مقالي في جريدة الوطن
رصد الذاكرة ورصد الفنان .. قراءة في " رداء الذاكرة " للمصبح
إن القصة القصيرة في الدراسات النقدية الحديثة، ما زالت - بالرغم من عمرها الزمني الطويل - في معرض دائم للسؤال عن الماهية المرتبطة - حتما - بالسؤال عن طبيعتها وتعريفها، وجزئياتها وآلياتها الفنية، وهي في أغلب هذه التنظيرات مشدودة إلى الصغر في الحجم والتركيز الفني واللغوي، ومعالجة الموقف الجزئي المشتعل بالعطاء الدلالي اللا محدود.وكل هذه الصفات ربما وجدناها متحققة في مجموعة "رداء الذاكرة"، للقاص فهد المصبح، فقصص هذه المجموعة تأخذ المتلقي من لحظته الآنية التي يحياها، لكي يعيش في الماضي، يلتحم بالطفولة، وبالوعي الفطري، ذلك الوعي الذي يفتح الحواس لكي تشرئب وتركز وجودها وتختزن لحظات قاسية وممتعة في الوقت ذاته، إن هذه المجموعة تمثل عودة للحظة بكر لم تتدنس بعد.ربما يكون المدخل الجيد لتناول هذه المجموعة ماثلا في الوقوف عند العنوان، فالعنوان - بصفة عامة في تنظير جينيت - يمثل أحد الملاحق النصية المهمة، بالإضافة إلى الإهداء إذا كان هناك إهداء، وصورة الغلاف، وقد جاءت صورة الغلاف متساوقة تماما مع عنوان المجموعة، ومع ما تقدمه من قصص، فالصورة تشير إلى كهوف عديدة للذاكرة الإنسانية، تلك الكهوف التي تبدأ من الرماد الذي يشير إلى القدم، وتبدأ مساحة التلوين تتحرك ببطء تدريجيا حتى تصل إلى لحظة التوهج والبياض النهاري، الملتحم باللحظة الآنية المعيشة، وهذه الكهوف - بالرغم من تعددها - تشكل طبقات معرفية نائمة بالداخل، تحتاج فقط إلى المثير الخارجي، لكي تطل برأسها من جديد، جمرة متقدة متوهجة، وكأن الزمن بالرغم من مروره، لم يؤثر فيها، وهي في إطلالتها من جديد تحمل قبسا من الماضي، وبصيصا من اللحظة الحضارية التي يعيشها السارد الفعلي، لأنها تشير إلى جفاف اللحظة المعيشة، ومن هنا كان البحث عن وميض خاص، وكان الارتداد، لمعاينة نموذج جميل مملوء بالبراءة.إن العنوان "رداء الذاكرة" يفتح أفق المتلقي لتأويلات عديدة، ولعقد ميثاق جديد للقراءة، منها ما يرتبط بالماضي، ومنها ما يرتبط بلحظة الطفولة، تلك اللحظة التي تشير إلى تلقي الحياة وإدراكها بشكل فطري. وعلى هذا الأساس فإن الوعي الفطري الطفولي سيكون هو المتحكم، وهو الذي يكون آفاق الأحلام والآمال، ومن ثم يمدد آليات التخيل للنماذج البشرية المقدمة في قصص المجموعة. فعلى سبيل المثال إذا أخذنا مفهوما معينا مثل القيادة بين الأطفال، فسنجد أن مسوغات الاختيار والتتويج بهذه القيادة، تقدم في إطار بسيط ومدهش يدل على تملك الكاتب لآليات القص، ففي قصة "مصباح" نجد أن القيادة جاءت إليه من شيئين، على حد تعبير النص السردي "كل مؤهلاته أنه امتلك كرة من أمه وصافرة من أبيه" إنها لقطة رائعة تعيدنا إلى مواقف شبيهة مررنا بها جميعا، وتفتح لنا - برفق فني - طبيعة هذا الوعي الذي ينبع من الفقد والحاجة، ومن ثم يقدم من يملك، ويحاول دائما هؤلاء الأطفال المحتاجون عدم إثارة غضب الطفل الذي يملك الكرة والصافرة، لأنه يملك أداة اللعب واللهو، واللعب واللهو في هذه المرحلة يشكلان مسافة كبيرة من طبيعة الوجود، إن الطفولة هي المعين الثر الذي