البناء السردي والاستقواء بالذات في رواية الموجي "دارية
ربما كان البناء الخاص بالرواية من أهم الجزئيات التي تشكل ملامح الخصوصية للكاتب، وربما كان هذا هو السبب الأساس في محاولة الروائيين بداية من نجيب محفوظ في البحث عن نسق سردي خاص يكون جديدا, وهذا البناء السردي الجديد يسهم ـ بالضرورة ـ في تشكيل الدلالة، وفي تحديد آفاقها، وتحديد ميثاق القراءة الذي يمكن أن ينطلق منه المتلقي. إن الباحث الذي يتأمل رواية الكاتبة سحر الموجي "دارية" سوف يدرك في البداية أننا أمام بناء جديد يحاول أن يقدم صدعا لنسق السرد المتواصل والمعروف والمقرر سلفا في كيان الرواية العربية على مدى تجليها المتراكم.فالرواية تأتي في إطار نسقين متوازيين ويتحكم في كل نسق سردي ضمير سردي معين، ففي النسق الأول يأتي الراوي العليم ليسجل معرفة تامة بكل شيء وبالأفق المحيط، بداية من "دارية" وهي الشخصية الأساسية في الرواية، ومرورا بشخصية الزوج "سيف"، وشخصية الأب التي شكلت النموذج الذي تحاول "دارية" الدوران في أفقه وفضائه الدلالي المملوء بخصوصية التكوين الإنساني دون قيد، أو شخصية الأم ـ أم دارية ـ التي تأتي بوصفها ذكرى تلح عليها لرسم ملامح استقواء الذات. أما النسق الثاني والأخير فهو نسق الحلم، وهو نسق ينطلق من عدم الرضا تجاه الحياة الفاترة التي تحياها مع سيف. فالحلم في ذلك السياق ليس إلا سماء، تتعلق بها بعيداً عن اليومي الممرور، الذي بدأت تكرهه بالتدريج.إن البناء المتوازي الذي يقدم الرواية في إطارين سرديين يشعر المتلقي بأن دارية في القسيم الأول ـ الذي جاء من خلال الراوي العليم ـ تعيش كما يعيش الآخرون، وتكبت بداخلها المرشدات التي توحي لها بأنها تسير في الطريق الخطأ, وتنطوي تحت سلطة ذكورية تقمعها. ولكنها في القسيم الثاني ـ نسق الحلم الذي يأتي إليها ليلا ليعبر عن نمو الذات ـ تبدأ في بناء ذاتها تدريجيا حتى يحدث الاكتمال.وإذا حاول الباحث أن يقف على هيئة الذات الخاصة بـ"دارية" والمتشكلة على مدى صفحات الرواية،سيجد أن هناك أنساقا مختلفة لهيئة الذات المتشكلة، ففي الصورة الأولي،سنجد أن اندحار الذات تحت سلطة الآخر الذكوري/ الزوج واضحة تماما, ويأتي ذلك في المرحلة الأولي، فالذات الإنسانية في لحظات التعرف الأولى تكون مقموعة بسياجات خاصة, ومملوءة بنسق تعليمي أو توجيهي من الآخر. ولكن الإلحاح على هذه الجزئية يشعر الذات الإنسانية بالانزواء والتلاشي تحت سلطة الآخر، ومن هنا يحدث التبرم على هذا الوضع، وتبدأ الذات في إظهار أولى مراتب التبدل أو المغايرة، حتى لو كانت تلك المغايرة ماثلة في الانزواء الأنثوي داخل محارة الروح. ولكن هذه المرحلة التي تبدأ بالإحساس بالمغايرة عن الآخر والاختلاف، تبدأ بالتدريج في مرحلة جديدة، تتأسس من خلال وعي جديد نابع من الانزواء داخل محارة الروح، حيث تستجيب للكتابة، التي تأتي وكأنها نسق خاص للتعويض عن الجفاف المعيش. ولكن مجرد التفكير في الانزواء داخل محارة الروح مشكلة حياة خاصة لها، لا يرضي الزوج/ سيف انطلاقا من فكرته عن الحياة والزواج، فقد كان يفسر العالم في إطار واضح، "فالأسرة"هي المفهوم الأسمى والأشمل لديه، والأشخاص موجودون لتحقيق هذا المفهوم، الذي يتنافى مع تعلق دارية بكتبها والأوراق. والبطل سيف في تعلقه بهذه الصورة الخاصة للحياة من جانب وللزوجة من جانب آخر يرتبط بنموذج تربى عليه، وهو نموذج أمه، ودائماً ما يقول اعتراضا على نهج زوجته: "الله يصبحك بالخير يا ماما".إن عدم الموافقة على الانزواء داخل سياج الزوج, وارتباط الزوج بنظرة خاصة عن المرأة أو الأم جعلا "دارية" تبدأ في الاندماج في نسق آخر يحقق لها ارتعاشة الروح وخصوصية الذات، من خلال الحلم بحيث تبدو قادرة على الفعل والمغايرة. وهذا التنافر ينقلنا بالضرورة إلى المرحلة الأخيرة، من مراحل تشكل الذات بعيدا عن الآخر، والتي يمكن أن نسميها مرحلة الاكتمال، وقد جاءت هذه المرحلة في نسق الرواية تحت عنوان "مهرة"، مما يشي بحرية الحركة دون وجود الفارس الذي يلجم هذه الحرية في إطار أعراف وتقاليد يرتضيها.وإذا تحدثنا عن آليات السرد فإننا يجب أن نشير إلى أن تميز الرواية يتمثل في آليات السرد، وفي هذه الرواية هناك إطاران كبيران للسرد، وفي داخل هذين الإطارين هناك تقنيات جزئية مهمة تتساوق فيما بينها لتشكيل خصوصية فنية، وملامح كتابة ترتبط بالوجود الفردي الذاتي، الذي لا يقف راضيا وخانعا بوجوده الفعلي، فالذات الأنثوية التي تتحدث عنها الرواية ذات لها ملامح دينامية متحركة من لحظة إلى لحظة خاصة، ومن وعي منزو خلف الآخر، ومتشبث برؤيته للحياة وللأمور، إلى وعي يتعاظم على هذا الانزواء، ويحاول تثبيت ملامح جديدة قادرة على الخروج، وعلى الفعل المرتبط بالمواجهة.فهي في ذلك الإطار رواية البحث عن الذات، والوقوف خلفها والانطلاق منها إلى وجود يكون ويجسد ملامح النفس الإنسانية. وإذا وقفنا عند الإطار السردي الأول الذي يأتي وكأنه يمثل الاندماج داخل قسيم عريض تنضوي في إطاره المرأة في كل البلدان العربية، وهو إطار الانزواء والخنوع، سنجده واضحا في قول الرواية في الجزء الأول منها (محارة الروح )، "ولم تكن المواجهة من طبائع دارية، لا لشيء إلا لكونها لم تكن تعرف". إن النص السابق من الرواية يضع أيدي المتلقي على نسق ما، يتمثل في عدم المعرفة والوقوف خلف هذا الجدار الصلب، وهذا التوجه يشير إلى طفولة خاصة ترتبط بوعي ما، يمكن أن نطلق عليه طفولة الوعي، وهذا الوعي يزداد حدة وضيقا، إذا كان الآخر الذي تنضوي خلفه المرأة واعيا بتلك الجزئية، وفوق ذلك نجده يؤسس لهذا التوجه، حتى يصبح بالتدريج، سمة أساسية للحياة المعيشة. إن سيادة هذا النسق الحياتي المعيش، الذي أصبح مسيطرا، والذي يأتي وكأنه التجلي النهائي لزوجين يجمعهما مكان واحد، يؤدي دورا مهما في تشكيل نسق التعامل بينهما، (فسيف) البطل، يحكم بالخطأ على أفعال عديدة تقوم بها، وهي انطلاقا من ذلك التوجه - تقوم في ذلك النسق السردي الذي يضعها في إطار المجموعة، باعتذار دائم، عن أشياء تتصل بالوظيفة الأساسية للمرأة من وجهة نظر الرجل.إن هذا التوجه الخاص من البطل، والذي يرتبط بالسيطرة والمصادرة، قابله وعي خانع، في الإطار السردي الأول، من دارية، وتجاوب معه نمو في حالة السيطرة والمتمثلة في سيف، فنراه يوجهها - على حد تعبير الرواية - بنفس منطق توجيهه لأمينة ـ ابنته - ذات السنوات الأربع. وهذا النسق الخاص بالتوجيه، الذي نرى صدى له في محاولة (سيف) في تحديد الأصدقاء، الذين يجب أن ترتبط بهم دارية أو على الأرجح، محاولة القضاء على أي صداقة سواء كانت هذه الصديقة مثقفة أو تافهة، فالصداقة أو الارتباط بكائنات أخرى خارج مساحة البيت الذي يقيم فيه هو وزوجته، ربما تمثل - من وجهة نظر الزوج - بوادر معرفة ونمو للذات المقموعة بداخلها. يتساوق مع هذا التوجه الحافل بالسيطرة، ومحاولة تشكيل ملامح الإطار الذي تتحرك فيه الزوجة (دارية) توجه آخر ربما يكون نابعا من وجهة النظر الخاصة بالبطل (سيف) يتمثل هذا التوجه في ضيقه الشديد، من ارتباطها بكتابة الشعر، لأن الشعر - في الأساس - يمثل حالة من حالات المعرفة، التي يبحث من خلالها الإنسان عن وجوده وطبيعة ذلك الوجود، وفي هذه الحالة سوف تبدأ الذات في معاينة نفسها، ومعاينة وجودها المقموع والمنزوي خلف الآخر.إن هذا التوزع بين الاندحار تحت تأثير سلطة مهيمنة والتطلع نحو النمو واللجوء إلى الذات، يحمله إلى المتلقي الإطار السردي الثاني، والذي يأتي متجليا من خلال ضمير المتكلم، الذي يشير إلى البوح الذاتي، وإلى الارتباط بالذات بعيدا عن العالم المعيش، سواء كان إطارا جزئيا يرتبط بالأسرة، أو إطارا كليا يرتبط بالحياة والعالم.والمتأمل لذلك الإطار يجد أن البداية ترتبط على نحو أساسي بالرجوع إلى الذات، وهذه العودة إلى الذات لا تتم إلا ليلا مع الحلم، وكأن الحلم هو المعادل لحياة الجفاف التي تحياها في القسيم السردي الأول، وتلح عليها في ذلك الإطار الصور الأساسية التي كانت تشكل لها وجوداً خاصاً لا يسحق ذاتيتها، حيث نجد صورة لأم تلح عليها بكثرة، وصورة لأب، ذلك النموذج الذي شكل وعيها في البداية تشكيلا خاصا.وتأتي الكتابة بوصفها الوسيلة الأولى للمعرفة، ولإدراك طبيعة الذات، سندا قويا لتشكيل ملامح الذات وخلاصها، فنجدها تستحضر (نفتيس) - ما يسمى بإله الفن والإبداع - كثيرا على مدى صفحات الرواية، وكأنها عامل مساعد لمساعدة الذات في محنتها الخاصة.وانطلاقا من حالة الجفاف التي تحياها مع زوجها، نجدها، تستحضر من خلال الحلم، حبيبا نموذجيا يصنعه الخيال، وتشكله تدريجيا، من خلال أحلامها. إنها رواية نمو الوعي، الذي يفضي في النهاية إلى مغادرة حالة أولى تمثل طفولة الوعي، لتصل إلى المعرفة عن طريق تكوين الذات والاستقواء بها.
No comments:
Post a Comment