Thursday, August 16, 2007

فضاءات الدلالة في الفردوس واليباب


فضاءات الدلالة في الفردوس واليباب


إن القارئ المتأمل لرواية "الفردوس اليباب" للكاتبة ليلى الجهني سيدرك من البداية أنه أمام نص مختلف لا يعطي

دلالة واحدة ترتبط بحادثة السقوط التي تمر بها فتاة، وإنما هو نص يعطي فضاءات عديدة للدلالة بالإضافة إلى الدلالة الجاهزة المرتبطة بالحكاية الأساسية في الرواية. وكلّ دلالة في هذا السياق لها مشروعيتها المستمدة من إيماءات بسيطة وردت في النص تحتاج فقط للوقوف عندها للتأمل.في البداية يمكن أن يلاحظ المتلقي أن هناك تناقضاً ظاهرياً في العنوان "الفردوس اليباب"، ولكن الرواية من خلال عطائها الدلالي سوف تهشم هذا التناقض الظاهري، فالفردوس - في ذلك السياق - ليس إلاّ جنة الحب، التي تحولت إلى يباب، لأن دخولها لم يكن مرتبطاً بالنسق التراتبي المعهود، حيث تقول الرواية على لسان البطلة "أنا التي غافلت الحرس... وولجت الفردوس". وربما كشفت طبقات الرواية عن ذلك المنحى، حين أشارت إلى أن هذا التجربة كانت نصلاً جارحاً.ولكن هذا الحادثة أو التجربة التي دخلتها الساردة وأدت بها إلى ذلك، لم تكن إلاّ قشرة خارجية، لكي ترشد المتلقي إلى احمرار الجرح الأساسي الخاص بالاستلاب الخاص الذي تعانيه المرأة، وخاصة في نظرة المجتمع إلى المرأة وإلى الرجل اللذين يدخلان التجربة دون مسمى مشروع. إن نظرة المجتمع تغفر للرجل، ولكن المرأة تظلّ متهمة. تتجلى بدايات هذا الشعور حين تقول في حديثها مع نفسها: أليس عذاباً أن تكوني امرأة؟ أحياناً يداهمني هذا الشعور عندما أحرم من أشياء تافهة فقط لأني امرأة.. وتبدو نظرة المجتمع واضحة في قولها: "إنت تلعب ما يهمش"، لكن هي "يهم، ويهم قوي".ولكن هذه الدلالة المرتبطة بالتذمر الهادئ على وضع ما، ليست النسق الدلالي الأخير الذي يمكن أن تنفتح عليه الرواية، فالتأمل في بعض أجزاء الرواية الصغيرة التي وردت في أماكن متباعدة من النص، ربما يفتح النص أفقاً خاصاً لتشكل الرموز، لتدفع فهمنا إلى اتجاه ما، بعيداً عن الحكاية الأساسية ذات البداية والنهاية. يتجلى ذلك حين تقول "عالم الكوكاكولا وهي تصرع بيبسي بالحملة الترويجية"، فندرك أن الحكاية الأساسية تولد معها دلالات مهمة مرتبطة بوجودنا في حدود ذلك العالم وقيمة ذلك الوجود. ولكن الوصول إلى هذه الدلالة المقترحة بخروج الدلالة عن إطارها المرتبط بالحكاية لا يعني بالضرورة أن تلغي الدلالة الرمزية المولدة دلالات القصة في إطارها العادي، فالرموز الدلالية لا تؤخذ على إطلاقها، وإنما في حدود تجليها.وإنما تتأكد حدود هذا الرمز الدلالي المرتبط بالسقوط العام انطلاقاً من السقوط الفردي، حين تقول "وا عرباه واعرباه، أدركوني، أغيثوني، غرناطة ستهوي، قدس أخرى ستسلب".. إنها حالة خاصة من السقوط، فالإنسان الذي يسقط تنفجر في داخله الجروح السابقة، وتكون الساردة في ذلك السياق أو البطلة ليست إلاّ معادلاً موضوعياً للمدن التي تهوي، وتأخذ نسقاً أكبر من فرديتها، وأكبر من اتحادها "بجدة" التي حاولت أن تؤسس ملامح خصوصية بينهما، وإنما تتحد بالكيان العربي، الذي فقد سطوة الحلم، بل فقد - أيضاً - متعة التعلق بالحلم والسعي إليه.وربما تجاوب مع هذا الرمز الذي أشرنا إليه شيء مهم يرتبط برصد المتغيرات الحياتية الخاصة التي علقت بمدينة جدة رجالاً ونساء وشيبا وشبابا، وهذا كله نوع من رصد المتغير الداخلي استجابة لمتغير أكبر، هو متغير كوني في الأساس.إن هذه الدلالات الخاصة بالحكاية الأساسية، وهي حادثة السقوط، المرتبطة بعرض وجهة النظر الخاصة في السياق الحياتي المعيش المرتبط بالمرأة وبوجودها، بالإضافة إلى حدود الرمز الخاص الذي يجعل السقوط مرتبطاً بالكيان العربي، كلها دلالات يمكن أن تفصح عنها الرواية في إطار آليات السرد الخاصة.ولقد جاءت الرواية في إطار سردي يعتمد على ضمير المتكلم، ولكنه إطار سردي يرتبط بالمفاجأة الذاتية، التي بدأت مع بداية الرواية واستمرت حتى نهايتها، وهي في وجودها واستمرارها ارتبطت بتقنيات عديدة مثل الحلم وتيار الوعي.والمفاجأة وتيار الوعي والحلم، كلها تقنيات وثيقة الصلة بحالة الشخصية الرئيسة في الرواية، حيث تعيش في منطقة وسطى بين الواقع والحلم، منطقة أقرب إلى حمى الهذيان. وقد أدى اعتماد الرواية على المفاجأة - بوصفها تقنية سردية تحمل العمل إلى المتلقي - إلى اصطناع لغة شديدة الخصوصية وشديدة الشعرية والتقتير في الوقت ذاته، هي لغة أقرب إلى لغة المتصوفة في اقترابهم وبعدهم من البهاء الأعظم. فالساردة - أيضاً ترسل - نجواها إلى وليدها المفقود، وترصد اقترابه وابتعاده عنها، وكذلك اقترابها وابتعادها عنه. إنها لغة تخالف كلّ آفاق التوقع من المتلقي مملوءة بحالة وجد تنكسر تدريجيا إلى لحظة النهاية والتطهر، وهي لغة منفتحة على كل الفضاءات، تقول مثلاً في الجزء الثالث "سفائن الغيم الصغيرة تمخر عباب السماء، وفوق رأسي يحلق سرب من الحمام الأبيض، فوق سماء المنزل الذي تحملني الخطى تجاه بابه" هذه اللغة ترسم الفضاء المشهدي والروائي للفعل المقبل، ويأتي الغيم إشارة للهم الداخلي النامي، والحمائم البيضاء تشير إلى الموت المقبل.وثمة جزئية مهمة في البناء الروائي في هذه الرواية ترتبط بالبناء التجاوري بين مشهد الافتضاض ومشهد التخلص من الطفل، فهناك المتعة التي لم تشعر من خلالها بالوجود وبالآخرين، وعلى الجانب الآخر نجد الألم المادي بالإضافة إلى الألم النفسي.ويأتي في الإطار ذاته الربط بين الحديث الدائر بين الأبطال في المسلسل المدبلج، وحركة المعنى النامية في النص الروائي، وكأن هناك بؤرة دلالية عامة تحرك الوجود بشكل أشمل وأعم، وينضوي في إطارها - بوصفه بنية صغرى - حادثة السقوط موضوع الرواية... تبقى نقطة تفضل بالبناء الإطاري للرواية، فالمتأمل في الرواية يدرك أنها جاءت في الفصول التالية: الهواء مخنوقاً، وتفاصيل اللوعة، وقارة ثامنة تفور، وسقوط الوردة، ولن تبكي الحساسين على الشرفات، واختزال الروح...وقد يرى بعضهم أن هناك تزيداً ما بعد الفصل الرابع الذي انتهت الرواية به بعد فعل الموت أو الانتحار، ومن ثم يعتبرون الفصلين الأخيرين زيادة، ويمكن دمجها من خلال تقنيات فنية في صلب الفصول السابقة. ولكن المتأمل في الرواية يدرك أن وجود هذين الفصلين مهم بعض الشيء، لأننا أشرنا سابقاً في حديثنا عن فضاء الدلالة إلى أن الرواية تحاول طرح وجهة نظر للسياق الحضاري المعيش، ويأتي فعل الانتحار الذي اختارته الرواية أحد الحلول الواعية لتلك الإشكالية، ومن ثم كان هذا التمدد في الغباء الخاص للرواية.إن الانتحار ليس إلاّ حجراً مقذوفاً في الماء الراكد أو الآسن، فتمدد الرواية بعد ذلك له ما يبرره لمعاينة أثر قطرات الماء التي ارتفعت، وتهادت، هل استطاعت أن تغير مجرى النهر المؤسس القديم، أم إن الفعل لم ينجز المطلوب؟.إنها محاولة لكتابة موتها ومعاينة وجودها من جديد، من خلال التأثير في حركات الآخرين وقرارهم ورد فعلهم المتوقع، إنها نزوع إلى الوجود على الرغم من الغياب الحقيقي

No comments: