مقالي في الموقف الأدبي
المفارقة والبنيات المتقابلة
ربَّما كانت محاولة الدخول إلى شعرية ديوان الشاعر خالد الأنشاصي "موسيقى الجنائز" محاولة ممتعة، لأنها توجه المتلقي توجيهاً ساكناً لا يمارس سطوة مطلقة بالمعرفة، فالشاعر لا يملك إلا وعيه الخاص يقدمه بطريقة تؤسس رؤيته في إطار تقنياته الخاصة.
وسوف تفصح المحاولة عن لفت نظر المتلقي إلى شيئين مهمين، الأول منهما: أن العنوان بوجوده على صفحة الغلاف يتساوق مع وجود القصيدة التي تأتي في نهاية الديوان والتي تحمل عنوان الديوان، وربما يشير هذا إلى فضاء خاص للجنائز تحيط بالشاعر الفرد، وبالجنس العربي ـ بوصفه إطاراً أعلى وأعمق للدلالة ـ في كل الأزمان وكل الأوقات، وكأن مشهد الجنائز بوصفه دلالة مرئية لدى المتلقي قد تحول إلى فن زمني ـ الموسيقى ـ متحرّك يتسرب تلقائياً إلى الفضاء المحيط. ووجود هذه الموسيقى أو الإحساس بها يشير إلى اختلاف يرتبط بطبيعة الأديب، فهو ـ لإحساسه المفرط ـ يستطيع أن يشعر بهذه الموسيقى، موسيقى الجنائز، دبيب خاص بالنهاية، لا يحسها ـ بل ولا يعطيها ملامحها ونغماتها ـ إلا الشاعر الذي يولّدها فضاء سديمياً يحيط به.
أمَّا الجزئية الثانية التي تلفت النظر في هذا التدوير الخاص بالعنوان ووضع القصيدة التي تحمل اسمه: فهي جزئية خاصة بغياب كلمة الجنائز من عنوان القصيدة، فقد سمّاها الشاعر "موسيقى" فقط، دون استكمال العنوان، وسوف تطلّ تفسيرات عديدة تحوم حول المتلقي لتبرير ذلك الاختيار، وربما يكون هذا التفسير موجوداً لدى المتلقي للوهلة الأولى، وهو أن اسم الديوان يختلف عن اسم القصيدة، وهذا مشروع وموجود غالباً في بعض الدواوين، بحيث تتضافر مجموعة القصائد المنضوية تحت العنوان في تشكيل حالة دلالية متفردة.
ولكن هذا التفسير يبدأ وهجه في الفتور تدريجياً، حين نقرأ نص القصيدة:
هل ثمَّة موسيقى
كل جنائزنا سارت في صمت
حتّى
هذا الديوان!!
وهنا سوف ندرك أن الحذف هنا متعمد، لأنَّ الجنائز التي أشار إليها الديوان في القصائد السابقة على المستوى الفردي والجمعي، تكفي لإثارة رائحة الجنائز، وتشكيل وجودها. وربما يأتي تفسير آخر نابع من النص نفسه، وهو تفسير يرتبط في الأساس بالمعرفة المفقودة، تشير إلى الكارثة، ولكن ليس هناك أحد يسمع إلى تلك الملحمة الجنائزية التي أشار إليها الديوان.
إن خالد الأنشاصي يتماهى في هذه اللحظة مع زرقاء اليمامة رمز المعرفة المفقودة، ومع كل شاعر حقيقي يستطيع من خلال تحليل اللحظة الراهنة أن يستشرف الغد القادم.
وفي ذلك الإطار الذي يهتم بتناول الملاحق النصية بوصفها بوصلة يمكن أن تحدد آفاق القراءة، سنجد الإهداء يتجه نحو جزئية فردية عند تحليلها للوهلة الأولى، حين يقول: "إلى سيدة الماء، بعضاً من حقول العطش" وهذا التفسير الأول يمكن أن يشير إلى محدودية الرؤية، حين يرتبط بالعاشق الذي يتعلق بسلطة نموذج أنثوي يترفع عن التحقيق، ويكون هذا الغناء/ الديوان ليس إلا تجلياً للعطش، الذي صنعه ولوَّن ملامحه البعد والتأبي، وهذا الغناء في ذلك الإطار ربَّما يضفي قليلاً من الري في الفلاة التي يحيا فيها صباح مساء.
ولكن تأمل الديوان كياناً كاملاً ربَّما يهشم هذا التفسير، وإن ظلّ موجوداً، مشكلاً خلفية أولى، ينمو من خلالها التفسير الذي يتخلى عن فردية الرؤية ويلتحم بالموضوع، وفي هذه الحالة سوف تنمو دلالة سيدة الماء، وتغادر ماديتها لتلتحم بسلطة نموذج متخيّل يرتبط باليوتويبا المتخيّلة أو الفطرية، فالمبدع ـ الحقيقي ـ يعيش دائماً في حالة من صدام مع الواقع، حتّى لو كان هذا الواقع جميلاً ومهادناً، ويغدو ـ العطش ـ والحالة تلك إلى حالة من عدم الرضا، يؤيد ذلك أن سلطة المتخيّل الأنثوي لم تظهر في هذا الديوان بشكل يؤهلها لكي تكون فكرة مسيطرة.
