Wednesday, June 4, 2008

قصيدة النثر السعودية -الغامدي والخميسي

قصيدة النثر السعودية
الغامدي والخميسي
عادل ضرغام

إن النظر إلي الشعرية العربية المعاصرة سوف يفصح عن وجود اتجاهات عديدة , منها أشكال كتابية شعرية ترتبط بالأنساق والبنيات القديمة , وهذه الأنساق ترى أن التمسك بهذا الشكل الكتابي يدعم وجودها ويضمن استمراره , وقد يمارس أصحاب هذه الأشكال الشعرية سلطة ما , متدثرة بالمعهود والمقرر . وهناك ـ بالإضافة إلي أشكال أخري ـ قصيدة النثر , التي مازالت ـ بالرغم من وجود نماذج سامقة لها في إبداعنا العربي مثل الماغوط وسركون بولس وعباس بيضون وآخرين ـ تجابه بمعارضات ومجابهات قوية .
وليس من غايات هذه الدراسة أن تقف وقفة نظرية مع قصيدة النثر , للإشارة إلي جمالياتها المائزة عن الشعر العمودي أو التفعيلي , وإنما غاياتها الأساسية محاولة تقديم قراءة جمالية , لديوان ( البوادي ) لعيد الخميسي , وديوان ( صندوق أقل من الضياع ) لمحمد خضر الغامدي,بالإضافة إلى إن الباحث لا يستطيع أن يقدم قراءة لقصيدة النثر في المملكة العربية السعودية , فهذا عمل يحتاج إلي جهد كبير , فضلا عن كون هذا المنطلق ليس من غايات البحث .
أفق الذات :
ربما يكون مقررا أن الشاعر المعاصر لم تعد تشده الموضوعات الكبرى , التي كانت تشد الشاعر في لحظات سابقة مثل الوطن والحب والوجود , وإنما أصبح الشاعر المعاصر ـ وشاعر قصيدة النثر علي وجه الخصوص ـ مرتبطا بالذات في تشظيها وانكسارها وآمالها وإحباطاتها,وفوق ذلك سنجد أن الشاعر المعاصر , لا يهتم بالذات في إطارها العام , وإنما يهتم بالجزئيات الخافتة , وكأن الاهتمام بهذه الجزئيات إعلاء لشأن الذات وإثبات لخصوصياتها وإدراكها المتميز , وهذا الإدراك المتميز هو الذي يصنع الفارق , ويجعل الشعور بالفن مختلفا من لحظة إلي آخري , فالشعرية ليست ساكنة , وإنما هي متحركة فهي تارة تسكن الموضوع والالتحام بالآخر , كما يمكن أن نجد لدي صلاح عبد الصبور , وتارة تسكن الهامش , بفجاجته , ولكن هذا الهامش حين يقدم شعريا , ومن وجهة نظر خاصة يصبح موضوعا شعريا بامتياز !....
والقارئ لديوان البوادي لعيد الخميسي , الذي ينطلق أساسا من الوعي الخاص بالمكان , ومن وجهة نظر لا يمكن الإمساك بها بسهولة , يدرك أن الديوان يحاول تشكيل عالم مندثر أو اندثر ,ولكن يعاد خلقه وتكوينه بهيئات مختلفة في كل مرة , فالتكوين أو الهدم لا يتم في الأماكن أو المباني , وإنما يتم من خلال البشر , واختلافهم من جنسية إلي جنسية , فكل جنسية لها سماتها الخاصة , ومن ثم تكوّن ـ في فترة ما ـ طبقة جيولوجية معينة , تخلق ذاكرة خاصة لها , والديوان ـ في إطار هذا التوجه ـ ليس إلا محاولة لبناء طبقات جيولوجية وثيقة الصلة بالمكان , وهذه الطبقة لها ذاكرة خاصة, والديوان يحاول استعادة هذه الطبقات وتثبيتها داخل المتلقي ,لكي يخلق روحا أو أفقا شعرية لهذا المكان , وكأن هذه الطبقات المتوالية علي المكان تؤثر في الآني وتحضر في القادم , يتجلي ذلك واضحا في قصيدة فم المريض :
هو ذاته الفم الذي يضحك ويمتلئ بالحكايا والشعوذات ...