يعود إليه، ففي القصة الأولى "رداء الذاكرة" تبدو الذاكرة وكأنها حالة تجلّ خاصة، تعيد السارد في إطار لحظته الحضارية المعيشة إلى لحظة الوعي الأولى، أو إلى ومضات الذاكرة التي تظل مشتعلة في الذهن، وتبدو ملامح سيميائية التحول والرجوع إلى الماضي بشكل قطعي، بداية من التكوين الجسمي الحالي المكتمل النمو، إلى الصورة الأولى التي تتكون ملامحها في إطار صغر الجسم، وتتقلص طبيعة الملابس إلى شورت قصير يصل إلى منتصف الساقين، وكذلك السيارة استحالت إلى دراجة بخارية، ويتساوق - أيضا - في ذلك السياق الملامح الشكلية الخاصة بشعر اللحية الأبيض الذي تغير بعد عودته إلى الوراء إلى اللون الأسود، ثم التساقط للدلالة على مرحلة البداية، إن المتأمل لسيميائية التحول من الآني إلى الماضي يدرك قدرة القاص على التقاط آليات وعناصر الوعي الإنساني، ويدرك قدرته على الوقوف عند جزئيات وثيقة الصلة بالوعي الطفولي، الذي يتشبث بأشياء شديدة الخصوصية بهذه المرحلة، مثل الدراجة البخارية، ولعب الكرة الذي يقلق معظم الشيوخ، لأن أغلبهم يحاول أن يتنسم لحظة الهدوء.والوقوف عند الجزئيات الخاصة بهذه المرحلة، ربما يشير إلى درجة الوعي المتفرد التي حاول القاص أن يقدمها إلى المتلقي، ولكنه - ربما يشير - من جهة ثانية إلى إحساس السارد الفعلي للنصوص، إذا كان هناك تماه بين المؤلف والبطل في قصص هذه المجموعة، بالاختلاف والمغايرة عن الآخرين في رصده للواقع من البداية وكأن وعي الفنان من بداية التكوين يأتي مختلفا عن الآخرين، إن القاص - بالإضافة إلى رصده لخصوصية الطفولة - يرصد الفنان الذي بداخله يرصد تميزه واختلافه. وقد يكون الوقوف عند قصة اشتعال الماء دليلا قويا للإشارة إلى أن رصده للطفولة يمثل رصدا لبذرة الفن النامية بداخله، فصورة الوعي الفطري أو الطفولي في هذه القصة تأخذ منحى مرتبطا بالأسئلة الكبرى التي يمكن أن تحتاج إلى تفسير، وخاصة حين يتعلق الأمر بمنحى إنساني معين، ينم - في التحليل الأخير - عن محاولة التوحد مع كائنات حية مثل البقر، وذلك حين يقول "ولا أجد إلا البقر أبثه همومي فأجده صامتا يزيد من حزني ما ينتظره في الغد فأبدأ في محادثته، أو ربما محادثا نفسي: ألا يمكن أن نحصل على اللحم دون ذبح؟ لو قمت بتهريب الأبقار أين أخبئها؟"، إن حالة التوحد النابعة - بالضرورة - من حالة تلبس الفن في ذلك البطل الصغير، نابعة من منحى إنساني معين، ومن وعي فطري يقف عند أشياء غريبة في منطقه ويحاول أن يفسرها في إطار ذلك الوعي، يقابله الوعي الطبيعي الناضج الذي يأتي على لسان خاله الذي يشير من خلال مقولته "البقر خلق لهذا" إلى طبيعة التكييف الإلهي في الكون. يتبقى أن نشير إلى أن قصص هذه المجموعة وثيقة الصلة بالسارد الفعلي، فهناك مساحة من الحميمية تؤكد ذلك، وربما تدخل في إطار السيرة الذاتية المبنية على ومضات الذاكرة، يؤكد هذا أن التأمل في قصص المجموعة وربطها في إطار سردي معين، ربما يقود المتلقي إلى حالة جديدة أو إلى وعي جديد مختلف يجعله يفكر في جنس العمل الأدبي الذي بين يديه، هل يدخل في نطاق القصة القصيرة، أم يدخل - بالرغم من التحديد النوعي الذي كتب على الغلاف - في جنس الرواية؟
رصد الذاكرة ورصد الفنان .. قراءة في " رداء الذاكرة " للمصبح
إن القصة القصيرة في الدراسات النقدية الحديثة، ما زالت - بالرغم من عمرها الزمني الطويل - في معرض دائم للسؤال عن الماهية المرتبطة - حتما - بالسؤال عن طبيعتها وتعريفها، وجزئياتها وآلياتها الفنية، وهي في أغلب هذه التنظيرات مشدودة إلى الصغر في الحجم والتركيز الفني واللغوي، ومعالجة الموقف الجزئي المشتعل بالعطاء الدلالي اللا محدود.وكل هذه الصفات ربما وجدناها متحققة في مجموعة "رداء الذاكرة"، للقاص فهد المصبح، فقصص هذه المجموعة تأخذ المتلقي من لحظته الآنية التي يحياها، لكي يعيش في الماضي، يلتحم بالطفولة، وبالوعي الفطري، ذلك الوعي الذي يفتح الحواس لكي تشرئب وتركز وجودها وتختزن لحظات قاسية وممتعة في الوقت ذاته، إن هذه المجموعة تمثل عودة للحظة بكر لم تتدنس بعد.ربما يكون المدخل الجيد لتناول هذه المجموعة ماثلا في الوقوف عند العنوان، فالعنوان - بصفة عامة في تنظير جينيت - يمثل أحد الملاحق النصية المهمة، بالإضافة إلى الإهداء إذا كان هناك إهداء، وصورة الغلاف، وقد جاءت صورة الغلاف متساوقة تماما مع عنوان المجموعة، ومع ما تقدمه من قصص، فالصورة تشير إلى كهوف عديدة للذاكرة الإنسانية، تلك الكهوف التي تبدأ من الرماد الذي يشير إلى القدم، وتبدأ مساحة التلوين تتحرك ببطء تدريجيا حتى تصل إلى لحظة التوهج والبياض النهاري، الملتحم باللحظة الآنية المعيشة، وهذه الكهوف - بالرغم من تعددها - تشكل طبقات معرفية نائمة بالداخل، تحتاج فقط إلى المثير الخارجي، لكي تطل برأسها من جديد، جمرة متقدة متوهجة، وكأن الزمن بالرغم من مروره، لم يؤثر فيها، وهي في إطلالتها من جديد تحمل قبسا من الماضي، وبصيصا من اللحظة الحضارية التي يعيشها السارد الفعلي، لأنها تشير إلى جفاف اللحظة المعيشة، ومن هنا كان البحث عن وميض خاص، وكان الارتداد، لمعاينة نموذج جميل مملوء بالبراءة.إن العنوان "رداء الذاكرة" يفتح أفق المتلقي لتأويلات عديدة، ولعقد ميثاق جديد للقراءة، منها ما يرتبط بالماضي، ومنها ما يرتبط بلحظة الطفولة، تلك اللحظة التي تشير إلى تلقي الحياة وإدراكها بشكل فطري. وعلى هذا الأساس فإن الوعي الفطري الطفولي سيكون هو المتحكم، وهو الذي يكون آفاق الأحلام والآمال، ومن ثم يمدد آليات التخيل للنماذج البشرية المقدمة في قصص المجموعة. فعلى سبيل المثال إذا أخذنا مفهوما معينا مثل القيادة بين الأطفال، فسنجد أن مسوغات الاختيار والتتويج بهذه القيادة، تقدم في إطار بسيط ومدهش يدل على تملك الكاتب لآليات القص، ففي قصة "مصباح" نجد أن القيادة جاءت إليه من شيئين، على حد تعبير النص السردي "كل مؤهلاته أنه امتلك كرة من أمه وصافرة من أبيه" إنها لقطة رائعة تعيدنا إلى مواقف شبيهة مررنا بها جميعا، وتفتح لنا - برفق فني - طبيعة هذا الوعي الذي ينبع من الفقد والحاجة، ومن ثم يقدم من يملك، ويحاول دائما هؤلاء الأطفال المحتاجون عدم إثارة غضب الطفل الذي يملك الكرة والصافرة، لأنه يملك أداة اللعب واللهو، واللعب واللهو في هذه المرحلة يشكلان مسافة كبيرة من طبيعة الوجود، إن الطفولة هي المعين الثر الذي يعود إليه، ففي القصة الأولى "رداء الذاكرة" تبدو الذاكرة وكأنها حالة تجلّ خاصة، تعيد السارد في إطار لحظته الحضارية المعيشة إلى لحظة الوعي الأولى، أو إلى ومضات الذاكرة التي تظل مشتعلة في الذهن، وتبدو ملامح سيميائية التحول والرجوع إلى الماضي بشكل قطعي، بداية من التكوين الجسمي الحالي المكتمل النمو، إلى الصورة الأولى التي تتكون ملامحها في إطار صغر الجسم، وتتقلص طبيعة الملابس إلى شورت قصير يصل إلى منتصف الساقين، وكذلك السيارة استحالت إلى دراجة بخارية، ويتساوق - أيضا - في ذلك السياق الملامح الشكلية الخاصة بشعر اللحية الأبيض الذي تغير بعد عودته إلى الوراء إلى اللون الأسود، ثم التساقط للدلالة على مرحلة البداية، إن المتأمل لسيميائية التحول من الآني إلى الماضي يدرك قدرة القاص على التقاط آليات وعناصر الوعي الإنساني، ويدرك قدرته على الوقوف عند جزئيات وثيقة الصلة بالوعي الطفولي، الذي يتشبث بأشياء شديدة الخصوصية بهذه المرحلة، مثل الدراجة البخارية، ولعب الكرة الذي يقلق معظم الشيوخ، لأن أغلبهم يحاول أن يتنسم لحظة الهدوء.والوقوف عند الجزئيات الخاصة بهذه المرحلة، ربما يشير إلى درجة الوعي المتفرد التي حاول القاص أن يقدمها إلى المتلقي، ولكنه - ربما يشير - من جهة ثانية إلى إحساس السارد الفعلي للنصوص، إذا كان هناك تماه بين المؤلف والبطل في قصص هذه المجموعة، بالاختلاف والمغايرة عن الآخرين في رصده للواقع من البداية وكأن وعي الفنان من بداية التكوين يأتي مختلفا عن الآخرين، إن القاص - بالإضافة إلى رصده لخصوصية الطفولة - يرصد الفنان الذي بداخله يرصد تميزه واختلافه. وقد يكون الوقوف عند قصة اشتعال الماء دليلا قويا للإشارة إلى أن رصده للطفولة يمثل رصدا لبذرة الفن النامية بداخله، فصورة الوعي الفطري أو الطفولي في هذه القصة تأخذ منحى مرتبطا بالأسئلة الكبرى التي يمكن أن تحتاج إلى تفسير، وخاصة حين يتعلق الأمر بمنحى إنساني معين، ينم - في التحليل الأخير - عن محاولة التوحد مع كائنات حية مثل البقر، وذلك حين يقول "ولا أجد إلا البقر أبثه همومي فأجده صامتا يزيد من حزني ما ينتظره في الغد فأبدأ في محادثته، أو ربما محادثا نفسي: ألا يمكن أن نحصل على اللحم دون ذبح؟ لو قمت بتهريب الأبقار أين أخبئها؟"، إن حالة التوحد النابعة - بالضرورة - من حالة تلبس الفن في ذلك البطل الصغير، نابعة من منحى إنساني معين، ومن وعي فطري يقف عند أشياء غريبة في منطقه ويحاول أن يفسرها في إطار ذلك الوعي، يقابله الوعي الطبيعي الناضج الذي يأتي على لسان خاله الذي يشير من خلال مقولته "البقر خلق لهذا" إلى طبيعة التكييف الإلهي في الكون. يتبقى أن نشير إلى أن قصص هذه المجموعة وثيقة الصلة بالسارد الفعلي، فهناك مساحة من الحميمية تؤكد ذلك، وربما تدخل في إطار السيرة الذاتية المبنية على ومضات الذاكرة، يؤكد هذا أن التأمل في قصص المجموعة وربطها في إطار سردي معين، ربما يقود المتلقي إلى حالة جديدة أو إلى وعي جديد مختلف يجعله يفكر في جنس العمل الأدبي الذي بين يديه، هل يدخل في نطاق القصة القصيرة، أم يدخل - بالرغم من التحديد النوعي الذي كتب على الغلاف - في جنس الرواية؟
No comments:
Post a Comment