وربما ينهض الوقوف عند بعض قصائد الديوان في ذلك السياق، دليلاً قوياً لتشكيل دلالة الإهداء، ووضعه في إطار البناء الموضوعي، الذي قد ينطلق من الفردي، ويلتحم به، فالموضوعي في الديوان موجود بقوة لدرجة أننا يمكن أن نربطه بالالتزام، ذلك المصطلح الذي أصبح سيئ السمعة في اللحظة الشعرية الراهنة، التي تحاول أن تشكل وجودها من خلال انفلاتها من الإيمان بالقضية بشكل عام، وارتباطها بالفني في مستواه العميق.
فعلى سبيل المثال حين نقرأ قصيدة "أنشاص" وهي القرية التي ينتمي إليها، وينسب إليها في الوقت ذاته، سنجد أن فردية الرؤية، وفردية الحلم النامي داخلياً والذي عقده السارد بينه وبين نفسه والمرتبط بالوعد، لم تستطع أن تقضي على الرؤية الموضوعية، أو على الأصح الفردية، كانت في أبرز تجلياتها مرتبطة بالواقع الموضوعي على نحو معيّن، فحين يقول الشاعر:
لم أف بما وعدت،
ولم أعد محملاً بشيء
ولم أحاول مرة
أن أزيل طينك القديم
لكنني استطعت
أن أمنح اسمي الصغير
رائحتك الشهية
ولم تزل أكلتي المفضلة
فولاً أخضر
كباقي حمير بلادنا
إلا أن صوتنا
لم يزل مواء
مواااء!!
فسنجد أن التأمل الدقيق لذلك النص ربَّما يشير إلى توزعه بين مجالين، الأول مجال التفرد المرتبط بحلم خاص، وبوعد خاص، قطعه السارد الفعلي على نفسه يحققه لبلده، وفي هذا المجال سوف تتجلى آليات حميمية بين الفرع المتمثل في السارد الفعلي، والأصل المتمثل في البلدة، يتجلى ذلك في وصف "الصغير" الذي أسدله السارد على اسمه الذي يشير إلى التفاني والذوبان في الكيان الأعظم. إن الدلالة في الجزء الأول السابق ما زالت دائرة في إطار أنشاص/ القرية، ولكن هذه الدلالة الجزئية سوف تغادر طبيعتها الجزئية لتلتحم بكيان أعظم، والنص الشعري في إبراقه إلى الدلالة لا يشير بشكل مباشر وتلقائي، وإنما يقدمها عن طريق الإيماءات الرمزية. فمن خلال "الفول الأخضر"، يمكن أن تتجلى دلالة الوعي الإدراكي ووقوفه عند مرحلة إدراكية خاصة ترى الحياة من أيسر جوانبها، وهو بهذا الإدراك الفطري ينضم إلى جانب عريض من أبناء قريته/ بلده (الشكل الأكبر للقرية) ولكن النص الشعري يأخذنا من هذا الجانب الخاص المسلم بكل شيء، ليضعنا في إطار مواجه للصورة، أو الطرف المقابل لها، فإذا كان السارد في الوجه الأول خانعاً راضياً، فإنه في الوجه الآخر بدت على ملامحه علامات التبرم المتمثلة في المواء.
إن التحوّل من دلالة الحمير الخانعة إلى القطط المتربصة بالهجوم لأقل هفوة، قد يشير دلالياً إلى طبيعة الفرد/ الشعب، الذي يمكن أن يكون الإلحاح على إهدار حقوقه المشروعة سبباً أساسياً للخروج عن نسق قطيع التسليم، والانزواء تحت كيان فصيلة أخرى تنتهج الهجوم طريقاً بدلاً من التسليم والخنوع.
إن طبيعة الشعرية التي يقدّمها خالد الأنشاصي، تتجلى في خفوتها الخاص، فهي تعلن عن موقفها الحياتي، والإنساني دون ضجيج لافت، فلم تعد فخامة البناء الشعري تغرر بالشعراء، بل أصبح هناك خصوصية للرصد الإنساني، يتجلى من خلالها الموقف الإنساني والحياتي، ولكنه موقف خاص تشكله شعرية لها طبيعتها الخاصة. وهذا الموقف لا يقف عند حدود الفردي، أو الجمعي المرتبط بالوطن المحدد مصر، وإنما يمتدّ ليشمل الوطن العربي كلّه في إطار نبوءة المعرفة، ففي قصيدته "قبر":
لا شيء سوى القبر
يكبر فينا منذ الميلاد
إلى الموت
...
صلوا من أجل الخيل
وقولوا:
فليرحم بارئنا جنساً عربياً
كان هنا.
سوف نجد أيضاً أن النص الشعري يضعنا في مواجهة جزأين مهمين: الأول منهما يبدأ من بداية القصيدة إلى النقط الموضوعة، وهذا الجزء يقف للوهلة الأولى عند حدود رؤية إنسانية ترى الموت ضرورة حياتية، يبدأ الشعور بوجودها وبدبيبها من لحظة الميلاد، وهذا تصور فلسفي وديني مقبول.
ولكن الجزء الثاني من النص، ينطلق من المنظومة الدلالية الخاصة في الجزء الأول ليضعنا وجهاً لوجه مع حقيقة أخرى، تختلف عن الموت الطبيعي المرتبط بالكائن الحي، ولكنه موت جنس مرتبط بالجنس العربي فقط، ومن هنا كان الإلحاح على الصلاة من أجل الخيل التي تمثل رمزاً للإباء العربي، ووسيلة القتال والصراع، والنص الشعري لخالد الأنشاصي في ذلك السياق لا يتناص مع نص معين، وإنما يتناص مع المتراكم والمؤسس دلالياً بقصائد حديثة وقديمة في الوقت ذاته، ترى في شماس الخيل قوة، قد بدأت تقل أو تتلاشى على المستوى العربي، ومن هنا كانت الصلاة من أجل الخيل التي تتوازى في الوقت ذاته مع ممتطيها.
والشعرية الخاصة التي يقدمها الديوان شعرية منسربة تتأسس تدريجياً من انكسار الإيقاع والخفوت، ولكنها في النهاية تصدمنا، وتلفحنا مرة أخرى، حين تصل إلى قمة المأساة، بالرغم من هذا الخفوت وتغييب الإيقاع...
ومن سمات هذا التغييب الإيقاعي، محاولة الشاعر الاتكاء على جزئيات أخرى تصلح لأن تكون بديلاً عن هذا المدّ الإيقاعي الخافت، منها الاتكاء على الصورة الشعرية، ومنها الاتكاء على المفارقة المعتمدة على نسق ثنائي متقابل أو متكامل. والاعتماد على الثنائيات المتقابلة سمة أساسية في الديوان، خاصة حين ترتبط هذه الثنائية بخصوصية التشكيل الإنساني المشدود دائماً إلى السماء والأرض في آن، أو في إطار ثنائية الروح والجسد، أو في إطار ثنائية الشاعر والإنسان، وهي ثنائية ربَّما نجد صداها واضحاً في أشعار كثيرين، ففي قصيدة "تكوين":
كان على حافة
الحلم
كنت على شفة
الرغبة
ما علمتنا الحياة
أن نقدم رجلاً
ونقطع أخرى
سنجد أن النص الشعري يلح على ثنائية أساسية في التكوين الإنساني، تتصل بالإنسان الحاضر لحماً ودماً، والشاعر الغائب المتواري، الإنسان المرتبط بكل ما هو فطري ومثالي.
والإنسان الشاعر يعاني غالباً من هذه الازدواجية، وهذه الازدواجية مستمرة، لأنَّه لا يستطيع ـ وكذلك الحياة لم تعلّمه ـ أن يستغني عن الإنسان المتجلي في التعامل الإنساني، وكذلك لا يمكن أن يستغني عن الشاعر صاحب المعرفة النافذة. والتأمل في النص ربَّما يعيدنا إلى نص شهير لسعدي يوسف، الذي يعتبر صاحب البصمة الأولى ـ فيما وقع لدي من دواوين ـ في تصوير ذلك التعارك الداخلي بين الإنسان والشاعر، وذلك في قصيدته "الأخضر بن يوسف ومشاغله".
ولا يقف الإلحاح على الثنائية عند حدود تصوير التكوين الإنساني، وإنما يأخذ الاعتماد على الثنائية شكلاً أساسياً، بحيث تغدو سمة قارة، في زوايا الديوان، والاعتماد على الثنائية يوجد في الديوان إحساساً خاصاً بالتوتر حين يتجلى في إطار الأطراف الثنائية المتقابلة، ففي قصيدته عن ديوان محمود درويش "لماذا تركت الحصان وحيداً" سنجد أن معالجته لا تقف عند حدود الديوان، وإنما تمتد لتصور ثنائية المغتصِب والمغتصَب، والظالم والمظلوم. والمتأمل للنص يدرك أن هذه الثنائية أخذت بعداً أقوى، فقذفه الحجر التي تنطلق من الطفل تشير إلى معنى إنساني يرتبط بالرجم الخاص للشيطان.
إن النص في اعتماده على بناء الثنائية المتقابلة، يكتفي بعرض القضية من خلال الوصف التفصيلي القائم على المغايرة، وتتجلى المغايرة في فكرة الشموخ والإيمان بالقضية الممثلة في ركض الحصان، فهذا الركض ليس معناه إلا أن هناك أملاً وإيماناً بالنموذج المتخيّل في الغد القادم، وهذا الإيمان موجود أو يتكوّن في إطار ثنائية متقابلة تتضمن طلقة رصاص المغتصب، وقذفة الحجر من الطفل. إن عرض الشعرية القائم على التوتر في ذلك الإطار الشكلي يشكل نسيج تكوينات مختلفة، فالرصاص له قدرته، ولكن الإيمان بالحق له أيضاً قدرته، ولهذا كان التساؤل في نهاية النص عن المنتصر له ما يبرره.
وسوف تؤدي هذه الثنائيات المتقابلة ـ بالضرورة ـ إلى ميلاد المفارقة الشعرية، ودورها التأسيسي في شيوع حالة التوتر، حيث تنتقل ذهنية المتلقي من النقيض إلى النقيض. ففي قصيدة "أغبياء" تتشكل الثنائيات المتوازنة على مدارات عديدة في إطار جوانب متقابلة، فهناك الشاعر/ السارد الفعلي في النص، وهناك الأصدقاء الذين تركهم الشاعر في وطنه، وهناك الحياة المملوءة بالانتظار في ذهن هؤلاء، وهناك الموت المرتبط بالغربة في نسق ومنطق السارد الفعلي في النص:
أصدقائي
الذين تركتهم هناك
ينتظرون عودتي
أغبياء
لم يفهموا أن الموتى
أدركوا اتساع القبر!
إن شعرية النص تقوم على ثنائية متقابلة في الوعي بالعالم والحياة، فالصداقة الدافقة المملوءة بوعد الانتظار، والموت المرتبط بالغربة. الغربة في منطق الشاعر ليست إلا قبراً يتسع له ولآخرين. إن السطرين الأخيرين يجعلان المتلقي يعيد تشكيل النص مرّة أخرى، حتّى يفصح عن حياة سابقة دافقة مملوءة بالأصدقاء والانتظار، وحياة آنية مملوءة برائحة الموت.
والمفارقة في شعر خالد الأنشاصي ليست بالضرورة وليدة بنية ثنائية متوازنة، ولكنها في بعض الأحيان تكون وليدة بنية نامية من إطار إلى إطار أو من وعي إلى وعي آخر، ومن إدراك إلى إدراك، ففي قصيدة "شَعرها"، التي يقول فيها:
شَعرها،
لم يكن كستنائياً أبداً
ولا أصفرَ ينساب
على عينين خضراوين
كما تكذب المرآة
شَعرها كان حمامة
تعلّق جناحيها
في سقف غرفتي
وظلها
يعري جسدي.
نرى أن النص الذي بين أيدينا ـ بالرغم من بساطته التركيبية ـ يدخل بنا إلى آفاق معرفية خاصة، حيث يمكن تقسيم النص إلى جزأين، حيث ينتهي الجزء الأول عند كلمة "المرأة". وفي هذا الجزء نلاحظ الوعي البصري الذي قدم سرداً حقيقياً لمفاتن المرأة من الشعر الكستنائي أو الأصفر الذي ينساب على العينين الخضراوين.
ولكن القصيدة لا تنطلق لكي تصور هذا الوعي البصري المعتمد على السرد الجمالي لصفات المرأة، وإنما كان الانطلاق أساساً للذهاب للجزئية الثانية، التي تبدأ من قوله: "شَعرها كان حمامة". ولم يكن تقديم الجزء السابق إلا فضاء يتجلى من خلاله الجزء الثاني، ويكون ـ في الوقت ذاته ـ مجالاً لهذا التصوير الخاص الذي يندّ عن أي تصور واقعي، فالشعر حمامة تعلق جناحيها بحيث تشكل ظلاً وإطاراً للحركة وللسعي. والمحبوبة ـ في هذا الوعي الإدراكي الخاص ـ ليست إلا سماءً تمثل ظلاً، يجعل الحياة بالرغم من هجيرها لها رائحة الندى، وتدفع للاستمرار، لأنها تفتح أفق الانتظار.
إن المفارقة في النص السابق لا تتولد من المتوازي بين بنيتين، وإنما تتولد من توالي الوعي ونموّه، بحيث يبقى الوعي الفطري ـ لدى كل شاعر ـ موجوداً بالرغم من انتقاله إلى حالة موضوعية من الوعي، تبيح له التمتع بجمال المرأة، دون هيمنة كاسرة عليه، بحيث يدركها كياناً دافقاً، يتوق إلى الرجل كما يتوق إليها.
إن ديوان موسيقى الجنائز يقدّم شعريته الخاصة القائمة على الثنائيات المتقابلة، التي تشكل نواة للمفارقة القائمة على التوتر، فالشاعر غالباً يحاول أن يهذب رؤيته أو إدراكه من خلال إدخالها إلى نيران المفارقة، ومن ثمَّ تقدم هذه الرؤية في إطار فني جميل، يبعدها عن المباشرة.
ولكن شعرية الديوان ـ بالرغم من اعتمادها على المفارقة وعلى خفوت الإيقاع وتغييبه ـ تندمج في الوقت ذاته مع الرؤية الموضوعية التي يلتحم فيها الذاتي بالموضوعي.
المفارقة والبنيات المتقابلة
ربَّما كانت محاولة الدخول إلى شعرية ديوان الشاعر خالد الأنشاصي "موسيقى الجنائز" محاولة ممتعة، لأنها توجه المتلقي توجيهاً ساكناً لا يمارس سطوة مطلقة بالمعرفة، فالشاعر لا يملك إلا وعيه الخاص يقدمه بطريقة تؤسس رؤيته في إطار تقنياته الخاصة.
وسوف تفصح المحاولة عن لفت نظر المتلقي إلى شيئين مهمين، الأول منهما: أن العنوان بوجوده على صفحة الغلاف يتساوق مع وجود القصيدة التي تأتي في نهاية الديوان والتي تحمل عنوان الديوان، وربما يشير هذا إلى فضاء خاص للجنائز تحيط بالشاعر الفرد، وبالجنس العربي ـ بوصفه إطاراً أعلى وأعمق للدلالة ـ في كل الأزمان وكل الأوقات، وكأن مشهد الجنائز بوصفه دلالة مرئية لدى المتلقي قد تحول إلى فن زمني ـ الموسيقى ـ متحرّك يتسرب تلقائياً إلى الفضاء المحيط. ووجود هذه الموسيقى أو الإحساس بها يشير إلى اختلاف يرتبط بطبيعة الأديب، فهو ـ لإحساسه المفرط ـ يستطيع أن يشعر بهذه الموسيقى، موسيقى الجنائز، دبيب خاص بالنهاية، لا يحسها ـ بل ولا يعطيها ملامحها ونغماتها ـ إلا الشاعر الذي يولّدها فضاء سديمياً يحيط به.
أمَّا الجزئية الثانية التي تلفت النظر في هذا التدوير الخاص بالعنوان ووضع القصيدة التي تحمل اسمه: فهي جزئية خاصة بغياب كلمة الجنائز من عنوان القصيدة، فقد سمّاها الشاعر "موسيقى" فقط، دون استكمال العنوان، وسوف تطلّ تفسيرات عديدة تحوم حول المتلقي لتبرير ذلك الاختيار، وربما يكون هذا التفسير موجوداً لدى المتلقي للوهلة الأولى، وهو أن اسم الديوان يختلف عن اسم القصيدة، وهذا مشروع وموجود غالباً في بعض الدواوين، بحيث تتضافر مجموعة القصائد المنضوية تحت العنوان في تشكيل حالة دلالية متفردة.
ولكن هذا التفسير يبدأ وهجه في الفتور تدريجياً، حين نقرأ نص القصيدة:
هل ثمَّة موسيقى
كل جنائزنا سارت في صمت
حتّى
هذا الديوان!!
وهنا سوف ندرك أن الحذف هنا متعمد، لأنَّ الجنائز التي أشار إليها الديوان في القصائد السابقة على المستوى الفردي والجمعي، تكفي لإثارة رائحة الجنائز، وتشكيل وجودها. وربما يأتي تفسير آخر نابع من النص نفسه، وهو تفسير يرتبط في الأساس بالمعرفة المفقودة، تشير إلى الكارثة، ولكن ليس هناك أحد يسمع إلى تلك الملحمة الجنائزية التي أشار إليها الديوان.
إن خالد الأنشاصي يتماهى في هذه اللحظة مع زرقاء اليمامة رمز المعرفة المفقودة، ومع كل شاعر حقيقي يستطيع من خلال تحليل اللحظة الراهنة أن يستشرف الغد القادم.
وفي ذلك الإطار الذي يهتم بتناول الملاحق النصية بوصفها بوصلة يمكن أن تحدد آفاق القراءة، سنجد الإهداء يتجه نحو جزئية فردية عند تحليلها للوهلة الأولى، حين يقول: "إلى سيدة الماء، بعضاً من حقول العطش" وهذا التفسير الأول يمكن أن يشير إلى محدودية الرؤية، حين يرتبط بالعاشق الذي يتعلق بسلطة نموذج أنثوي يترفع عن التحقيق، ويكون هذا الغناء/ الديوان ليس إلا تجلياً للعطش، الذي صنعه ولوَّن ملامحه البعد والتأبي، وهذا الغناء في ذلك الإطار ربَّما يضفي قليلاً من الري في الفلاة التي يحيا فيها صباح مساء.
ولكن تأمل الديوان كياناً كاملاً ربَّما يهشم هذا التفسير، وإن ظلّ موجوداً، مشكلاً خلفية أولى، ينمو من خلالها التفسير الذي يتخلى عن فردية الرؤية ويلتحم بالموضوع، وفي هذه الحالة سوف تنمو دلالة سيدة الماء، وتغادر ماديتها لتلتحم بسلطة نموذج متخيّل يرتبط باليوتويبا المتخيّلة أو الفطرية، فالمبدع ـ الحقيقي ـ يعيش دائماً في حالة من صدام مع الواقع، حتّى لو كان هذا الواقع جميلاً ومهادناً، ويغدو ـ العطش ـ والحالة تلك إلى حالة من عدم الرضا، يؤيد ذلك أن سلطة المتخيّل الأنثوي لم تظهر في هذا الديوان بشكل يؤهلها لكي تكون فكرة مسيطرة.
وربما ينهض الوقوف عند بعض قصائد الديوان في ذلك السياق، دليلاً قوياً لتشكيل دلالة الإهداء، ووضعه في إطار البناء الموضوعي، الذي قد ينطلق من الفردي، ويلتحم به، فالموضوعي في الديوان موجود بقوة لدرجة أننا يمكن أن نربطه بالالتزام، ذلك المصطلح الذي أصبح سيئ السمعة في اللحظة الشعرية الراهنة، التي تحاول أن تشكل وجودها من خلال انفلاتها من الإيمان بالقضية بشكل عام، وارتباطها بالفني في مستواه العميق.
فعلى سبيل المثال حين نقرأ قصيدة "أنشاص" وهي القرية التي ينتمي إليها، وينسب إليها في الوقت ذاته، سنجد أن فردية الرؤية، وفردية الحلم النامي داخلياً والذي عقده السارد بينه وبين نفسه والمرتبط بالوعد، لم تستطع أن تقضي على الرؤية الموضوعية، أو على الأصح الفردية، كانت في أبرز تجلياتها مرتبطة بالواقع الموضوعي على نحو معيّن، فحين يقول الشاعر:
لم أف بما وعدت،
ولم أعد محملاً بشيء
ولم أحاول مرة
أن أزيل طينك القديم
لكنني استطعت
أن أمنح اسمي الصغير
رائحتك الشهية
ولم تزل أكلتي المفضلة
فولاً أخضر
كباقي حمير بلادنا
إلا أن صوتنا
لم يزل مواء
مواااء!!
فسنجد أن التأمل الدقيق لذلك النص ربَّما يشير إلى توزعه بين مجالين، الأول مجال التفرد المرتبط بحلم خاص، وبوعد خاص، قطعه السارد الفعلي على نفسه يحققه لبلده، وفي هذا المجال سوف تتجلى آليات حميمية بين الفرع المتمثل في السارد الفعلي، والأصل المتمثل في البلدة، يتجلى ذلك في وصف "الصغير" الذي أسدله السارد على اسمه الذي يشير إلى التفاني والذوبان في الكيان الأعظم. إن الدلالة في الجزء الأول السابق ما زالت دائرة في إطار أنشاص/ القرية، ولكن هذه الدلالة الجزئية سوف تغادر طبيعتها الجزئية لتلتحم بكيان أعظم، والنص الشعري في إبراقه إلى الدلالة لا يشير بشكل مباشر وتلقائي، وإنما يقدمها عن طريق الإيماءات الرمزية. فمن خلال "الفول الأخضر"، يمكن أن تتجلى دلالة الوعي الإدراكي ووقوفه عند مرحلة إدراكية خاصة ترى الحياة من أيسر جوانبها، وهو بهذا الإدراك الفطري ينضم إلى جانب عريض من أبناء قريته/ بلده (الشكل الأكبر للقرية) ولكن النص الشعري يأخذنا من هذا الجانب الخاص المسلم بكل شيء، ليضعنا في إطار مواجه للصورة، أو الطرف المقابل لها، فإذا كان السارد في الوجه الأول خانعاً راضياً، فإنه في الوجه الآخر بدت على ملامحه علامات التبرم المتمثلة في المواء.
إن التحوّل من دلالة الحمير الخانعة إلى القطط المتربصة بالهجوم لأقل هفوة، قد يشير دلالياً إلى طبيعة الفرد/ الشعب، الذي يمكن أن يكون الإلحاح على إهدار حقوقه المشروعة سبباً أساسياً للخروج عن نسق قطيع التسليم، والانزواء تحت كيان فصيلة أخرى تنتهج الهجوم طريقاً بدلاً من التسليم والخنوع.
إن طبيعة الشعرية التي يقدّمها خالد الأنشاصي، تتجلى في خفوتها الخاص، فهي تعلن عن موقفها الحياتي، والإنساني دون ضجيج لافت، فلم تعد فخامة البناء الشعري تغرر بالشعراء، بل أصبح هناك خصوصية للرصد الإنساني، يتجلى من خلالها الموقف الإنساني والحياتي، ولكنه موقف خاص تشكله شعرية لها طبيعتها الخاصة. وهذا الموقف لا يقف عند حدود الفردي، أو الجمعي المرتبط بالوطن المحدد مصر، وإنما يمتدّ ليشمل الوطن العربي كلّه في إطار نبوءة المعرفة، ففي قصيدته "قبر":
لا شيء سوى القبر
يكبر فينا منذ الميلاد
إلى الموت
...
صلوا من أجل الخيل
وقولوا:
فليرحم بارئنا جنساً عربياً
كان هنا.
سوف نجد أيضاً أن النص الشعري يضعنا في مواجهة جزأين مهمين: الأول منهما يبدأ من بداية القصيدة إلى النقط الموضوعة، وهذا الجزء يقف للوهلة الأولى عند حدود رؤية إنسانية ترى الموت ضرورة حياتية، يبدأ الشعور بوجودها وبدبيبها من لحظة الميلاد، وهذا تصور فلسفي وديني مقبول.
ولكن الجزء الثاني من النص، ينطلق من المنظومة الدلالية الخاصة في الجزء الأول ليضعنا وجهاً لوجه مع حقيقة أخرى، تختلف عن الموت الطبيعي المرتبط بالكائن الحي، ولكنه موت جنس مرتبط بالجنس العربي فقط، ومن هنا كان الإلحاح على الصلاة من أجل الخيل التي تمثل رمزاً للإباء العربي، ووسيلة القتال والصراع، والنص الشعري لخالد الأنشاصي في ذلك السياق لا يتناص مع نص معين، وإنما يتناص مع المتراكم والمؤسس دلالياً بقصائد حديثة وقديمة في الوقت ذاته، ترى في شماس الخيل قوة، قد بدأت تقل أو تتلاشى على المستوى العربي، ومن هنا كانت الصلاة من أجل الخيل التي تتوازى في الوقت ذاته مع ممتطيها.
والشعرية الخاصة التي يقدمها الديوان شعرية منسربة تتأسس تدريجياً من انكسار الإيقاع والخفوت، ولكنها في النهاية تصدمنا، وتلفحنا مرة أخرى، حين تصل إلى قمة المأساة، بالرغم من هذا الخفوت وتغييب الإيقاع...
ومن سمات هذا التغييب الإيقاعي، محاولة الشاعر الاتكاء على جزئيات أخرى تصلح لأن تكون بديلاً عن هذا المدّ الإيقاعي الخافت، منها الاتكاء على الصورة الشعرية، ومنها الاتكاء على المفارقة المعتمدة على نسق ثنائي متقابل أو متكامل. والاعتماد على الثنائيات المتقابلة سمة أساسية في الديوان، خاصة حين ترتبط هذه الثنائية بخصوصية التشكيل الإنساني المشدود دائماً إلى السماء والأرض في آن، أو في إطار ثنائية الروح والجسد، أو في إطار ثنائية الشاعر والإنسان، وهي ثنائية ربَّما نجد صداها واضحاً في أشعار كثيرين، ففي قصيدة "تكوين":
كان على حافة
الحلم
كنت على شفة
الرغبة
ما علمتنا الحياة
أن نقدم رجلاً
ونقطع أخرى
سنجد أن النص الشعري يلح على ثنائية أساسية في التكوين الإنساني، تتصل بالإنسان الحاضر لحماً ودماً، والشاعر الغائب المتواري، الإنسان المرتبط بكل ما هو فطري ومثالي.
والإنسان الشاعر يعاني غالباً من هذه الازدواجية، وهذه الازدواجية مستمرة، لأنَّه لا يستطيع ـ وكذلك الحياة لم تعلّمه ـ أن يستغني عن الإنسان المتجلي في التعامل الإنساني، وكذلك لا يمكن أن يستغني عن الشاعر صاحب المعرفة النافذة. والتأمل في النص ربَّما يعيدنا إلى نص شهير لسعدي يوسف، الذي يعتبر صاحب البصمة الأولى ـ فيما وقع لدي من دواوين ـ في تصوير ذلك التعارك الداخلي بين الإنسان والشاعر، وذلك في قصيدته "الأخضر بن يوسف ومشاغله".
ولا يقف الإلحاح على الثنائية عند حدود تصوير التكوين الإنساني، وإنما يأخذ الاعتماد على الثنائية شكلاً أساسياً، بحيث تغدو سمة قارة، في زوايا الديوان، والاعتماد على الثنائية يوجد في الديوان إحساساً خاصاً بالتوتر حين يتجلى في إطار الأطراف الثنائية المتقابلة، ففي قصيدته عن ديوان محمود درويش "لماذا تركت الحصان وحيداً" سنجد أن معالجته لا تقف عند حدود الديوان، وإنما تمتد لتصور ثنائية المغتصِب والمغتصَب، والظالم والمظلوم. والمتأمل للنص يدرك أن هذه الثنائية أخذت بعداً أقوى، فقذفه الحجر التي تنطلق من الطفل تشير إلى معنى إنساني يرتبط بالرجم الخاص للشيطان.
إن النص في اعتماده على بناء الثنائية المتقابلة، يكتفي بعرض القضية من خلال الوصف التفصيلي القائم على المغايرة، وتتجلى المغايرة في فكرة الشموخ والإيمان بالقضية الممثلة في ركض الحصان، فهذا الركض ليس معناه إلا أن هناك أملاً وإيماناً بالنموذج المتخيّل في الغد القادم، وهذا الإيمان موجود أو يتكوّن في إطار ثنائية متقابلة تتضمن طلقة رصاص المغتصب، وقذفة الحجر من الطفل. إن عرض الشعرية القائم على التوتر في ذلك الإطار الشكلي يشكل نسيج تكوينات مختلفة، فالرصاص له قدرته، ولكن الإيمان بالحق له أيضاً قدرته، ولهذا كان التساؤل في نهاية النص عن المنتصر له ما يبرره.
وسوف تؤدي هذه الثنائيات المتقابلة ـ بالضرورة ـ إلى ميلاد المفارقة الشعرية، ودورها التأسيسي في شيوع حالة التوتر، حيث تنتقل ذهنية المتلقي من النقيض إلى النقيض. ففي قصيدة "أغبياء" تتشكل الثنائيات المتوازنة على مدارات عديدة في إطار جوانب متقابلة، فهناك الشاعر/ السارد الفعلي في النص، وهناك الأصدقاء الذين تركهم الشاعر في وطنه، وهناك الحياة المملوءة بالانتظار في ذهن هؤلاء، وهناك الموت المرتبط بالغربة في نسق ومنطق السارد الفعلي في النص:
أصدقائي
الذين تركتهم هناك
ينتظرون عودتي
أغبياء
لم يفهموا أن الموتى
أدركوا اتساع القبر!
إن شعرية النص تقوم على ثنائية متقابلة في الوعي بالعالم والحياة، فالصداقة الدافقة المملوءة بوعد الانتظار، والموت المرتبط بالغربة. الغربة في منطق الشاعر ليست إلا قبراً يتسع له ولآخرين. إن السطرين الأخيرين يجعلان المتلقي يعيد تشكيل النص مرّة أخرى، حتّى يفصح عن حياة سابقة دافقة مملوءة بالأصدقاء والانتظار، وحياة آنية مملوءة برائحة الموت.
والمفارقة في شعر خالد الأنشاصي ليست بالضرورة وليدة بنية ثنائية متوازنة، ولكنها في بعض الأحيان تكون وليدة بنية نامية من إطار إلى إطار أو من وعي إلى وعي آخر، ومن إدراك إلى إدراك، ففي قصيدة "شَعرها"، التي يقول فيها:
شَعرها،
لم يكن كستنائياً أبداً
ولا أصفرَ ينساب
على عينين خضراوين
كما تكذب المرآة
شَعرها كان حمامة
تعلّق جناحيها
في سقف غرفتي
وظلها
يعري جسدي.
نرى أن النص الذي بين أيدينا ـ بالرغم من بساطته التركيبية ـ يدخل بنا إلى آفاق معرفية خاصة، حيث يمكن تقسيم النص إلى جزأين، حيث ينتهي الجزء الأول عند كلمة "المرأة". وفي هذا الجزء نلاحظ الوعي البصري الذي قدم سرداً حقيقياً لمفاتن المرأة من الشعر الكستنائي أو الأصفر الذي ينساب على العينين الخضراوين.
ولكن القصيدة لا تنطلق لكي تصور هذا الوعي البصري المعتمد على السرد الجمالي لصفات المرأة، وإنما كان الانطلاق أساساً للذهاب للجزئية الثانية، التي تبدأ من قوله: "شَعرها كان حمامة". ولم يكن تقديم الجزء السابق إلا فضاء يتجلى من خلاله الجزء الثاني، ويكون ـ في الوقت ذاته ـ مجالاً لهذا التصوير الخاص الذي يندّ عن أي تصور واقعي، فالشعر حمامة تعلق جناحيها بحيث تشكل ظلاً وإطاراً للحركة وللسعي. والمحبوبة ـ في هذا الوعي الإدراكي الخاص ـ ليست إلا سماءً تمثل ظلاً، يجعل الحياة بالرغم من هجيرها لها رائحة الندى، وتدفع للاستمرار، لأنها تفتح أفق الانتظار.
إن المفارقة في النص السابق لا تتولد من المتوازي بين بنيتين، وإنما تتولد من توالي الوعي ونموّه، بحيث يبقى الوعي الفطري ـ لدى كل شاعر ـ موجوداً بالرغم من انتقاله إلى حالة موضوعية من الوعي، تبيح له التمتع بجمال المرأة، دون هيمنة كاسرة عليه، بحيث يدركها كياناً دافقاً، يتوق إلى الرجل كما يتوق إليها.
إن ديوان موسيقى الجنائز يقدّم شعريته الخاصة القائمة على الثنائيات المتقابلة، التي تشكل نواة للمفارقة القائمة على التوتر، فالشاعر غالباً يحاول أن يهذب رؤيته أو إدراكه من خلال إدخالها إلى نيران المفارقة، ومن ثمَّ تقدم هذه الرؤية في إطار فني جميل، يبعدها عن المباشرة.
ولكن شعرية الديوان ـ بالرغم من اعتمادها على المفارقة وعلى خفوت الإيقاع وتغييبه ـ تندمج في الوقت ذاته مع الرؤية الموضوعية التي يلتحم فيها الذاتي بالموضوعي.
1 comment:
..
جميل يا دكتور عادل
دراسة عميقة تنير للقارىء الكثير من خبايا النص الشعري
أحييك
وأبارك مرة أخرى المدونة
..
محبتي
Post a Comment