كمال الاتصال والانقطاع
في "جميع أسبابنا" للشاعرة اللبنانية عناية جابر
..
مقالي في أخبار الأدب المصرية
الأحد 9 ديسيمبر 2007
..
'جميع أسبابنا' لعناية جابركمال الاتصال والانقطاع -->يجئ ديوان الشاعرة عناية جابر (جميع أسبابنا)، ليشير إلي آليات خاصة بقصيدة النثر في إطارها العام، وإلي منحي خاص في رصد الحياة والواقع، وكأن هذا الرصد يعطي للذات خصوصية، ويعطي للآخر بتجلياته العديدة ملامح خصوصية، لأن الذات لا يتشكل لها صورة نهائية، ما دامت منفتحة علي الآخر، ومن ثم فصورتها في انفتاح دائم للمحو والإضافة. وشعرية الديوان _ كسرا للمتوقع لا تبحث عن الانسجام أو الاكتمال أو الهدوء، وإنما تتجلي في التشظي والنقصان والحركة الدائمة التي لا تهدأ، ففعل الحركة يعطي مشروعية للوجود، فالفن لا يولد من الكمال وإنما يولد من النقصان، الذي يفتح الباب للحركة، باتجاه الكمال، فالفن يتشكل في حدود تلك المسافة بين النقصان والكمال، مما يشكل في الديوان في النهاية بؤرة دلالية مهيمنة منطلقة من كمال الاتصال والانقطاع في آن.وفي إطار هذا التصور تأتي الذات فاعلة في حضورها و صراعها الطويل مع الآخر بتجلياته العديدة، الآخر الذي يحدد طبيعة حضور هذه الذات، يتجلي هذا التوجه في اختيار جزئيات خافتة، ليس لها ذلك الحضور الطاغي في أشعار الآخرين، ومن ثم قد تقع العين علي شبيه أو نظير يكشف عن طبيعة هذه الذات وصراعها (أبتهج لعشبة تناضل في شق مغسلة).
ولكن حضور الذات، الذي يكشف عن حضور خاص، وعن حاجة ملحة للآخر للتجلي والالتحام، لا يتحقق من خلال الالتحام أو الاكتمال بتعبير المتصوفة، وإنما يتحقق من خلال الشعور إلي هذا الاحتياج، وتوقع وجوده، وكأن الذات الإنسانية في لهاثها وراء المتخيل، يكمن تجليها وجماله وبهاؤه في الحركة والدوران حوله، وليس في تحققه واكتماله، (ليس في الصلاة وإنما في الحاجة إليها).وكأن ميزة الذات أصبحت ممثلة في الحركة وليس في الثبات، فالذي يعطيها قيمتها الحركة، وعدم الركون إلي نقطة ثابتة للتأمل والمراجعة، (جفاء ناعم أحمر _ رسالة خضراء _ الخضرة اللطيفة _ سميكة وفاتحة _ وجهك المختنق _ شفتك المرفوعة _ أحمل ظنونك علي ظهري قدماي متعبتان _ مضطربتان علي الأرض).في المقطع السابق، نجد أن الثنائيات تظل ماثلة في الحضور، وتتوزع إلي يقين بالغياب، وإلي يقين بالحضور، فالجفاء الأحمر يقابله الرسالة الخضراء، والخضرة السميكة الفاتحة، تشكل إطارا ثنائيا يمارس دوره الدلالي في عدم الارتكان إلي جانب من الجوانب، وعدم الارتكان يعطي الحياة قيمتها، ويمنح الانتظار خضرة مموهة بين يقين بالتحقق ويقين بالتأبي.إن الاهتمام بالذات المتشظية يمارس تأثيره في خلق ملامح شعرية، لها ملامح الانقطاع والاتصال، بحيث تغدو الذات في جبها الليلي متصلة مع آلامها وإحباطاتها، وكأن الليل مفتاح لعودة الذات إلي نفسها (الآن الليل وقف علي قدميه _ ومهما يكن العذاب التالي _ لابد من خدعة صغيرة _ شيء نقحمه في جرح الرصاص _ في طبيعته العذبة). وكأن فعل قمع التذكر الذي تمارسه الذات نهارا، غير متاح ليلا، الذي يأتي بوصفه ناقوسا تطفر معه الجراح والدماء.وفي المقابل نجد النهار يأتي مرتبطا بالانقطاع، مع أنه _ في الأساس _ مجال اتصال، (في النهار نرتدي ملابس صوفية وقفازات)، فالذات تمارس فعلا تغيبيا، وكأنها من خلال تلك الآليات، تضع قشرة رهيفة علي جرح الذات المنفتح، فيطل الرأس بوصفه خزانة حديدية مغلقة، علي أحزان، وعلي فعل التذكر، الذي يطل مع الليل، بوصفه نسق توحد وسقوط للأقنعة، التي ترتديها الذات نهارا، والتذكر _ لطبيعته _ لا يتجلي بشكل متنام كاشف، وإنما يتجلي في انبثاقات قد تفقد للوهلة الأولي وتشكلها الظاهري ترابطها البنائي، ولكن إعادة تركيبها وفق طبيعة التذكر، يعطيها وجودها الملموس والمقنع.إن شعرية القصيدة الحديثة بصفة عامة، وقصيدة النثر بصفة خاصة تنتهج توجها خاصا في التفاتها إلي الأشياء الخافتة، التي تقلق الذات المعذبة في صراعها الطويل، والمستمر مع الحياة من جانب، ومن جانب آخر نجدها متجلية في محاولة الإمساك بما لا يمسك، وتكديس ما لا يكدس، وكأن في محاولة الإمساك إعلانا لشأن الذات، وإيمانا بوجودها واختلافها عن الآخر، ففي هذا التوجه تتجلي قيمة الشعرية، وقيمة الإبداع في رصد مغاير، ففي قصيدة (بأدوات وأشياء أخري)، تتجلي الشعرية في محاولة الإمساك بأشياء تند عن التحديد المادي كما في قولها: (تأتي بهدوء رائحتك الكسيحة _ تتلوي وتتنزه في الأشياء _ أكون فراشة في الحقل الناقص إلي أن تصل _ تطفو وتغطس في الكلمات _ وما يهرب منها يعبق في صدري _ جميع أسبابنا _ تلك الرائحة).فالمعهود والمقرر في فعل التذكر _ بما له من دلالة صوفية _ يرتبط بالانسجام التام، الذي يسبق الاندحار والتشظي علي أسفلت الشوارع، بفعل الانقسام إلي كرتين تائهتين، في سديم الحياة، أن يكون التعلق بحواف الصورة، ولكن الجديد في النص الشعري، أن يربط فعل التذكر بالرائحة، التي تخرج الذات من نقصانها الآني، فكأن الرائحة تلم شتات الحياة، والمبعثر منها، لتعيد إليها الانسجام المفقود، ومن ثم تصبح تلك الرائحة وسيلة أساسية للاتصال، وتعطي مشروعية للاستمرار في الحياة، ومن ثم يتم تشكيل تلك الرائحة، وتذويبها في العمل الشعري، بوصفها محطات كاشفة، للتطابق والتدابر، وللقرب والبعد.
ويتجلي هذا المنحي في قصيدة (البحر لا يبدو من هنا)، حيث تتجلي الشعرية في تشكيل لوحة خاصة، ترتبط بفقد عنصر الانسجام للوهلة الأولي، ولكن التفكير فيها يجعلها بالتدريج تلم شتاتها المنزوي تحت حدقة خاصة، تري القيمة الكبري في البعد عن الاكتمال، والانشطار نحو عواء ضليل مخيف.(البحر لا يبدو من هنا _ لكنك تقول لي شيئا _ يجعلني أتنهد _ الرمل أصفر كالذهب _ حكاية تبدأ _ حين تلحسه موجة). إن الصورة السابقة قد تبدو للوهلة الأولي _ بعيدة عن التنميط الدلالي في نسق خاص، ولكن مراجعة الديوان كيانا كاملا، ربما يجعلنا نتوقف عند شعرية الديوان، المشدودة إلي رصد حالة التشظي والانفصال واستحالة الانسجام والاكتمال، وكأنها جزئيات فاعلة تعطي الذات مشروعية الحركة، فالقصيدة معنية برصد حركة التوق إلي المجيء، شريطة ألا يظل حضورا قابعا، ومن ثم فهي معنية بصد حالة الذهاب، بوصفها الوجه المقابل، لأن هذا الذهاب يعيد لها الانفصال المبتغي، وهو الذي يمنح وجودها معني.فالصورتان اللتان قدمتهما القصيدة متشابهتان إلي حد بعيد، فالبحر _ معادل ظمأ ومعاينة الماء دون ري _ يتماس مع الرمل الأصفر، والتقاء الرمل بالبحر من خلال آليتي المد والجزر، يشكل كمال الاتصال وكمال الانقطاع، وهذه هي الحافة التي تدور عليها شعرية الديوان.
د. عادل ضرغام
ولكن حضور الذات، الذي يكشف عن حضور خاص، وعن حاجة ملحة للآخر للتجلي والالتحام، لا يتحقق من خلال الالتحام أو الاكتمال بتعبير المتصوفة، وإنما يتحقق من خلال الشعور إلي هذا الاحتياج، وتوقع وجوده، وكأن الذات الإنسانية في لهاثها وراء المتخيل، يكمن تجليها وجماله وبهاؤه في الحركة والدوران حوله، وليس في تحققه واكتماله، (ليس في الصلاة وإنما في الحاجة إليها).وكأن ميزة الذات أصبحت ممثلة في الحركة وليس في الثبات، فالذي يعطيها قيمتها الحركة، وعدم الركون إلي نقطة ثابتة للتأمل والمراجعة، (جفاء ناعم أحمر _ رسالة خضراء _ الخضرة اللطيفة _ سميكة وفاتحة _ وجهك المختنق _ شفتك المرفوعة _ أحمل ظنونك علي ظهري قدماي متعبتان _ مضطربتان علي الأرض).في المقطع السابق، نجد أن الثنائيات تظل ماثلة في الحضور، وتتوزع إلي يقين بالغياب، وإلي يقين بالحضور، فالجفاء الأحمر يقابله الرسالة الخضراء، والخضرة السميكة الفاتحة، تشكل إطارا ثنائيا يمارس دوره الدلالي في عدم الارتكان إلي جانب من الجوانب، وعدم الارتكان يعطي الحياة قيمتها، ويمنح الانتظار خضرة مموهة بين يقين بالتحقق ويقين بالتأبي.إن الاهتمام بالذات المتشظية يمارس تأثيره في خلق ملامح شعرية، لها ملامح الانقطاع والاتصال، بحيث تغدو الذات في جبها الليلي متصلة مع آلامها وإحباطاتها، وكأن الليل مفتاح لعودة الذات إلي نفسها (الآن الليل وقف علي قدميه _ ومهما يكن العذاب التالي _ لابد من خدعة صغيرة _ شيء نقحمه في جرح الرصاص _ في طبيعته العذبة). وكأن فعل قمع التذكر الذي تمارسه الذات نهارا، غير متاح ليلا، الذي يأتي بوصفه ناقوسا تطفر معه الجراح والدماء.وفي المقابل نجد النهار يأتي مرتبطا بالانقطاع، مع أنه _ في الأساس _ مجال اتصال، (في النهار نرتدي ملابس صوفية وقفازات)، فالذات تمارس فعلا تغيبيا، وكأنها من خلال تلك الآليات، تضع قشرة رهيفة علي جرح الذات المنفتح، فيطل الرأس بوصفه خزانة حديدية مغلقة، علي أحزان، وعلي فعل التذكر، الذي يطل مع الليل، بوصفه نسق توحد وسقوط للأقنعة، التي ترتديها الذات نهارا، والتذكر _ لطبيعته _ لا يتجلي بشكل متنام كاشف، وإنما يتجلي في انبثاقات قد تفقد للوهلة الأولي وتشكلها الظاهري ترابطها البنائي، ولكن إعادة تركيبها وفق طبيعة التذكر، يعطيها وجودها الملموس والمقنع.إن شعرية القصيدة الحديثة بصفة عامة، وقصيدة النثر بصفة خاصة تنتهج توجها خاصا في التفاتها إلي الأشياء الخافتة، التي تقلق الذات المعذبة في صراعها الطويل، والمستمر مع الحياة من جانب، ومن جانب آخر نجدها متجلية في محاولة الإمساك بما لا يمسك، وتكديس ما لا يكدس، وكأن في محاولة الإمساك إعلانا لشأن الذات، وإيمانا بوجودها واختلافها عن الآخر، ففي هذا التوجه تتجلي قيمة الشعرية، وقيمة الإبداع في رصد مغاير، ففي قصيدة (بأدوات وأشياء أخري)، تتجلي الشعرية في محاولة الإمساك بأشياء تند عن التحديد المادي كما في قولها: (تأتي بهدوء رائحتك الكسيحة _ تتلوي وتتنزه في الأشياء _ أكون فراشة في الحقل الناقص إلي أن تصل _ تطفو وتغطس في الكلمات _ وما يهرب منها يعبق في صدري _ جميع أسبابنا _ تلك الرائحة).فالمعهود والمقرر في فعل التذكر _ بما له من دلالة صوفية _ يرتبط بالانسجام التام، الذي يسبق الاندحار والتشظي علي أسفلت الشوارع، بفعل الانقسام إلي كرتين تائهتين، في سديم الحياة، أن يكون التعلق بحواف الصورة، ولكن الجديد في النص الشعري، أن يربط فعل التذكر بالرائحة، التي تخرج الذات من نقصانها الآني، فكأن الرائحة تلم شتات الحياة، والمبعثر منها، لتعيد إليها الانسجام المفقود، ومن ثم تصبح تلك الرائحة وسيلة أساسية للاتصال، وتعطي مشروعية للاستمرار في الحياة، ومن ثم يتم تشكيل تلك الرائحة، وتذويبها في العمل الشعري، بوصفها محطات كاشفة، للتطابق والتدابر، وللقرب والبعد.
ويتجلي هذا المنحي في قصيدة (البحر لا يبدو من هنا)، حيث تتجلي الشعرية في تشكيل لوحة خاصة، ترتبط بفقد عنصر الانسجام للوهلة الأولي، ولكن التفكير فيها يجعلها بالتدريج تلم شتاتها المنزوي تحت حدقة خاصة، تري القيمة الكبري في البعد عن الاكتمال، والانشطار نحو عواء ضليل مخيف.(البحر لا يبدو من هنا _ لكنك تقول لي شيئا _ يجعلني أتنهد _ الرمل أصفر كالذهب _ حكاية تبدأ _ حين تلحسه موجة). إن الصورة السابقة قد تبدو للوهلة الأولي _ بعيدة عن التنميط الدلالي في نسق خاص، ولكن مراجعة الديوان كيانا كاملا، ربما يجعلنا نتوقف عند شعرية الديوان، المشدودة إلي رصد حالة التشظي والانفصال واستحالة الانسجام والاكتمال، وكأنها جزئيات فاعلة تعطي الذات مشروعية الحركة، فالقصيدة معنية برصد حركة التوق إلي المجيء، شريطة ألا يظل حضورا قابعا، ومن ثم فهي معنية بصد حالة الذهاب، بوصفها الوجه المقابل، لأن هذا الذهاب يعيد لها الانفصال المبتغي، وهو الذي يمنح وجودها معني.فالصورتان اللتان قدمتهما القصيدة متشابهتان إلي حد بعيد، فالبحر _ معادل ظمأ ومعاينة الماء دون ري _ يتماس مع الرمل الأصفر، والتقاء الرمل بالبحر من خلال آليتي المد والجزر، يشكل كمال الاتصال وكمال الانقطاع، وهذه هي الحافة التي تدور عليها شعرية الديوان.
د. عادل ضرغام
No comments:
Post a Comment