سردية الفصام
بين المتخيل النموذجي والحكايا المصاحبة
في الرابع عشر من برومير للقاص أمل سالم
عادل ضرغام
القصة القصيرة بعد أن غادرت مساحات
التماهي والتداخل التي كانت تضعها في سياق واحد مع فنون سردية أخرى، أسست وجودها
من خلال التركيز على المنعطفات الجذرية أو الحوادث المؤثرة الدامغة التي تقلب حياة
الإنسان، فلا يعود ذلك الإنسان نفسه قبل مروره بالحدث، لكنه يتحول إلى شخص مختلف،
يقارب الحياة في إطار وجهة نظر متشككة متخوفة، فتفقد أمنها ويقينها في الأشياء
والمنطق المتعارف عليه، فمرورها بتلك الحوادث أو الحادثة زلزل منطقها، وأغبش
رؤيتها إلى حد بعيد، ومن ثم نجد الذات بغيتها في التواري، من خلال أفعال تتحصّن
بها لإسدال بطانات المقاومة والاستقواء.
تتحول القصة القصيرة- نظرا لاقترابها من
معاينة المنعطفات الكبرى المؤثرة في حياة الإنسان- إلى عرض جاهز أو إلى نتوء جزئي،
لا يمكن الوصول إلى طبيعته إلا من خلال اللهاث والجهد المبذول في مطاردة الفكرة أو
المنحى المعرفي، من خلال الوقوف عند آليات لها فاعلية في تجسير الهوة المرتبطة
بخصوصية النوع التي ترتبط بمعاينة النتيجة الجاهزة في كتابة مكتنزة، لا تحفل
بالتحليل أو التنظيم، ولكنها تحفل بالتغريب، خاصة حين يكون اشتغال الكتابة منصبا
على معاينة شخصيات مملوءة باشتغالات نفسية كاشفة عن اضطراب وغرابة دائمين.
في قصص (الرابع عشر من برومير) للكاتب أمل
سالم هناك إصرار واضح على على كسر خطية السرد بأساليب متعددة، لا تندرج داخل
الأساليب المعهودة أو الوسائل للقيام بذلك، فالكتابة هنا تستند إلى أساليب جديدة
توجدها طبيعة الكتابة ذاتها، وطبيعة مرتكزاتها ومنطلقاتها، بداية من نزوع الكاتب
إلى تقليب الظاهرة حول مجمل وجوهها الممكنة، ربما بسبب حضور المعرفي الذي يتجلى
بأشكال عديدة، تشعر المتلقي بالقلق والإرباك في تلقي القصص، وتؤثر بالضرورة على
حركة السرد وتناميه.
ارتباط قصص المجموعة بالمعرفي والإدراكي
جعل الكتابة ترتبط بنزعة تأملية لحال البشر، ومعاينة أساليبهم في الحياة وطريقة
ارتباطهم بها، وآليات التعاظم للإفلات من واقع لا يرحم، فاهتمام القصص الأساسي
بالبشر في نزوعاتهم الفردية الغريبة، وردود أفعالهم الغالية. لا يترك أمل سالم في
كتابته للقصة القصيرة- ربما لارتباطها بالتأمل والتجربة- القارئ يواجه القصة دون
مقدمات كاشفة عن مكنونات ومصكوكات جاهزة مبنية على تجربة أو تجارب سابقة، يتمّ
التعبير عنها غالبا في إطار سردي جمعي يتعدى حدود الذات ليلتحم-إمعانا في صوابه
وموضوعيته- بالمجموع، بحيث تبدو رؤيته في بداية القصص، أو في المنعطفات الدالة
الكاشفة عن الحركة والانتقال أشبه بالمؤقت أو الموجه لحركة المعنى في القصة، خاصة
في ظل وجود شخصيات تقارب الآني بذاكرة منفتحة مشدودة للماضي، ولا تستطيع أن تتخلص
من حضوره، وكأن هذه الذات المختفية وراء الكتابة ووراء صياغة الشخصيات تحاول أن
تفسر انحيازاتها للخيارات الحياتية الممتدة، وتؤكد مشروعية هذا الاختيار، وتشير في
جزئيات ليست بالوضوح الكافي لأسباب هذا الاختيار.
سردية الفصام
والحكايا المصاحبة
لا تستند سردية الفصام في تحديدها إلى علم
النفس، وإنما تستند إلى عمليات التغريب والتداخل التي يمكن أن تحدث أثناء القراءة،
فقارئ المجموعة سيصاب كثيرا بالتعب الشديد في الوصول إلى تحديدات واضحة للأصوات
الساردة في القصة أو في مجمل القصص، لأن الكتابة القصصية في هذه المجموعة لا تقدم
للقارئ تحديدات يقينية لهذه الأصوات، إلا في جزئيات كاشفة عن نوعية الضمير السارد،
وتحوّله من متكلم إلى غائب.
القارئ هنا أمام فصام فني لا يحفل
بالاستواء والبناء الهارموني بقدر احتفاله بجمع المشابه والمباين في آن، فالكتابة
ليست معنية بتقديم تحديدات واضحة للنقلة أو للتحول من صوت إلى آخر، ولكنها تقدم
هذا التعدد بشكل متوال، وعلى القارئ – والحال تلك- أن يصغي إلى هذه التحولات، وإلى
الأصوات الساردة التي قد تبدو متشابهة
ومتباينة في آن، فيتعامل معها القارئ على أنها تجليات لصوت واحد، ولكنه سرعان ما
يدرك أنها أقرب إلى التباين منها إلى التشابه.
سردية الفصام وثيقة الصلة بإيقاع الكتابة
وطبيعة الحركة والانتقال من جزئية إلى أخرى، فالكتابة القصصية موزعة بين سرد متنام
يتحرك من خلال مرتكزات تمثل وقفات ثبات للتوجيه التي تأتي وكأنها لحظة صمت قبل
الحركة لتسويغها. وفي إطار ذلك تصنع الكتابة إيقاعها بين الحركة إلى الأمام أو إلى
الخلف أو الوقوف في لحظة ما لاختيار الحركة أو لاختيار مسرب جديد لها. الوقفة
الإيقاعية تتعدد أماكن ورودها، فهي- لأنها لا تقدم سردا تصاعديا أو ارتداديا-
وثيقة الصلة بالفكر والمعرفة والتأمل، فنجدها في بداية القصة كأنها تمثل عملية
التجهيز، على نحو ما يمكن أن نرى في قصة (مساحة السلالم)، حيث يقول (في أعيادنا
نشارك أطفالنا بهجة العيد... فإننا نصنع الحلوى ابتهاجا بالعيد) فهذه وقفة أولى،
لكنها كاشفة في البداية عن التجهيز الدلالي للمنحى الفكري الذي يقارن بين مثال
متعال وواقع مبذول، فكأن الوقفة في بداية القصة تمارس التأسيس للفعل وللنهاية
الكاشفة عن عمق التباين بين حلوى مثالية لم ولن تمس وحلوى يلهو بها الأطفال مبذولة
ومتاحة.
ولكن وجودها الأكثر أهمية – أي الوقفة
الإيقاعية- يتمثل في وجودها نصا منفردا قائما بذاته، بالإضافة إلى وجودها موجهة
للحركة داخل النصوص الطويلة نسبيا. فوجودها نصا قائما بذاته يجعلها مرتبطة بالتأمل
والترميز والتوجه الفكري غير المحدود بزمن، لأن الإدراك المقدم يتمّ بناؤه على
أزمنة مندمجة. ففي هذا التوجه الكتابي- وبعد تخليه لطبيعته عن الزمني والسردي
المتنامي- يصبح المعرفي والإدراكي حاضرا في بؤرة التركيز، ويحلّ الثبات والحفر
الداخلي محل الحركة السردية والتنامي السردي.
يتجلى ذلك التوجه في مجموعة من القصص مثل
(عبث)، و(صدفة)، و(شرك)، ففي هذه القصص وغيرها ليس هناك قصة بالمفهوم المعروف
والمحدد، ولكن هناك تأمل لمواقف أو لموقف خارج التأطير الزمني، وهناك ترميز وإشارات
متوازية، بالإضافة إلى فكرة التنكير في العناوين، فكأن الكتابة من خلال هذا
التنكير تمثل إعادة شحن للكلمة بدلالات جديدة ليست معهودة أو مؤسسة.
