة العام الذي تتوجه إليه وتتشكل في إطاره، وكل الكيفيات التي توجد في نص الخطاب النقدي مرتبطة به ومنطلقة من حدوده. وتبدو الفصول أو العناوين الجانبية مرتكزات أساسية وفقا للتوجه النابع من العنوان الأساسي، فقد تكون ارتكاسية لنفي مؤسس سابق، وقد تكون تطلعية لتأسيس ملامح ما زالت في طور التشكل والتكوّن، وقد تجمع بين التوجهين انطلاقا من فكرة التواصل المرتبطة والمشدودة لكل خطاب على تنوّع وتعدد أشكاله.
فالعنوان الفرعي أو الجانبي أو العنوان الخاص بالفصول ينطلق من إطار عام مقترح يتمثل في العنوان الأساسي، ووظيفته الفعلية تأمين وتأكيد التوجه المقترح من خلال حركة جزئية نحوه، ولتأمين الفكرة والإلحاح على مشروعية الفرضية الموجودة عنوانا للمقاربة، والعمل على مساءلة المؤسسات السابقة، لتجذير توجهه الجديد، في الحركة نحو هدفه، ومن ثم يمكن النظر للعنوان الجانبي أو عناوين الفصول على أنها بنى أو حركة لها استقلاليتها، ولكنها منضوية داخل مسار أكبر يكيفها، تتحد به أو تنفصل عنه في إطار جدل متواز، لا يكفّ عن الإشارة والارتباط بمناح فكرية جزئية، فيصبح -والحال تلك- جزءا من مكوناته ومشيرا إليه وكاشفا عنه.
في إطار جدل التشابه والتباين أو التجاوب والتنافر بين العنوان الأساسي والعناوين الجانبية وعناوين الفصول في إطار التقليم والتقويض والبناء، فنحن أمام حركة سردية قد تنمو في اتجاه واحد من البداية للنهاية، وقد تنمو من خلال انعطافات متباينة، لأن السرد النقدي- مثل أي بنية سردية- ليس أحادي التوجه، لأنه في أحيان ليست قليلة قد يكون مهموما بتقويض نمط فني أو فكري، ومن هنا يحدث التباين أو الخروج الجزئي لتأسيس بناء كلي لا يخلو من تجاوب أو تنافر.
وإذا كنا في الجزء السابق قد أشرنا إلى الكتل السردية الكبرى في الكتابة النقدية من خلال عناوين الفصول، فإن الجزئية الأكثر الأهمية هي الجزئية المرتبطة بالسردية النقدية المتوارية، فهي العملية السردية غير الظاهرة، لأنها تنبع من التوجيه المستمر للفكرة داخل كل فصل من الكتاب، أو داخل كل جزء من البحث. فالكتابة النقدية داخل كل فصل أو داخل أي عنوان فرعي سردية من نوع ما، لأنها مزدانة بكل الحيل التي يستند إليها الناقد في ممارسته النقدية، وفي التأسيس لحركته، وطبيعة انتقاله من فكرة إلى أخرى، سواء تدثر بالذاتي الشخصي فتتشكل سردية قائمة على المعايشة والمعرفة بالمبدع في فترة من الفترات، وكأن الكتابة النقدية باستنادها إلى سردية المعايشة والتجربة تمارس نوعا خاصا من الاصطفاء لخطابها.
فسردية المعايشة والمعرفة- معرفة الناقد للمبدع أو للمبدعين- تؤدي إلى إضفاء نوع من الموثوقية في مقابل خطاب نقدي- أو خطابات- لا يتاح له هذا القرب وتلك المعايشة، ومن ثم تأتي سردية المعايشة محاطة بهالة، وومملوءة بأحكام نقدية وتحديدات قارة لدلالات نصية دون اعتبار كبير لفاعلية البنية ودورها في تنميط الحركة، فسردية المعايشة في مقاربة النص الأدبي نقديا لا تنطلق من البنية، لأنها تحفل بتحديدات سابقة التجهيز، ومن ثم فدور البنية يصبح دورا مخذولا في مثل هذه السرديات النقدية، لأنها تقلل من عطائها التلقائي وتجعلها محصورة داخل الحدث الذي يدركه الناقد من معايشته للمبدع إدراكا خاصا.
الحركة هنا داخل الكتابة النقدية حركة سردية غير منظورة أو مدركة نهائيا، لأنها تتطلب وعيا بثقافة الناقد ومنطلقاته المنهجية والنظرية من جانب، وتتطلب وعيا بوظائف المقاربة النقدية وحركتها بين الإقناع والتأثير، ومن ثم فهذه الكتابة- في حركتها وسرديتها- تمارس توجيها مستمرا، يقلل من شعور القارئ بالحركة، وهذا يتطلب معاينة لكل كتابة، ولكل مقاربة على حدة، للوصول إلى مرتكزات الحركة ووسائلها السردية، ودورانها وتكرارها لدى ناقد محدد.
وهذا قد يوجهنا في معاينة مقاربة النقاد انطلاقا من سردية هذه الكتابة إلى النظر بشكل خاص إلى طبيعة الضمائر المهيمنة في تنوع المقاربة النقدية، وتشكيل أفقها السردي، فتتوزع إلى مقاربة نقدية لا تخلو من حضور الذات وفاعليتها، أو إلى مقاربة موضوعية، تضع- أو توهمنا بوضع- مساحة فاصلة من خلال إبعاد الذاتي وتأسيس الموضوعي اعتمادا على التغييب، مؤسسة حججها من خلاله، لإثبات مشروعية تأويله، وتنمية هذا التأويل، وفق مناح ومنطلقات قائمة على الارتداد، وعلى فعل المقارنة للإشارة إلى مساحات التداخل والاختلاف.
التجليات والمظاهر
النصوص الأدبية في العقود الأخيرة تحولت إلى نصوص غامضة ومبهمة في الغالب، تحتاج إلى مزيد من الاشتغال، وإلى تلمس المداخل التي يمكن أن تكون فاعلة في تمهيد أو تعبيد سبل الدخول إليها، وأعتقد أن الناقد يطل إلى النصوص الأدبية في البداية من خلال سرديات الذات المشابهة لسردية النص، حيث تتجلى أثناء القراءة عمليات إسقاط وانعكاس دائمين بين ما هو نصي وما هو ذاتي معيش.
وعي الذات حين يتعامل مع النصوص الأدبية، يستند إلى سردية متوارية، لا تتجلى بشكل مباشر وصريح، لأن الوحيد الذي يدرك حدودها ومنطلقاتها وتشعبها الناقد نفسه، ولكن يمكن الإحساس بحضورها في تناول النص وآلية تحبيك الكتابة النقدية، وفي الوقوف عند جزئيات معينة. فعدد كبير من إسهام النقاد- وخاصة النقاد التعبيريين الذين لا يلتزمون بالمنهج التزاما حرفيا- يستندون إلى تجارب الذات السردية في تعاملهم مع النصوص استنادا إلى تجارب ذاتية، وإلى حضور الذات ووعيها. وحضور الذات يأخذ أشكالا مختلفة، ربما يتجلى أولها في حضور ضمير المتكلم بوصفه خيطا ينظم حركة المعنى النامية في النص أو الكتابة النقدية.
وحضور الذات بسرديتها المتوارية لا ينفي الموضوعية، ولكنها موضوعية ممسوسة بقصص وحكايات لا نعرفها، ولكننا نشعر بدبيب حضورها وفاعليتها من خلال بعض الكلمات الدالة مثل (أعتقد)، و(أرى)، ويتحول وعيها في النهاية إلى وعي لا يستقصي البنية إلا بقدر اشتباك هذه البنية مع سردية ذاتية مختزنة.
وقريب من استخدام ألفاظ وتعابير كاشفة عن وجود الذات الناقدة بوعيها، يمكن أن نتلمس جانبا سرديا آخر، يتجلى في إطار نسق جمعي، حيث يستند الناقد فيه إلى سرديات مشترك إدراكي إنساني عام. تحيل الذات الناقدة إلى سردية مؤسسة في تناولها النقدي، لأن الفنون- بعيدا عن اختلاف أشكالها وأعراق منتجيها- تستند إلى مجموعة توجهات مثالية جاهزة مرتبطة بالنمط الإنساني العام في صناعته للقيم، خاصة حين يتعلق الأمر بمفاهيم مجردة متعالية مثل الزمن والعدل والحب والخير والجمال. فهناك سرديات جاهزة لهذه القيم، أصبحت بتكرار الإلحاح عليها أيقونات سردية تمارس دورها في تلقي النصوص، ويمكن أن نضرب مثالا على ذلك من خلال فكرة الزمن والتفسخ والتحلل الملازم لكل شيء، بداية من مسرحية روميو وجوليت حين قال عن مربية الأخيرة (إن أصابع الزمن اللعين قد أحاطت بخاصرة الظهيرة)، وكيف تمّ تناول هذه الفكرة بسرديتها في نتاج النقاد، وكيف حدث لها إحلال تدريجي لتؤدي دورها في تنميط نسق آخر يرتبط بالحب وليس بالزمن، فأصبحت دلالات الفصول دلالات قارة، مما جعلها تتحول إلى سردية جاهزة صالحة للعمل النقدي في التجلي الغربي والعربي.
هناك نمط ثان أو مظهر آخر من السردية يتمثل في المحكي السردي، فسرد القصص في الكتابة النقدية، لا يأتي عاريا من الدلالة، ولكنه وثيق الصلة بالإقناع والتوجيه نحو المنحى الفكري، ويتجلى ذلك واضحا في كتابات الجاحظ في محكياته ومرويات رسائله، فمن خلال هذه المحكيات التي تتسرب في هدوء، والحكي وحركته غير المنظورة إلى القارئ في صورة حكاية منقولة يستطيع أن يقوّض أنساقا مطبقة، ويعطي لغيرها مشروعية الوجود والتداول. فسرد القصص أو المحكيات في الكتابة النقدية يأتي وكأنه ممارسة حجاجية لا تكفّ عن التعرية والتوجيه نحو مشروعية الطرح الفكري الناتج عن اختيار قصة أو حكاية حيث يشكل منعطفا سيميائيا في هذه الكتابة النقدية، يمكن أن يدعم وجهة النظر في بناء توجه تأويلي محدد، أو تأكيد وإعطاء المشروعية لهذا التأويل.
ويقترب من سردية المحكي سردية المعايشة والمعرفة في تجليها الواضح، بمعنى أن يقص الناقد أثناء مقاربته النقدية شيئا عن تجاربه المشتركة مع المبدع ومعايشته له في فترات زمنية من حياته. وهذه السردية قد تعطي إحساسا بمعرفة مختلفة ذات خصوصية، لأنها أتاحت للناقد معرفة ومعايشة تجارب لم يعايشها النقاد الآخرون الذين لم يتعاملوا سوى مع النص مكتوبا، فالأول منفتح على معرفة قد تتيح له تأويل البنية من خلال الإحالة على الحوادث والسياقات الحضارية المولدة للنص، والأخير ليس لديه سوى بنية لا تحيل إلا إلى دلالات نصية.
سرديات المعايشة قد تحمل نوعا من السلطة، لأنها- بالرغم من كونها تقص حركة التأويل الحر التلقائي- تحمل نوعا من الاصطفاء والموثوقية والمعرفة. إن نظرة فاحصة إلى إسهام النقاد الذين ارتبطوا بمبدعين من خلال الارتباط بنصوصهم، وكأن هناك نوعا من التوحد في الصوت الشعري والصوت النقدي، تثبت مشروعية ذلك الفهم في انطلاقه من سلطة سردية المعايشة التي تحمل نوعا من اليقين بالفهم الدقيق أو اصطفائية التأويل الذي يمكن أن يكون محدودا، لأنه يحيل النص ليظل- وهذا ضد طبيعته- مرتبطا بحادثة أو سياق.
وربما تكون من الجزئيات السردية الفاعلة في منتج النقاد في ارتدادهم إليها لفهم النصوص، ولفتح كوى للولوج إليها، جزئية السردية الأسطورية، لأنها تحيل إلى بنية سردية جاهزة من جانب، وتحيل إلى أسئلة الوجود والتساؤلات المستمرة من جانب آخر. وفي تعامل النقاد معها ندرك أن هناك مساحات شاسعة للحركة والاشتغال، إما بالوقوف عند حدودها وطبيعة استخدامها في كونها تساعده على تصوّر النص وفهمه وفك حجابه، أو بالوقوف عند الفارق الحيوي في وجودها في إطار مادتها الخام البدائية، أو في إطارها النصي الذي يغيّر في طبيعتها ويحوّر في بنيتها. فالسردية الأسطورية في تناول الناقد ليست ساكنة، ولكنها متغيرة من نص إلى نص في تجليها طبقا للمناحي الفكرية، وللبناء النصي العام الذي يغيّر في طبيعتها، لأنها تصبح- في السياق النصي- بنية جزئية تتجاوب وتتساوق في تشكيل بناء نصي.
وثمة سردية قد يكون لها الحضور الأكثر أهمية في كتابات النقاد المعاصرين، وهي السردية المستندة إلى ذاكرة منفتحة وإلى ثقافة دينامية متحركة. فالذاكرة تحيل إلى الشبيه والنظير، وفي الوقت ذاته تحيل إلى المباين أو المغاير، وذلك من خلال التركيز على مجموعة التوجهات أو الفصائل الإبداعية التي تتشابه أو تتباين في منطلقاتها المعرفية بالرغم من اختلاف الأزمنة والسياقات الحضارية، فتصبح هذه السردية في حركيتها وانتقالها من آني إلى سابق من أهم الوسائل الفاعلة أو الحيل التي يتذرع بها الناقد لبناء نصه النقدي، وجعله إطارا مملوءا بالتشابهات والاختلافات والإضافات.
في سردية التشابه والتباين هناك مسافات زمنية فاصلة بين النصوص، وهناك سياقات متباينة، ولكن الثابت- في ظل هذه الاختلافات والتباينات العديدة- يتمثل في المناحي الفكرية التي تتجلى مع كل سياق بشكل مغاير. ويبدو عمل الناقد في ظل حضور هذه السرديات المتشابهة والمختلفة في آن ماثلا في معاينة مساحات الإضافة مع منجز كل سياق لتشكيل الفكرة.
في مثل هذه السردية يمكن التفريق أو الإشارة بين حضورين، الأول منهما حضور النصوص لكل شاعر أو لكل كاتب في لحظات وسياقات زمنية سابقة، والأخير يتمثل في حضور الكتّاب أو الشعراء أو مكوني الأنماط داخل الخطاب النقدي. ولكن كل حضور لكليهما يتجلى وهناك حومان بمجموعة من الدلالات والرموز والسرديات الجاهزة، تأتي إما تعضيدا لفكرة يريد الناقد التأكيد عليها، أو إسدالا لمغايرة لتشكيل فكرته في حيز مقارن، لا يتمّ التنبه إليه إلا من خلال استحضار النصوص وفاعليتها، والشخصيات والسرديات والدلالات المرتبطة بها.
إن العودة إلى النصوص أو إلى الشخصيات من خلال مثيرات نصية قد تكون جزئية أو كلية، واستحضار سردياتها ودلالاتها الأيقونية الماثلة في الذهن ليس إلا وسيلة من وسائل المراودة ومحاولات تسوّر حدود النص المبهم، من خلال ذاكرة مملوءة ومشدودة للشبيه والنظير أو المباين المختلف انطلاقا من تشابه البنيات أو تداخلات المناحي الفكرية قربا أو بعدا. والشبيه أو النظير أو المباين المختلف لا يطلّ- والحالة تلك- إلا في إطار سردية جاهزة محتمية بتشكلها السابق في كتابات مؤسسة، ولدى أدباء سابقين، وكأن في العودة إلى الشبيه والنظير زحزحة للانغلاق، وفتحا لبؤر دلالية تسهم في زيادة مساحة الاقتراب من النص.
فالسردية النقدية في كل المظاهر السابقة- وفي ظل وجود مظاهر أخرى بالضرورة وتجليات عديدة- تختلف عن سرديات الفن في أشكاله المعهودة، لأنها متوارية مشدودة إلى أطر فكرية، وإلى الإجابة عن أسئلة معرفية ترتبط بمعاينة النص الأدبي الآني موضوع المقاربة، وكيفية تشكل أجزائه، وتكوّن منعطفاته. فالسرد في الفنون السردية تحوّل وحركة من خلال المكان والزمان وتحولاتهما، ولكن السرد النقدي سرد يرتبط بالإجراءات ومجمل العمليات والوسائل التي يقوم بها الذهن أو العقل النقدي، لكي يرتّب منطلقاته الفكرية، سواء من خلال التخطيط العام للبحث أو التبويب العام للكتاب، أو من خلال النقلات والتحولات الجزئية والمجهرية التي تحمل نوعا من حركة تدريجية والانتقال نحو الهدف، ولكنها تبدو وكأنها حركة بطيئة تحتاج إلى الإصغاء للنص وتراكيبه وبنيته.
No comments:
Post a Comment