Monday, August 27, 2007

شعرية السرد وتضفير الواقع بالخيال




مقالي في جديد أخبار الأدب
..
بين عالم الصحراء و شعرية السرد
'هالة النور' وتضفير الواقع بالخيال
..
الروائي محمد العشري أصدر قبل هذه الرواية ثلاث روايات هي: -غادة الأساطير الحالمة-، -نبع الذهب-، و-تفاحة الصحراء-، وهذه الروايات تثبت أن للكاتب قدرة علي التجدد والتطور والانتقال من جزئية إلي جزئية أخري أو من تجربة إلي أخري.ففي الرواية الأولي غادة الأساطير الحالمة- نجد الكاتب ينتهج أسلوبا كان شائعا في التراث العربي القديم، ولا سيما في كتاب -ألف ليلة وليلة- وهو كتاب مملوء بالغرائبية أو العجائبية، والعجائبية _ كما يري تودوروف _ تقع في مساحة الريب أو التردد بين الواقع والخيال. وتمثل هذه الرواية بداية التعرف الأولي، التي قدمها في ذلك المجال، وترتبط بمحاولة تقديم إطار عجائبي، ينطلق من الحب في صورته المثالية، وقدرته الخارقة علي كسر النموذج الطبيعي للأشياء، وقد تجاوب مع هذا المنحي لغة استعارية تحاول التحليق في إطار هذا المدي الدلالي الخاص.أما في هذه الرواية فإن الكاتب ينتقل خطوة أخري إلي زاوية جديدة، ولكن _ في الوقت ذاته _ لا يغادر الزوايا السابقة مغادرة تامة وبائنة. فهذه الرواية _ وإن كانت تضرب بجذور قوية في رواية الخيال العلمي، فإنها تحتوي ­ في الوقت ذاته ­ علي جزئيات من العجائبية، ومن الصحراء، ومن الواقع. فكل هذه المناحي موجودة في الرواية ومضفورة إلي حد بعيد في شكل فني راق، ومملوءة بوهج إنساني وحضور واضحين