وتنتج هذه الكتابة مجموعة من السمات،
أهمها سمة التغييب، وليس المقصود التغييب الخاص بالنمو السردي الذي يتجلى حاضرا
بشكل واضح، وإنما المقصود تغييب كل ما يكشف عن ملامح البطل أو الأبطال، فالشخصيات
في هذه القصص يتمّ تغييبها، لأنها ليست إلا أدوات أو إشارات لحمل الفكرة التي
تتحرك كل مكونات السرد للتأسيس لها ولوجودها. ففي قصة (شرك) تتجلى القصة مرتبطة
بشخصين(رجل) و(أنثى) دون تحديد اسم لهما، لأن النزوع الكتابي لا يرتبط بهما، ولكنه
يرتبط بالشرك البشري المصنوع بتخطيط واضح من القسيم الأنثوي، والشرك القدري الذي
يهشم وجوده، ويفقده مرتكزاته، فتحدث إزاحة وخلخلة بين شركين، ويصبح للأخير الوجود
المهيمن.
إن الإعلاء من قيمة المعرفي والإدراكي على
حساب السردي، سواء في المقدمة التجهيزية أو في الوقفات الموجهة داخل متن القصة، أو
في وجوده نصا قائما بذاته، إعلان عن التخفي خلف نسق موضوعي، لا يكشف عن وجود ذات
محددة، لكنه يكشف عن وجود نسق جمعي متورط بتلبسه وتداخله بنسق موضوعي عام، ومن ثم
تبدو آلية من آليات التواري، والابتعاد عن الظهور والفعل. وتتساوق مع هذه الآلية
وإن كانت تزيد عنها في الأثر في نفي ارتباط النص بذات محددة ومتعينة، آلية أخرى
تتمثل في السرد التتابعي المتوالي والمتوازي لأصوات عديدة. وقيمة هذه الآلية تتمثل
في تهشيم المركزية السردية وجرح البنية المغلقة بواحديتها، ففي السرد التتابعي
المتوازي من خلال أصوات عديدة يعمل كل صوت ضد الآخر، ويهشم منطلقاته ارتباطا
بمساحة تكوين وثقافة وتوجه كل صوت من الأصوات السردية.
ففي قصة (الحدث) هناك تغريب ناتج عن هذا
التعدد، وناتج أيضا عن عدم وجود مرتكزات دالة كافية تكشف عن هذا التعدد والتنوع،
ولن يتم الكشف عن ذلك إلا بالإنصات للبنية وتحول الضمائر السردية، والوعي الخاص
بمكان كل صوت سردي داخل الباص. ففي هذه القصة هناك أربعة أصوات سردية تتابع مقاربة
الحدث بشكل متوال، بداية من السائق، ومرورا بالسارد الأول الذي يجلس خلف السائق،
والسارد الثاني الذي يجلس في منتصف الباص، وانتهاء بالسارد الأخير الذي يجلس في
الصف الأخير، وكل واحد من هذه الأصوات يقدم رؤية محددة لحدث وحيد، من خلال الصيغ
الكلامية والقولية لكل سارد منهم.
فهذه الأصوات تقدم سردا يعاين أو يقارب
حدثا وحيدا، ارتباط الطفل والطفلة، وقدرة هذا الطفل في أن يقوم- لتخلصه من محددات
العرف الاجتماعي والمعرفة والإدراك المرتبطة بالنمو العمري- بأفعال محبوسة ومقموعة
داخل كل واحد منهم. في سرد كل واحد منهم للحدث تتجلى التباينات والتكوينات
الثقافية والاجتماعية والعلل المصاحبة لكل صوت، فالسائق يراقب وينطلق من سلطة،
والسارد الأول يراقب، ويتمنى أن يكون له طفل ذو جسارة على الفعل مثل هذا الطفل،
خاصة في ظل وجود بنتين له، والسارد الثاني- انطلاقا من تكوينه الثقافي الأقرب إلى
رجال الدين والمتخصصين في اللغة- يقدم سرده من خلال الاستناد إلى طريقة الطفل في
نطق اسم الطفلة (مريم) وتنغيمه بطريقة خاصة، محتشدا بثقافة لغوية عن جهاز النطق
والكلام والأصوات وأساليب التلاوة والإنشاد، أما السارد الأخير- الأقرب إلى
المتحرش، حيث يجلس في الصف الأخير لمعاينة أجساد النساء- فنراه يقارب الحدث
انطلاقا من تكوين نفسي يرتبط بالنقصان في معرفة القسيم الأنثوي معرفة مستوية
ومعتدلة، فيتحول سلوكه إلى العنف.