التي لن تصل لعابر انفتح أمامه , لبرهة , شق الباب الأزرق
فولجه
كما ولج مصريون بملابس مرحة ووجوه ملطخة بالأسمنت مرتين
( منتصف السبعينات وبداية التسعينات)
ولجه أفغان بأرجل مقطوعة وعمائم لشجيرات بيضاء مقلوبة
وعبروه وهم يجسون الشوارع
المكان في النص الشعري , ليس مكانا أو حيا فقط , وإنما الذي يعطي هذه المكان وجهه الماضي والآني , هم البشر , الذي يصنعون للمكان ألقه وروحه ووجوده, ويقدمون له ذاكرة لصيقة بهم .
إن الحديث عن أفق الذات في الديوان يجب أن يكون حديثا ذا خصوصية , وذلك لأن الديوان ـ أو شعريته- اختطت من البداية أن تكون موضوعية حيادية قائمة علي الحكي والسرد والاستعادة,ومع ذلك فإن حضور الذات بشكل خاص يأتي واضحا في بعض القصائد , ففي قصيدة ( تخطيط ) :
في الرسم البدائي للبيوت
لا يمكنك أن تجمعها في إطلالة واحده :
أدوات العمل البالية هذه ,
الخطوات التي تبتعد ,
البيت ذو النافذة الخشبية والتي ما عادت تفتح.
..........الرسم البدائي للبيوت
لم يخف كثيرا
شخصية الفنان
نجد أن المتلقي لا يستطيع أن يصل إلي جمال هذه الطبقة من طبقات الحي بذاكرتها إلا إذا استعار عين المبدع , وأطل من خلالها , ومن خلال وجهة النظر التي تبدت فاعلة بشكل غير علني , وإنما تبدت من خلال التوقف عند بعض الجزئيات , التي يمكن أن يكون لها تأثير في محاولة اصطياد عبق غير واضح , فالرسم البدائي للبيوت لم يقض تماما علي شخصية الفنان. والبحث عن صوت الذات أو انحيازها غير الواضح في إطار هذا النسق الحيادي الموضوعي , يتطلب قراءة واعية للديوان بكامله , كما في قصيدة ( فم المريض ) , حين يصور النص الشعري الباب الأزرق , الذي أصبح علامة علي هذا الحي :
الباب الأزرق الجاهز والمستعد كل لحظة
الذي كان يبيعه محل علي شارع الستين
واشتري منه كل القاطنين أبوابهم
تكفينا هذه السنوات لنحكم علي نزاهته
علي أنه خفيف حقا ومصنوع بإحكام
أو يصور ذلك الترابط الحميم بين الإنسان والجدران في قصيدة ( الطريقة ) :
تلك الجدران
اكتفينا بأن نمسد ظهرها ونحن نرفع أعناقنا قليلا ونتبادل التحية
الخارج والداخل :
إن تشكيل حي البوادي في النص الشعري في هذا الديوان , من خلال تثبيته داخل وعي المتلقي تم من خلال نهجين مهمين , تم الاتكاء عليهما لتشكيل طبقاته الثلاث بمراحلها المختلفة , بداية من ( التكوين ) ,ومرورا بالإحساس بهذا التكوين ,وكأنه تجل أصبح ناجزا وجاهزا , وانتهاء بالمغايرة والاختلاف عن التكوين الأولي , فكل مرحلة من هذه المراحل شكلت طبقة خاصة بذاكرة خاصة .
أما النهج الأول , فالشاعر ـ من خلال سرد حيادي قائم علي الانتقاء ـ قدم صورة خارجية لهذا الحي , مرتبطة بأبنيته الشعبية والبدائية , وبأبوابه الزرقاء التي أصبحت ميزة كاشفة عنه , وتجلي ذلك في قصائد عديدة مثل ( أرض فضاء ) ,والعشب بأنواعه المختلفة كما في قصيدة ( غرفة بجدران بيضاء ) , أو الإشارة إلي التكوين البشري المتعدد في إطار التشابه والاختلاف من خلال العباءة , كما في قصيدة ( بلا عناء ) :
هذه العباءات التي لم تجتمع في مخيلة بائع
أو هفوة شارع مزدحم
ازدحمت هنا بلا عناء .