البناء في هذه الرواية بناء ليس تقليديا، ولكننا في الوقت ذاته لا نستطيع أن نقول عنه إنه بناء جديد، استخدمه روائيون قبل ذلك واستخدمه محمد العشري أيضا في تفاحة الصحراء. والبناء يقوم في الأساس علي وجود إطارين للسرد المتوازي. الإطار الأول يرتبط بصورة البطل في مرحلة التعرف الأولي علي الواقع بعد التخرج والتحاقه بالعمل مندوبا للمبيعات، وفي ذلك الإطار يأتي البطل/ والراوي متحدين في الرؤية ووجهة النظر، وجاء ضمير المتكلم ضميرا ساردا ليثبت هذا التوحد.أما الإطار الثاني فهو يرتبط بصورة البطل بعد أن التحق بالعمل في إحدي شركات البترول، وفي ذلك الإطار يمكن أن نجد مساحة بين البطل والراوي، فالراوي ليس شخصية من شخصيات الرواية، وضمير السرد هو ضمير الغائب، ويقدم الراوي في ذلك الإطار تجربة الخيال العلمي.ويزاوج الروائي بين إطاري السرد، ووجود هذين الإطارين، ربما يثير سؤالا مهما، يرتبط في الأساس بقيمة ذلك البناء من الإطارين المتوازيين. وهنا يمكن أن نشير إلي أن تلك التقنية من السرد المتوازي كانت إحدي المميزات الهامة في رواية -تفاحة الصحراء-، ففيها نجد أن الفارق الزمني بين إطاري السرد كان لا يقل عن ستين عاما، ومن ثم فالتوازي بين الإطارين كان ينقل لنا درجة الوعي بالصحراء وبساكنيها لدي كل إطار سردي، كما كان يقدم لنا التطور في صورة الاستعمار والانتقال من صيغة إلي صيغة جديدة، من الاستعمار العادي إلي استعمار اقتصادي يتمثل في الشراكة مع الأجنبي. ومن هنا كان ذلك الأسلوب السردي المتوازي مناسبا إلي حدٌ بعيد.أما في هذه الرواية فإن الفارق الزمني بين الإطارين ضئيل، ولا يعطي هذا الفارق الضئيل مساحة للاختلاف أو المغايرة من إطار إلي آخر، إلا في الإطار الفردي، مما يوحي في بعض الأحيان إننا أمام روايتين، وليس رواية واحدة، ولا يجمع بينهما إلا رؤية خاصة علي المستوي التفسيري للرواية، حيث تثبت الرواية من هذه الوجهة التفسيرية إن حلٌ مشاكل العمل والبطالة والقضاء علي العيوب الإدارية التي رأينا جانبا منها في الإطار السردي الأول المرتبط بالرشوة، يمثل مرحلة أولي حتي تبدأ مجتمعاتنا بداية صحيحة علي درب التميز المتمثل في الاختراعات الحديثة.وبعيدا عن التفسير الذي يجعل البناء مناسبا ومقبولا يتبقي أن نشير إلي أن ايقاع البناء المتوازي قد انكسر في مكانين من الرواية في الفصلين (س، ض) بمعني أن التوازي لم يستمر في هذين الفصلين، وظل السرد مستمرا في الإطار السابق لكل منهما. وقد جعلنا كسر الإيقاع البنائي نشعر بقيمة ذلك الإيقاع وأهميته، فنحن لا نشعر بقيمة الإيقاع إلاٌ إذا خرجنا عليه.في الإطار السردي الأول يقدم محمد العشري تجربة خاصة لرحلة البداية التي يمر بها قطيع كبير من شبابنا في بداية حياتهم، وتبدأ بالسكن في الفندق والعمل مندوبا للمبيعات. وسوف نجد البطل في ذلك الإطار ينظر دائما إلي الصورة المناقضة تماما لصورته التي يحياها في هذا المدي الزمني، مثل تأمله أو مراقبته للرجل الذي يمارس الجنس في البناية المقابلة، أو صورة المرأة التي تعبر عن راحة مادية وحياتية التي قال عنها إنها نؤوم الضحي، فالصورة المستحضرة في ذهن البطل تقف في نسق مضاد لحالته التي ترتبط بالضياع في شوارع القاهرة.ويقدم ذلك الإطار السردي البطل في إطار سياق حضاري خاص وإدراك خاص للأشياء، فهو بطل مثالي إلي حدٌ بعيد، ومن ثم فهو يدرك جزئيات الواقع بشكل تهويمي، يتجلي ذلك في رد فعله علي طلب الرشوة -ما الدافع وراء ذلك السلوك الغريب؟ طرحت السؤال علي نفسي وأنا أعبر جسرا خشبيا فوق قناة من قنوات النيل، وقفت في المنتصف، نظرت في الماء، بدت صورتي غير واضحة المعالم- ..أما البطل في الإطار السردي الآخر فإن الصورة المرتبطة به صورة مختلفة، فهو ينطلق من شعوره بالأمان، ومن منطلق قدرته علي تلبية احتياجاته فهو ليس محروما، وإن كان يشعر بقيد العمل وسطوته، ومن ثم نجد تفكيره يأخذ منحي مغايرا يرتبط بالعلم أو بالخيال العلمي أو الاختراع، ومحاولة اكتشاف كوكب لم ينتبه إليه العلماء، ويوظفه توظيفا جديدا يرتبط في الأساس بالبحث عن مصادر جديدة للطاقة.
اللغة هي حاملة الفكرة، بل إن الفكرة علي حدٌ تعبير المناطقة لا وجود لها إلاٌ في التشكيل اللغوي الخاص، فقبل ذلك التشكل لا يمكن أن نؤمن بوجود فكرة خاصة. واللغة من أهم مميزات محمد العشري الإبداعية. صحيح أن اللغة في روايته الأولي _ غادة الأساطير الحالمة _ كانت مجنحة انطلاقا من طبيعة الرواية الغرائبية، وكانت تثير فيٌّ شيئا من القلق، وصحيح _ أيضا _ أن هناك بقايا من هذه اللغة وردت في روايته -تفاحة الصحراء- في نموذج أو في نموذجين، إلاٌ أن اللغة في هذه الرواية قد تخلصت إلي حدٌ بعيد من هذه الرومانسية المجنحة، وحتي يمكننا القول أن محمد العشري قد وصل في ابداعه الروائي إلي لغة خاصة تمتزج فيها الجماليات بالتقرير مكونا ضفيرة خاصة، فالاستعاري في هذه اللغة لا يقضي تماما علي نصاعة ما هو تقريري، والتقريري لا يحد من قيمة الجمالي، وهنا يمكن أن نسميه شعرية السرد التي تعتمد علي الجماليات'.
إن رواية -هالة النور- التي يمكن أن تستجيب لتفسيرات عديدة، من حيث التناول النقدي، منها ما يرتبط بالعجائبي أو الغرائبي ومنها ما يرتبط بالخيال العلمي، ومنها ما يرتبط بالصحراء وبناء أسطورة ذلك العالم المدهش، مرتبطة إلي حد بعيد بالواقع، وخاصة في الجزء الخاص بالإطار السردي الأول، فالرواية في ذلك الإطار تكتنفها شهوة الإصلاح المختزنة داخل المبدع شاعرا كان أم روائيا حتي يستقيم ذلك الواقع مع إدراك وقيم ومثالية ذلك المبدع،

1 comment:

Mohamed Al-Ashry said...

..
أشكرك يا دكتور عادل على مقالك البهي
عن روايتي هالة النور
بديع ما كتبته أيها الناقد البارز
دخلت إلى عالم الرواية ولم تترك فيها باباً إلا وفتحته، خاصة أنك ضمنت مقالك برؤية موسعة عن الروايات السابقة
مما يغطي مصداقية كبيرة في قراءتك النقدية الباذخة
..
أحييك وأقدر اهتمامك النقدي المتميز
خالص الود والتقدير
..
محبة خالصة