إن كل واحد من هؤلاء يسدل في سرده لغة
وتوجها مختلفين عن الآخر في الألفاظ وفي النزوع الشخصي، وربما تجلى الاختلاف في
اللغة بشكل واضح في سرد السارد الثاني الذي يكشف عن بنية جاهزة تراثية للاحتماء
يلوذ بها في لحظة المواجهة. كل هذا التعدد يكشف عن فاعلية المثال الذي يعدّ منطلقا
أساسيا في قصص المجموعة، ففقدان المثال أو المرأة الاستثناء يحدث زلزلة لبعض
الشخصيات، فلا تستطيع أن تقارب الحياة بشكل طبيعي، فيحدث نتيجة لذلك هذا التعدد
والتوزع في تشكيل صور الشخصية ومراياها، فالتعدد معناه عدم الارتكان أو الرضا
بصورة وحيدة، لأنها تمثل وجودا جزئيا، لا يستطيع أن يهب الذات الهدوء والاتزان.
وإذا كان هذا التعدد موجودا في البنية
السردية للقصة فإن الانتباه إليه لن يكون سهلا، خاصة إذا كان التحول من سارد إلى
سارد يبنى على الكلمة الأخيرة في فضاء السرد السابق. وهذا يشير إلى أن هذا التعدد
بالرغم من تحققه مشدود إلى واحدية سردية، تستطيع أن تقدم مرايا متباينة لذات
الحدث، ووجهات نظر متشابكة ومتداخلة لحدث إنساني وحيد، حدث يهشم المرتكزات وينبه
إلى العلل والنواقص التي تصاحب الذات، وتجعلها منتبهة لذلك النقصان، وتعبر عنه
بطريقة فنية متوارية بآلية التعدد.
هناك أيضا في قصص هذه المجموعة آلية فنية
مشدودة لسردية الفصام المبنية على قطع خطية السرد ونموه، فقطع هذه الخطية النامية
ربما يتمّ في بعض الأحيان من خلال الحكايات المصاحبة التي تحمل نوعا من التشابه
بين منطق السرد الأساسي وحركته، ومنطق الحكاية في إطارها العام. فالسرد في قصة
(فصام) قائم على الفاصل الزمني الكبير بين عمر البطل وعمر المرأة، وهذا الفارق
يتجاوب معه الحكاية المصاحبة التي تشكل خيطا سرديا له استقلاليته المتمثل في
الفارق الزمني بين عبدالستار المعداوي وزوجته، ذلك الفارق الذي يكفل لقصة البطل في
السرد الأساسي النامي مشروعية التجلي والحدوث والتحقق.
وقد تتمثل الحكاية المصاحبة في حوار دائر-
في القصة ذاتها- بين شخصين في الباص، يستمع إليه السارد الفعلي في النص، فالمتأمل
لهذا الحوار يدرك أنه حوار عادي، ولكنه- نظرا لطبيعته ومدار اهتمامه- يكون حاسما
في الاختيار، وفي تبرير جنوح الذات لاختيار ما إذا لم تصل لنموذجها أو تمثالها
الأنثوي، من خلال جنوحها إلى التوجه النقيض أو المقابل، والارتباط بأي امرأة،
يجسّد ذلك التوجه قول أحد المتحاورين في رده على دهشة صاحبه من سلوكه( عندما لا
تجد حبيبتك، اذهب إلى أي امرأة أخرى، أول امرأة تقابلها في الطريق، يكون في صدرها
الرغبة إلى صدر رجل). فهذه الجملة التي ينقلها السارد الأساسي على لسان شخص يحاور
صديقه في المقعد المجاور مهمة في التعبير عن طبيعة الذات في تفلتها من المسئولية
عن الفعل، وإلصاقه بآخرين مشابهين، ومهمة أيضا في تبرير الاختيار بين مثال متعال
وواقع معهود ومعروف ومبذول، فتحدث الحركة المفاجئة والتوحد في خطاب السارد
الأساسي، في طريقه لمقابلة المرأة/ المثال مع خطاب الشخصية المتحاورة، فيحدث
التحول والتوحد في الخطاب، وكأن الشخصين الأساسي والفرعي قد تحولا في لحظة المهاية
إلى صوت واحد في قوله في آخر جملة في القصة (المنزل الثالث من الطريق الدائري يا
أسطى).