إن حركة المعني في النص الشعري السابق تأتي كاشفة عن طبيعة أصناف سكان الحي , وتوزع الأصناف إلي فئات عديدة , تختلف باختلاف العباءات , فهذا التوزع الكرنفالي يأتي ليكشف عن تعدد جنسي خاص , يشكل طبيعة هذا الحي , المشدود إلي التوحد والتفرد في آن .
وفي النهج الأخير نجد أن الشاعر في بعض القصائد يتوقف عند جزئيات ربما تكون كاشفة عن طبيعة هذا الحي من الداخل , مع الإلحاح علي أن الداخل والخارج لا ينفصلان , ولكن الفارق يكمن في وجود السارد الفعلي في النص وكونه مشاركا بالحضور الفاعل أو بالمراقبة الحيادية , ففي قصيدة ( حكاية قديمة ) , نجد أن السارد الراصد موجود ومشارك , ومع أن القصيدة تنتهج نسق التغييب, إلا أن المتلقي من خلال الوقوف عند بعض الجزئيات الموحية , يستطيع أن يلم بأطراف الحكاية , وتكون هذه الحكاية صورة خاصة للحي , وهذه القصيدة نموذج للشعرية التي تظهر بالرغم من محاولة التخفي أو التستر .
وهناك قصائد عديدة في إطار هذا المنحي الكاشف عن طبيعة البنية الداخلية لهذا الحي , مثل قصيدة ( بقع ) ,وهي قصيدة وإن كانت تكشف عن سلم تراتبي اجتماعي لسكان الحي , إلا أن أهميتها الكبرى ترتبط بفكرة الديوان الرئيسة المهمومة برصد ما لا يرصد أو تكديس ما لا يكدس , من خلال الاتكاء علي أن رصد الحاضر لا يمكن أن يتم إلا من خلال استحضار الماضي أو الوعي بالطبقة أو الذاكرة السابقة :
منذ المرة الثالثة التي ظلت تنجب أطفالا موتي
تدفن أطفالها في ذات المكان الذي اغتسلتُ فيه طفلا
لم يلحظ الأنين ولا البقع غير المنتظمة في صبة الحمام
كما لم يلحظها المستأجرون الجدد بعد ذلك
فالشاعر ـ في هذا النص الشعري ـ يؤكد علي أن المكان كإطار حاوٍ وجامع للبشر , يتأثر ويتغير سمته , بفعل البشر , فهذا الفعل المرتبط بدفن الأطفال في ( الطاقة ) وهي ظاهرة كانت موجودة في الريف قديما , وإن كانت تدل علي فعل تراتبي اجتماعي , موح إلي حد بعيد بقيمة المكان وطبقاته السابقة , التي تطل فاعلة في تشكيل واقعنا الآني .
السرد والحكي واستعادة الماضي :
عيد الخميسي من خلال ديوانه البوادي , استند إلي تقنيات عديدة , لكي يعيد تشكيل طبقات عديدة متوالية لهذا الحي , وهذه الطبقات في معرض دائم للتغير , فهذا الحي لا يظل علي وتيرة واحدة أو شكل ثابت .
وقد استند الشاعر إلي جزئية مهمة ترتبط بالبساطة , فالشاعر ـ علي سبيل المثال ـ لم يستخدم لغة شعرية استعارية بشكلها العلني المقرر مسبقا , وإنما استخدم لغة تنتهج البساطة سبيلا , وهذه اللغة تحتاج من المتلقي إلي إصغاء تام وإلي رصد يقترب من رصد عدسة الشاعر, حتي يدرك مواطن الجمال , وهذه البساطة اللغوية كان لها دور فاعل في إسدال نوع من الحميمية في رصد الأشياء , فالجمادات أو الأشياء المادية في هذا الديوان ليست جمادات أو أشياء مادية , وإنما ظهرت بوصفها كائنات حية لها حضور فاعل في تشكيل إحساس خاص بهذا الحي , بداية من أنواع النباتات أو الأعشاب , ومرورا بالأبواب والشبابيك وانتهاء بأسماء المواضع , فالمكان لا يمكن أن نأخذ صورة واضحة عنه إلا إذا أحسسنا بهذه الأشياء المادية دافقة في أركانه , وهذه الأشياء هي التي تعطيه سمته النهائي .
وارتباطا بهذه البساطة التي أشرنا إليها سابقا, سنجد أن شعرية الديوان تنتهج نسقا سرديا راصدا , واستخدام تقنيات السرد في إطار فن الشعر ليس شيئا سهلا ,كما يتصور البعض , فالشاعر الذي يعمد إلي ذلك مطالب أن يشعرك في كل لحظة بالشعر والنثر في آن , والشاعر الذي يستخدم آليات السرد في النص الشعري , وهي آليات لا تملك وجودا قائما بذاته , مطالب ـ أيضا ـ أن يكيف هذه الآليات حتي لا يشعر المتلقي بأن ما هو سردي قد أثر علي ما هو شعري , وحتي لا يكون هناك وقوع في قبضة الثنائية الفنية .
والديوان من بدايته إلي نهايته مملوء بالقصائد التي تشير إلي أن آليات السرد لها حضور واضح , مثل قصيدة ( أعمامي ونفر آخرون ) , و ( حكاية قديمة ) , و( وفم المريض ) , و( بقع ) , و( عائدة ) ..........
ولكن الشيء المهم في هذه القصائد ,يتمثل في أن آليات السرد المستخدمة في النص الشعري , لم تفض إلي ترهل بنائي يمكن الوقوف عنده , وإذا كان الشعر قد يستفيد من السرد التفصيلات المثيرة الحية , فإن الشاعر عيد الخميسي , قد عمد إلي اختيار اللقطة الكاشفة , بالإضافة إلي أن سرده لم يكن تتابعيا , ففي أغلب قصائده نجده يعتمد علي آليات تقطع خطية الزمن وتمدده المعهود , لأنه لا يهتم بخطية الزمن أو التمدد المعهود , وإنما ينصب اهتمامه الأساسي علي اختيار لقطة كاشفة تكون وثيقة الصلة بطبقة جيولوجية أو ذاكرة محددة لهذا الحي , ففي قصيدة ( راعية ) :
الراعية التي تسوق غنمها علي مهل وهي عائدة قبيل المغرب
بقربة شبه فارغة وعصا وكل ما يلزم لزى راعية عام 73 ه
في المشهد الذي سارع لالتقاطه تجار صور جائلون
لم يصلهم ضيق الراعية من رائحة ملابسها
تأففها ...ألم قدميها المشققتين وجوع بطنها
أو أنهم قاموا بحذف هذه العناصر
نجد أن المتلقي سوف يلاحظ للوهلة الأولي الإصرار علي تفصيلات حية , تأتي كاشفة عن طبيعة الصورة , وهناك تركيز علي تفاصيل بسيطة المقصود منها إكمال عناصر الصورة , ولكن المهم- في ذلك السياق ـ أن الشاعر لا يعتمد سردا تراتبيا , فهناك حالة من الارتداد والاستباق في آن , لتقديم عوالم مختلفة , فالراعية بلحظتها الآنية ليست منفصلة عن لحظات سابقة شكلت تأففها وألم قدميها وجوعها , وكذلك المصورون ـ بطبيعتهم ـ يختارون ما يناسبهم , فيحذفون ما يعكر صفاء النموذج أو جمال الأيقونة .
فاستخدام السرد في إطار النص الشعري , استخدام محسوب , مرتبط بقدرة الشاعر علي اختيار لقطة كاشفة , وارتباط هذا الاختيار بالتكثيف , حتي لا يكون هناك ترهل سردي,يقضي علي حرارة ما هو شعري ..
وإلحاح الشاعر ـ في هذا الديوان -علي استخدام لغة تتسم بالبساطة وآليات السرد , أثر بالضرورة علي الآليات الفنية , التي يقدم الشاعر من خلالها نصه الشعري , فليس هناك تعمد واضح لخرق نسق المواضعة اللغوية , ولا تقديم استعارات علنية , فالشعرية في هذا الديوان تعتمد علي التعبير البسيط الموحي , الذي يشكل ـ إن استحضره المتلقي ـ ميزة جمالية تقوم علي البساطة والتقرير بعيدا عن الجماليات المقررة والمؤسسة في شعريات كانت تمثل تجليات سابقة .
الوعي الانشطاري والأزمنة الحديثة
محمد خضر الغامدي:
إذا تأملنا نماذج عديدة من شعرنا المعاصر , وشعر قصيدة النثر بصفة خاصة , سنجد أن الوعي الذي يتجلي من خلال هذه القصائد وعي انشطاري , يجمع الأشياء دون رابطة ظاهرية واضحة في إطار سياق دلالي واحد , ووجود هذا الوعي الانشطاري مرتبط ـ أساسا -بطبيعة اللحظة الحضارية التي نحياها , فنحن في لهاث دائم , لرصد العالم من وجوهه المختلفة والمتناقضة , وأي محاولة منطقية لفهم العالم الفردي والجماعي محكوم عليها بالفشل والاستحالة , ومن ثم فوجود هذا الوعي يكاد يكون مبررا استنادا للحظة حضارية خاصة .
يتجلي هذا الوعي بشكل لافت في ديوان محمد خضر الغامدي ( صندوق أقل من الضياع ) , خاصة في قصيدة( حديث البلكونة ):
لطالما حدثتها عن البلكونه
وعن أفلام الآكشن المصرية
عن دفاتري وأقلامي وحجرة
الكمبيوتر
جاك دريدا ـ الإمام النفري
الجريدة ـ وبيتر جونسون
الموت والدفء
فالثنائيات المقدمة في الجزء السابق لا رابط بينها علي المستوي الظاهري الواضح , ولكن جمعها في سياق واحد , بالإضافة إلي جزئيات عديدة مثل الحديث عن عبد العزيز مشري أو ميلان كونديرا أو العولمة أو الكونيالية , يشير إلي جزئية مهمة ترتبط بالإنسان المعاصر ووعيه المنفتح علي آفاق عديدة , مشدود إلي إدراكها .
هذا الوعي المتعدد الطبقات والاتجاهات أثر تأثيرا كبيرا في شعرية محمد خضر الغامدي , وفي بناء الصورة الشعرية لديه , فالصورة لا تبني علي منطق واقعي , وإنما تبني في إطار منطق خاص , ففي قصيدة ( أرق ) :
يسقط النعاس
في معركته الأخيرة
شرشف متجعد آخر السرير
وحليب الصباح المتثاءب
يقفز في حلقي
بدون تبريرات واقعية
أشعل سيجارة
وأراقب عصفوره تتمطي
فالصورة في هذه القصيدة صورة تكوينية ترتبط بالذات ,بأفقها المغلق والمطبق لحظة الصباح , وللخروج من هذا الأفق المطبق , الذي تشكل من صور مجهرية فاعلة بداية من المجاهدة للالتحام بالواقع بفعل الصحو, ومرورا بحليب الصباح الذي يقفز في الحلق ,نجد أن حركة المعني تنتهج فعل المراقبة بعيدا عن أفق الذات , وكأن فعل المراقبة يضع قشرة رهيفة علي السأم المنفتح وكأنه ـ أيضا ـ يمثل أفقا للضياء .
إن هذا الوعي الخاص الذي أثر علي أن تكون الصورة الشعرية لدي محمد خضر الغامدي تكوينية من بنيات صغري أو مجهرية, كان له حضور خاص في توجيه شعرية الديوان إلي جزئيات خافته لصيقه بأزمة الإنسان المعاصر , وهذه الجزئيات الخافته لا يمكن إدراكها بسهولة , لأنها تحتاج إلي وعي شبيه , بوعي الشاعر, حتي تتم معاينة حركة المعني ونموها في أفق خاص, ففي قصيدة تشرد :
بلا هوادة
كأي شخص وجد أهليته
استرخي آخر أضلاع الليل
اقرأ وجه التشابه
غربة تشعل الصهيل
مساء مشرد نتقاسمه
تتواطأ المدينة مع بغية الريح
وتزرعنا في الشتات.
فالمتلقي لا يستطيع أن يلم بأطراف المعني , إلا إذا استحضر ( المساء ) , وما يوجده للسارد الفعلي للنص من توحد مع الذات , ومن مساءلة خاصة , تفصح عن تشابه السابق والآني والقادم , ومن ثم تأتي الغربة فاعلة , بعد معاينة الفرق الواضح بين المتحقق والمتخيل , وثمة جزئية في النص السابق , تشير إلي تعامل خاص مع عنصر من العناصر الأساسية للوجود , وهو الهواء , من خلال الريح , فالقارئ للديوان يدرك أن الشاعر علي مدي صفحات الديوان أسس رمزية خاصة للريح , فالريح في القصيدة وسيلة أساسية للشتات والعراء , وهي التي تحمل السارد الفعلي في النص وتحركه ـ وهو تحرك ثابت في المكان ـ إلي فضاءات تتكاتف فيما بينها للإحساس بالشتات والأفق المغلق والسكون.
وفي قصيدة ( هوامش الريح ) تأتي الريح مرتبطة بالحزن والبكاء , واحتفالات الحزن , ويبدو أن حضور ( الغبار ) ـ معادل التراب ـ في نظرية امبادوقليس بعناصرها الأربعة في النص الشعري ,يدل علي أن الشاعر يعي تماما ملامح هذه النظرية , التي تجلت بشكل واضح في ديوان عفيفي مطر( رباعية الفرح) , وديوانه ( ملامح من الوجه الامبادوقليسي ) ,فالريح في نص محمد خضر الغامدي وثيقة الصلة بتكوين ذهني خاص , يرتبط بالحركة وعدم الثبات , عند أفق واحد , وإنما تصبح هذه الذهنية المرتبطة بالريح منفتحة لتجارب عديدة تتراكم في لحظة واحدة , بينما يأتي الغبار معادلا للسكون والهدوء , يقول محمد خضر الغامدي :
يزعم الغبار أنه كان حاضرا
في الصف الأمامي
لا لشئ إلا للإثارة
بينما تدرك الريح
هذه السلوكيات الصبيانية
تلتم عصفورتها
وتواصل البكاء
فالغبار ـ معادل التراب ـ يشير إلي ثقل يهدهد من طبيعة الريح المجلوبة علي الحركة , والتي تحمل معها ذاكرة منفتحة علي تجارب تتراكم في لحظة واحدة , مشكلة أفقا خاصا للتشظي والبكاء .
والقارئ لقصيدة ( ركام ) , سوف يدرك مشروعية هذا التوجه في فهم دلالة الريح , ودورها في نقل الإدراك الذهني إلي تجارب تتراكم في لحظة واحدة :
ونمضي كالتفاصيل إلي جحيم الليل
أنت قلتَ ذات سهو بعيد
كيف لي أن أغلق الباب
وصوت الريح يطرق بإمعان
كتابة الذات ونسق المراقبة :
القارئ لديوان ( صندوق أقل من الضياع ) , لمحمد خضر الغامدي , يدرك بسهولة أن كتابة الذات جزء أساسي من شعرية الديوان , فالذات الإنسانية لها حضور واضح الملامح , وثمة جزئية مهمة تشير إلي هذا النسق , وهي جزئية عناوين القصائد , فالمتأمل لهذه العناوين يدرك أن معظم العناوين جاءت (نكرة ) , وهذه التنكير يشي من وجهة أولي بخصوصية الرصد , ومن جهة ثانية يشيرإلي الإعلان عن قيمة هذا الرصد , فالعناوين مثل ( زمن ـ حيرة ـ فقد ـ لهفة ـ رؤيا ـ ترادف ) تكشف كلها عن خصوصية , وعن قيمة هذه الرؤية , فتنكيرها جعلها مرتبطة بحدقة الراصد دون النظر إلي نموذج سابق مؤسس , فهي تؤسس تفردها من خلال هذا التنكير , يتجلي هذا حين يتوقف عند قصيدة ( رسم ):
كل دائرة رسمتها داخل الغرفة المغلقة
كانت تشبه الإطار العتيق
مسنونة جوانبها
محفورة للداخل
نبتسم من الوصايا المعلقة هناك
غير آبهين بمزاج سماء مستطيلة
ففي النص السابق ندرك أن العنوان ( رسم ) جاء مرتبطا برؤية خاصة , للقيود والقواعد الخاصة أو العامة , التي تشكل خطأ أو صراطا , للبشر المنضوين داخل مجتمع ما , وهذه القواعد تتمثل في ( الغرفة )و ( الدائرة ) , وعلي الجانب الآخر , يأتي رسم مغاير يتمثل في المستطيل الذي يشير إلي بوادر للخروج عن القواعد المؤسسة المعهودة , وربما يتجلي من خلال السطر الأول أن هذه القواعد ( الدوائر ) , من صنع الذات وليست لصيقة بالمجتمع , وهذا سوف يجعلنا نعيد تلقي ( السماء المستطيلة ) , بحيث تغدو نسقا خاصا يستعصي علي القواعد , ويهدم الدوائر المصنوعة حول الذات,والأسس التي تكونها لنفسها .
وهذا التوجه في كتابة الذات, والذي يشير إلي نسق متفرد من الوعي , قد يشدنا إلي التوقف عند بعض القصائد , التي جاءت مرتبطة بالزرقة, والزرقة في وعينا الإدراكي لا تنفصل عن البحر أو السماء , بحيث تغدو في قصائد الشاعر معادل غيب , ومعادل مجهول , كما في قصيدة ( زرقة ) , أو في قصيدة ( الحياة باعتبارها زرقاء ) , والزرقة في قصائد الشاعر ـ بالرغم من أن التعامل مع الألوان تعامل ذاتي محض ـ ترتبط بالدلالات المرصودة في إبداعات الشعراء السابقين , فالزرقة ـ لديه ـ مرتبطة بالمرأة النموذج , التي تشكل سلطة نموذج متخيل ( ليس بوسعنا تخيل الأزرق شريعة للريح ـ حتي في أصعب حالاته ) , والأزرق ـ أيضا ـ يأتي معادلا للصفاء , كما في قوله في القصيدة ذاتها :
إن السماء حين تكون زرقاء زرقاء
صافية
يعني أن حالة غبطة وفرح
تأتي من بعيد
يتجلي نسق كتابة الذات في قصائد عديدة مثل ( فقد ) , بحيث يغدو الزمن أو الإحساس بالزمن شاهدا علي حدوث تحولات داخلية , وبحيث يغدو المتن هامشا والهامش متنا , نظرا للنمو المعرفي , ووجود خلخلة لمنظومة القيم التي كانت مطروحة في لحظة ما , لتحل محلها قيم جديدة وارتباطات مغايرة.
وإذا كانت كتابة الذات تجلت في الجزء السابق من خلال الارتباط بالذات وقيمها , فإن هناك جانبا مهما في إبداع الشاعر , يرتبط بالواقع , ومراقبة الآخر, الذي لا ينفصل عن الأنا , ولا يكون للآخر إطار واضح , إلا في إطار جدلي مع الأنا , والديوان به جزء كاشف عن هذا المنحي , تحت عنوان ( حصيلة الواقع ) , والواقع في هذا الجزء لا يتجلى من خلال الاتكاء علي جزئيات كاشفة عن هذا الواقع , وإنما ـ أيضا ـ في استخدام لغة خاصة , تتعلق بالمعيش , وكأن هذه اللغة اليومية , قضت علي أي تعال نسقي خاص بلغة الشعر .
وربما تأتي جزئية أو فعل المراقبة واضحا في هذا الجزء , ولكن فعل المراقبة في ديوان الشاعر لا يأتي بشكل حيادي , وإنما يأتي من خلال وجود وجهة نظر أو وعي ذاتي خاص, يتجلي بشكل متوار وغير علني , ويأتي ـ أيضا ـ مرتبطا بطبيعة الحياة وتناقضاتها اللافتة للنظر ,ففي قصيد ( زمن ) , نجد أن الزمن يطل عنصرا فاعلا للإشارة إلي الحياة بتناقضاتها العديدة من خلال فعل المراقبة الراصد.
والقصيد ترصد وجهين متقابلين للفتاة, ففي الوجه الأول :
البنت الحلوة
تحمل حقيبة اليد الرمادية
الحقيبة نفسها التي تحملها
منذ أعوام
تمشي بهدوء
بجانب السيارات المركونة
عند متجر الأحذية
أراقبها أحيانا
حين يكون الفراغ
كتابا مفتوحا في وجهي
البنت الحلوة
تمشي لوحدها
في هذا الوجه , تلح مجموعة جزئيات كاشفة عن براح الطفولة , التي يكمن جمالها في الأمان , وفي انعتاقنا من الأسئلة الوجودية أو المعرفية التي تنمو معنا بفعل النمو المعرفي أو الزمني , ومن سماتها ـ أيضا ـ الانعتاق من نسق سلطوي يمارس دوره بالتدريج مع تبدل أشكاله وهيئاته .