إن التوحد في الجملة الأخيرة بين السردي والمحكي
يكشف عن أن التعدد في الخيوط السردية في القصة الواحدة، أو في الحكايات المصاحبة،
ليس إلا آلية للاحتماء تنتهجها الذات لإسدال نوع من الموضوعية على الاختيار،
ولتفكيك حدة المسئولية المباشرة عن الفعل، وإلصاقها بآخرين يشابهونه في القلق، وفي
فقدان الحلم والمثال على نحو ما يمكن أن نرى في قصة (مساحة السلالم)، حيث يطل
التعدد والحكايا المصاحبة وجوها عديدة لذوات متشابهة فقدت بوصلتها.
المتخيل النموذجي
وخلخلة اليقين
يتشكل اليقين من الثبات، ومن تقارب
المتخيل النموذجي وارتباطه واندماجه بالواقعي، والذات الإنسانية في تشظيها وفي
تعدد وجوهها تحاول من خلال كل ذلك أن تعيد لهذا اليقين وجوده، وتعيد تشكيله من
خلال آليات تحفظ لها اتزانها واستمرارها. ولكن هناك حوادث لا تصلح معها كل هذه
الآليات، ولا تنتهي بتقدم العمر، ويظل أثرها باقيا وفاعلا.
القارئ المتأمل لقصص المجموعة في كل
تجلياتها وآلياتها الإبداعية، من خلال التعدد السردي المتوازي والمتوالي، ومن خلال
الحكايات المصاحبة، والوقفات المعرفية والإدراكية، سواء جاءت بوصفها جزءا تمهيديا
لعملية التجهيز الدلالي، أو جزءا من السرد للقيام بعملية التوجيه، أو نصّا قائما
بذاته يدرك أن هناك حدثا ما، له فاعلية وأثر كبير في إحداث هذه التداعيات البنائية
التي تحاول أن تكفل للذات وجودها، وأن هناك خللا ما أصاب منظومة الإدراك، فجعل
الذات تنقسم داخليا فتتعدد وجوهها، ويتمثل ذلك الحدث في فقدان المرأة / المثال أو
المرأة / الاستثناء.
المرأة المثال تتجلى في قصص المجموعة بشكل
لافت بداية من القصة الأولى (فصام)، فتأتي وكأنها تمثل المحرض الأساسي والمثير
الفعلي للكتابة، ولفعل الفصام والتشظي من حركة الذات انطلاقا من استغراب حالها،
إلى تأمل نفسها بوصفها وجودا موضوعيا وحيزا للتأمل من خلال استيلاد مسافة فاصلة
بين الذات وموضوعها. ويمكن تلمس ملامح ذلك المثالي الأنثوي المقدس من خلال بعض
الألفاظ الدالة التي يمكن أن تحيل الأنثوي المعهود، إلى كائن يندّ عن التصور
الواقعي المعهود، فنجد القصة تقول على لسان السارد العليم( كان يمشي إلى جوارها
كالظلّ الخائب الذي يتبع صاحبه دون شخصية تذكر). وهناك أيضا إشارات دالة في تلك
القصة إلى غياب الجسدي وحضور الروحي المتعالي بالإضافة إلى استخدام ألفاظ لها ظلال
من القداسة، مما يشير إلى تحوّل هذه الأنثى إلى تمثال له قداسته، فحين يتحدث عن
الشارع القديم الذي كان يجمعهما يشير إلى ذلك الحضور إليه بوصفه حجّا، أو يقول في
نهاية القصة (كان لها دائما حضور الأنبياء).
وبهذا يظل الوجود المثالي حاضرا، ولكن
قيمته تظهر أكثر جلاء في تحوله من الدنيوي إلى المقدس، على نحو ما يمكن أن نرى في
قصة (ذاكرة الموتى)، فقد تحوّلت المرأة المثال إلى شبيهة بالولي، بما له من قداسة،
(فقد اتخذت من ضريح الولي قبلة، ودارت في الجهات الأربعة، واتخذ منها قبلته، ودار
في جهاتها، كانت تتفحص المكان من كل زاوية)ـ ويقول في نهاية القصة( دارت حول
الإمام، ودرت حولها أثناء دورانها).
هي قصة ترتبط بمقاربة المثالي الأنثوي،
حتى لو كانت البطلة والبطل السارد من خلال ضمير الغياب، ليسا كائنين متجسدين، بل
يمثلان روحين يتحركان وفق ذاكرة قديمة، ولكن هذه الذاكرة القديمة تصرّ على إثبات
هذا الانحناء من البطل إلى المرأة من خلال صفات مسدلة كاشفة عن الدوران في إطارها،
ودورانها هي في إطار آخر. ربما تشير القصة إلى الصورة المقدسة لهذا النموذج
الأنثوي الذي يطلّ بشكل لافت، ليس في هذه القصة وحدها، بل يطلّ فاعلا في قصص أخرى،
وبتنويعات مختلفة، حتى يشعر القارئ في أحيان كثيرة أنه أمام محرّك أساس للكتابة
وللإبداع.
إن تشكيل هذا المثال الأنثوي المقدس في
قصص المجموعة يأتي خارقا لكل الأطر الحامية والبطانات الفاصلة التي تتدثر بها
الذات في وحدتها، بحيث يبدو تجلي هذا التشكل شبيها بالريح التي تقلع كل شيء من
جذوره، وتفقده مرتكزاته. ففي قصة (الرابع عشر من برومير) التي حملت المجموعة اسمها
نجد الاشتغال على شهور السنة حسب تقويم الثورة الفرنسية، وقد جعل طبيعة هذه الشهور
سببا لتأجيل التداخل والانسجام وفق التفكير المنطقي من خلال الوقوف عند دلالات هذه
الشهور المرتبطة حتما بدلالات الفصول، وانشداداها إلى مؤسس جاهز في الأدب الأجنبي
والعربي.
يكشف حضور اللازمة المكررة كثيرا في القصة
عن مساحة التدثر بحاميات الترفع والابتعاد، فاللازمة أو الجملة المكررة (لذا لن
يحدث أبدا) مع كل شهر من شهور تقويم الثورة الفرنسية تشير من جانب إلى قوة الأطر
الحامية وامتداد وجودها، ومن جانب آخر تكشف عن تبرير فعل التأجيل في كل شهر من هذه
الشهور، بالرغم من تعدد الأسباب. لكن هناك نماذج خارقة لكل مساحات التدثر
والابتعاد، فتخترق كل الحمايات والسدود التي تحتمي بها الذات، فتصبح مهيمنة
ومسيطرة، ومن ثم يصبح التسليم من الذات حاضرا.
مع هذه النماذج أو تلك الحالات يأتي التعبير
كاشفا عن المغايرة والاختلاف، يقول في القصة عن واحدة منهن( ولأنها واحدتهن أذهله
أن يراها أطول منهن جميعا، رغم أن هناك من هي أطول منها، ربما كان يرى عنقها طويلا
جدا، عنقها يشبه ساق النباتات التي تنمو في الشهر السابع(جرمينال) شهر الإنبات).
ومن خلال هذا التعبير المغاير تكشف القصة عن سقوط الحواجز المصنوعة والمؤسسة،
استنادا إلى نص لا يخلو من قداسة. فالقصة تنقل هذه القداسة من مجال إلى مجال،
ليصبح شديد الصلة بمتعين أنثوي محدد موجود وملموس. فمن خلال الاستناد إلى موقف
البحر للنفّري تقول القصة (رأيت المراكب تغرق، والألواح تسلم، ثم غرقت الألواح).
فمن خلال النقل والإحالة من مجال إلى مجال
يبدأ المتخيل النموذجي الأنثوي في التشكل، ويكشف عن ذلك أمران: الأول البحر
بدلالته الزرقاء المتعالية لارتباط لونه بالسماء، بالإضافة إلى مائه المالح الذي
لا يروي، وامتزاج هذين الأمرين بالجملة التي تشكل لازمة لا تكفّ عن التكرار(لذا لن
يحدث أبدا).
لكن قيمة هذا المتخيل الأنثوي النموذجي في
المجموعة في ارتكانه في الخلفية، وبالرغم من ذلك تظهر قدرته الفاعلة في الوجود في
معظم القصص على أنه نواة محركة للتوجه وللعقل في تلقيه وتعامله مع الأشياء، فنراه
يطل كثيرا بوصفه محركا، وإن كان متواريا، ولا يتمّ الكشف عن وجوده إلا بتأمل طويل.
فتأمل قصة (الحدث) يعيدنا بشكل خاص إلى جملة يمكن أن يتمّ تلقيها بشكل عرضي في قصة
(فصام)، حيث تقول هذه القصة عن بطلها (بالضبط عاد إلى طفولته، إلى براءته، إلى
جهله الارتباط بأنثى).
فهذه الجملة تبرّر في قصة (الحدث)، لماذا
كان موقف الطفل مع الطفلة ونزوعهما الطبيعي نحو الارتباط حدثا له ذلك الاهتمام
والحضور، ويبرّر في الوقت ذاته هذه الرؤية السردية متعددة المناحي في المقاربة
والمعالجة. فكل خيط سردي من الخيوط المتاحة في القصة، يقدم- فوق تفتيته لفكرة
الواحدية السردية- جانبا من جوانب التكوين الإنساني، وكل جانب يزاحم الآخر ويهشمه،
فهذا التعدد تعدد إدراكي معرفي مشدود للنواهي والأعراف بفعل النمو العمري، وهذا
يباين الفطرة الأولى التي يمثلها الطفل والطفلة.
التكوين الإنساني مشدود إلى قطبين: مثالي
وواقعي في التعامل مع المرأة، فسيطرة النمط المثالي ناتج عن غياب المعرفة
التجريبية، وناتج عن خلل في الإدراك لطبيعة المرأة في نزوعها إلى الرجل، ومع سيطرة
الواقعي هناك معرفة تجريبية، وأي غياب لقطب من القطبين يقتضي بالضرورة هيمنة
للآخر، فحضور الواقعي يؤدي إلى غياب المثالي وجودا واقعيا، وإن ظل فكرة تعلن عن
وجودها في لحظات، وحضور المثالي يجعل الواقعي في مرتبة أدنى، حين يوضع في نسق
مقابل.
يتجلى ذلك واضحا حين نعيد قراءة قصة (مساحة
السلالم)، فهناك بالرغم من من اختيار التعلق بالواقعي، فإن المثالي المتخيل يظل حاضرا،
فبالرغم من أن هناك إشارة عملية لاختيار الواقعي الذي تجلى بشكل واضح وصريح في قصة
(فصام)، نجد أنه طريقه إلى المرأة الواقعية الذي تكرّر سيره إليها، حاملا قالبي
الشيكولاتة، لا ينسى المثال. فهناك تأسيس رمزي من البداية لبناء الفارق بين قالب
الشيكولاتة التي لا يدرك طعمها، إشارة إلى النموذج الأنثوي المتعالي، وقطعة العجين
(مرمطة الكعك) على حد تعبير القصة في بدايتها، للإشارة إلى المتاح الواقعي
والمبذول، ولتعميق الهوة بين ما يتحقق واقعا، وما يظل متعاليا ومترفعا عن التحقق.
يشكل المتخيل الأنثوي المتعالي حضورا
لافتا، ومؤثرا وفاعلا وإن كان متواريا، فهناك محاولة في عملية الكتابة لتغييب
أثره، أو لطمس معالمه من خلال الآليات الكتابية التي أشرنا إليها من خلال التعدد
أو الحكايا المصاحبة، ولكنه بالرغم من ذلك يطل برأسه في لحظات كاشفة عن الوجود
المتواري الفاعل. ويمكن تلمس أثر ذلك في وقوفنا عند قصة (صدى الذبول)، فهي قصة
تشير إلى فاعلية الحدث الذي يحاول الكاتب تغييب حضوره من خلال الاتكاء على نسق
موضوعي يغيّب الحادثة.
ففي (صدى الذبول) لا يمكن الحديث عن حكاية
ذات بداية ونهاية، وإنما تستند إلى سرد معرفي بشكل عام من خلال سرد موضوعي لا
يرتبط بشخص، سرد يشير إلى ضرورة التخلص من البقايا والكراكيب، لأنها في منطق القصة
كاشفة عن الموت والثبات، يتخلل هذه السردية المعرفي بقايا ذاكرة من اتصالات هاتفية
بين رجل وامرأة. القصة تكشف عن منطق الإنسان، بل عن منطق الحياة في ذبول الذاكرة أو
ذبول البقايا التي تظل عالقة بالروح وتشوّش حركتها إلى أن تبدأ بالتلاشي تدريجيا.