إن النص الشعري بعد أن يقدم هذا الوجه , يطل الصوت السردي الفاعل في النص , لكي يشير إلي الوعي الخاص , ولكي يشير ـ أيضا- إلي أن السرد المراقِب أو المراقَب السابق لم يكن سردا حياديا , وإنما سرد مبني علي الوعي , وعلي وجهة النظر المتأملة لجمال اللقطة السابقة ببراحها الجميل , قبل أن ينتقل إلي اللقطة الثانية , التي تشير إلي تحول خاص :
البنت الحلوة
أصبحت الآن
تصطحب رجلا بدينا بشارب محايد
وكومة صغار
خلفها
يصرخون
ماما
ماما
البنت الحلوة
لم تعد تحمل حقيبتها الرمادية
ولم تعد تمر من هنا
ففي الجانب المقابل للصورة السابقة , نجد أن السمات التي كانت متاحة , حدث لها تحول , فبراح الطفولة الذي كان موجودا سابقا , والذي يكمن بهاؤه في وجودنا مكفولين من آخرين , وأمان الطفولة في السير منفردة بالنسبة للفتاة , لم يعد متاحا بفعل النمو العمري , وأصبحت هناك صور جديدة تشير إلي وجود إطار سلطوي خاص ممثل في الرجل البدين , وأصبحت الفتاة التي كانت مكفولة من آخرين في موضع جديد , مما أوجد زحزحة وخلخلة للصورة المرصودة السابقة .
إن وجهة النظر الخاصة بالوعي الذاتي في هذا النسق المراقب , تتجلي بشكل واضح في نهاية النص من خلال الاتكاء علي إغلاق أفق هذا الفعل , وكأنه يمثل لهذه الذات بؤرة من الضوء تخرجها من دائرتها المقيمة المطبقة .
إن هذا النسق الخاص بالمراقبة في شعر محمد خضر الغامدي , لا يأتي فقط في إطار مراقبة الآخر المباين عن الذات , وإنما قد يتشكل ـ أيضا ـ ونحس بوجوده في مراقبة الذات , من خلال الاتكاء علي ضمير الغائب للتعبير عن الأنا , وكأن الذات الشاعرة في ذلك السياق تحاول أن تتخلص من كل أواصر الترابط , وذلك بوضع الذات في بؤرة الرصد , دون أدني حضور للأنا التي قد تشكل مصادرة , ومن ثم تغيب الرؤية الموضوعية , فهذا التوحد ليس إلا سبيلا لمعاينة وضع الذات دون مواربة أو تحيز , كما في قصيدة ( صمت ) وقصيدة ( مطابقات ) :
مرة قال عن البحر
همس السماء
وقلادة التيه
مرة قال عن البحر
أغنية عاشق يحترق
وفوضي الطبيعة
مرة
وجدناه هناك
يتكئ علي الحائط الرخام
تتدلي قدماه عند أول الزبد
ولا يلفت انتباهه
غير صوت كلب
ينبح ينبح
باتجاه البحر
إن التعبير عن الذات من خلال استحضار الغياب تقنية لافته في شعرنا المعاصر , فالشاعر يحول ذاته إلي مادة أو ظاهرة من خلال تفردها للدراسة أو المعاينة ,ومن خلال تجرد شبه كامل , وربما كان المقطع الأول والثاني مقطعين عاديين , في إطار الكشف عن طبيعة التأمل الموضوعي , لوضع الذات , خاصة إذا أدركنا أن النص الشعري مرتبط برصد علاقة بين الأدنى والأعلى , بين المبذول والمنكسر وبين المتأبي والمترفع والمتعالي .
ولكن الرؤية الموضوعية الكاشفة تتجلي في المقطع الأخير , حتي لو كانت هذه الرؤية صادمة إلي حد بعيد , خاصة إذا استحضرنا مساحات ( التطابق ) التي وجدنا صداها ماثلا في العنوان , إن هذه الرؤية الموضوعية ترتبط بانكسار ما , في معاينة الغيب أو المجهول , أو قد ترتبط بانكسار ما في تواصل ما يرتبط بمقاربة سلطة نموذج أنثوي متخيل , كما فعل هنريك إبسن في مسرحية حورية من البحر ....







No comments: