تشريح العقلية العربية النسوية
إجراء الحوار ليس سهلا , كما قد يتصور البعض , لأنه يحتاج إلي معرفة شاملة أو شبه شاملة , بالشخص الذي تحاوره , ويقتضي ـ أيضا ـ أن يكون المحاور واعيا بالسياق العام , وبالسياق الخاص , الذي شكل ملامح التميز الفني أو الإبداعي .
فالحوار ليس إلا سباحة في العقل , وتحريكا للساكن , وكشفا للمخبوء المتجذر في الباطن , فالحقيقة بنت الحوار , وليس هناك أنفع من الإطلاع علي ما في عقل الآخر , ففي الحوار هناك بؤرة لاندماج وعيين , وعي مؤسس مخبوء , ووعي خاص ينطلق لمعاينة الوعي السابق , وفتح له نافذة للظهور .
إن هذا الوعي ربما يزداد حدة وحضورا حين يكون المحاور أديبا , أو شاعرا له ملامح خصوصية , لأن هذه الخصوصية الإدراكية للحياة والفن , هي التي تعطي رؤيتة شمولا وأبعادا خاصة . فالحوار ـ في هذه الحالة ـ لا يكشف عن طبيعة المحاوَر فقط , وإنما يكشف ـ أيضا ـ عن طبيعة المحاوِر , بحيث نجده يلح علي مجموعة قضايا تكون مسيطرة ومطبقة في لحظة زمنية راهنه .
في كتاب الشاعر والصحفي الليبي محمد القذافي مسعود نجد أن هناك إلحاحا علي اختيار كاتبات عربيات , ليكشف من خلال هذا الحوار , عن إشكاليات سياسية واجتماعية وأدبية مازالت مثار شد وجذب , ومازال توهج هذه الإشكاليات حاضرا بقوة , انطلاقا من عدد الدراسات والبحوث التي تناولت هذه الإشكاليات .
والتركيز علي الكاتبات العربيات أو المبدعات بشكل عام , في حد ذاته لا يخلو من دلالة , فالمرأة ـ بصفة عامة ـ هي الكائن الأكثر تأثرا بواقعنا المهيض , بالرغم من حالة الاستلاب التي يعاني منها الإنسان العربي رجلا كان أم امرأة .
ومحمد القذافي في حواراته لا يتبع منهجا ثابتا , في التعريف بشخصية المحاور , ففي بعض حواراته يقدم معلومات ضافية عن الكاتبة أو الشاعرة , ترتبط بالميلاد والنسق التعليمي من جانب , ومن جانب آخر يقدم سجلا موازيا للتكوين الأدبي .
وفي حوارات أخري نجده ـ ربما استنادا إلي المعرفة المؤسسة لدي القارئ ,وهذا لا يشير إلي نسق تراتبي أو قيمي ـ لا يقدم أي تعريف بها , كما فعل مع سلوى بكر وأخريات , ولكنه في حوارات أخرى ـ خاصة مع الأديبات المغتربات ـ يقدم وقفة تعريفية ضافية , كما فعل مع كلاديس مطر أو باسمة يونس .
في هذه الكتاب تتشكل إشكاليات مهمة , وليس في وسع هذه المقدمة ـ كما أنه ليس من غاياتها ـ أن تستقصي مجمل هذه الإشكاليات , ولكن تتوقف عند أهم هذه الإشكاليات التي شكلت وجودا لافتا , ومن ثم حضورا ملحا في تحليل بعضهن لمأزقنا الراهن بتجلياته العديدة .
وربما تكون أولي هذه الإشكاليات ـ ونحن نتحدث عن كاتبات ومبدعات عربيات ـ متمثلة في وضع المرأة الخاص في المجتمعات العربية , وقد تجلى من خلال الحوارات أن وضع المرأة في المجتمع العربي , لا ينفصل عن وضع الإنسان العربي بصفة عامة في إطار نسق القمع والاستلاب السائدين , وفي إطار هذه النظرة التي تجلت بشكل واضح تتواري فكرة المساواة , أو المطالبة بالمساواة , التي أصبحت في بعض مجتمعاتنا طلبا غير مجد لتحققه علي هيئة ما , وتحل محلها فكرة التكامل الخلاق , فالوضع العربي يفرض علي الإنسان العربي وجودا وكيانا , لا يمكن مقاومتهما إلا بالتسليم .
ولكن هذا التكامل الخلاق الذي تحدثت عنه كلاديس مطر , نجده مازال مجروحا بقوة لدي كاتبات أخريات , مازلن يؤمن بفكرة الصراع , خاصة مع استمرار نظرة الرجل إلي المرأة , بوصفها كيانا ناقصا , يحتاج إلي الولاية والتطويع في إطار نسق سلطوي خاص .
ولأن الإشكاليات في المجتمعات العربية متشابكة ويصعب الفصل بينها بشكل قاطع, تأتي إشكالية أخرى مرتبطة بالإشكالية السابقة , وقد تكون نابعة منها أو ـ علي الأصح ـ مولدة لها , وهي إشكالية وضع المثقف العربي , وهل مازال له دوره الفاعل , الذي كان موجودا في تجليات ولحظات سابقة . وتتعدد الإجابات- في إطار هذه الإشكالية - فسعدية مفرح تنطلق من إشكالية الوضع الراهن وتقول عن المثقف ( إنه لقيط ) , وسلوى بكر تلح علي أن علاقة المثقف بالسلطة علاقة ملتبسة , ومشدودة إلي الترغيب والترهيب , أو إلي ذهب وعصا معاوية , وهذا قد يشدنا إلي مصطلح استخدمته وفاء عبدالرزاق (المثقف الطبال ) أو المسيس , أو بتعبير أقل حدة استخدمته فريدة النقاش , ففي رؤيتها لهذه الإشكالية ترى أن المثقف قد تخلى عن دوره الكاشف , وتحول إلي مسوغ أو مبرر .
وتقف كلاديس مطر عند هذه الإشكالية موقفا خاصا , فهي ترى أن المثقف يمارس سلطة ما , ترتبط بمكان آخر , ربما لأن دوره لم يكن فاعلا , كما كان في تجليه القديم وربما كان هذا التوجه منها , مرتبطا- في الأساس ـ بمفهومها للثقافة , فالثقافة ـ في رأيها ـ لم تعد مجرد القدرة علي تراكم معلوماتي, وإنما تأتي مرتبطة بالوعي بالسياق الفردي والجماعي والكوني .
وربما كان وضع المجتمع العربي , وتشكيله الخاص , في إطار تعدده العقدي أو الطائفي في بعض المجتمعات العربية حاضرا في رؤية الكاتبات العربية , وقد تجلت هذه الرؤية من خلال نظرة خاصة إلي التراث وإلي الحداثة , وإلي غياب القارئ , الذي يجعل أثر المثقف أو المبدع يكاد يكون غائبا . فسلوى بكر تعلل غياب القارئ بالخلل الاجتماعي أو الثقافي أو الاقتصادي , وربما يكون هذا التبرير من الكاتبة ـ وإن كان في جوهره صحيحا مقبولا ـ مرتبطا في الأساس بنفي التهمة عن المبدع أو المثقف . وربما كانت الكاتبة غير بعيدة عن هذه الفكرة في تناولها لإشكالية الحداثة في مجتمعاتنا العربية , فهي تري أن السبب في ذلك يعود إلي ثبات الأسئلة وثبات الإجابة , فتجديد الأسئلة في كل تمفصل مرحلي ضروري , حتي وإن كانت الإجابة غائبة أو غير حاضرة .
هذه الرؤية ظلت حاضرة في مقاربة الكاتبات العربيات للتراث , ودوره في انفتاح المجتمع إلي مناح جديدة , أو وقوفة في صقيع ساكن , فهدى حسين الشاعرة والكاتبة المصرية تلح علي الوعي الآني بالتراث , وهذه فكرة مهمة , إذا أضفنا إليه صيرورة وحركة دائمين , وقد ألحت سعدية مفرح علي القراءة الحديثة للتراث, وفي إطار هذا التصور تضع كلاديس مطر ـ انطلاقا من وضع وطنها الخاص ـ إلي فكرة العقدية أو الطائفية , التي تكون ذات تأثير سلبي يؤدي إلي غياب الهارموني والتناغم الفعال لأي مجتمع . فالعقدية أو التعددية الطائفية إن لم تؤسس في إطار حوار فعال يبني علي دعائم إنسانية تؤدي إلي صراعات فادحة .
تتبقي في هذه الحوارات إشكاليات مهمة تتصل بالإبداع , وبأثر البيئة , والنوع الأدبي , وعلاقة المبدع بالناقد , وهي إشكاليات - بالرغم من خفوت بعضها ـ إلا أن وميضها مازال موجودا , ويزداد حدة من حين لآخر .
ففي جزئية أثر البيئة وارتباطها بالإبداع , فقد جاءت معظم الآراء كاشفة عن أن أثر البيئة يكاد يكون غير موجود , لأن البيئة ـ كما تقول بريهان قمق ـ لا تمنح جينات وراثية , ولكن السبب الأهم ـ من وجهة نظري ـ الذي يجعل أثر البيئة يقل أو يمحى هو وجود ما يمكن أن نسميه سلطة النموذج الفني , الماثلة في إبداعنا العربي من العصر الجاهلي إلي وقتنا الحالي , فالمبدعون ينطلقون في إبداعهم باتجاه نموذج مؤسس , فالرومانسية كانت نموذجا فنيا مصريا , وشعر التفعيلة كان عراقيا , وقصيدة النثر لبنانية , وفي إطار هذا الانحناء تجاه نماذج مؤسسة يقل أثر البيئة أو يمحي .
أما فيما يخص جزئية النوع الأدبي , فإن كثيرات من المبدعات العربيات أشرن إلي أن هناك جانبا لا يمكن إدراكه لاختيار فن دون آخر , فالمبدع- في إطار هذا التوجه ـ مشدود إلي قوه عليا , أو إلي تكوين ثقافي خاص يجعله يختار فنا دون آخر .وانطلاقا من الجزئية السابقة نجد أن هناك بعض المقاربات المنطلقة أساسا من السؤال الأجناس , كقول إحدى الكاتبات ( سلوى بكر ) , إن الرواية تأريخ للحظة , أو أن الرواية فن مفتوح يختص بالعوالم البديلة أو المحرفة للواقع .
وتجلت في بعض هذه الحوارات مقاربة خاصة لفن الرواية باعتباره فنا مرتبطا بالمجتمعات الحديثة وبنشأة الطبقة المتوسطة , ومن ثم يرتبط بالمدينة بتشكلها الطبقي الخاص . ولمقاربة هذا التصور الناقص من وجهة نظري , يجب أن نفرق بين المدينة باعتبارها مكانا , والمدينة بوصفها مجموعة أسس للاندماج في واقع ما , فالمدينة بوصفها مكانا فقط لا ترتبط بالرواية , وإنما ترتبط بها بوصفها كيانا أكبر يحتوي علي تشابهات وتباينات عديدة , وفي إطار هذا التصور , يمكن أن تتحول القرى أو الريف إلي مكان فاعل لتقديم روايات لافتة .
إشكالية المبدع والناقد , أخذت حيزا لافتا في مقاربة الكاتبات , وقد تعددت مقاربة الكاتبات لهذه الإشكالية , فكثيرات منهن أشرن إلي انتشار المجاملات وغياب الموضوعية عن الناقد العربي , وأشارت بعضهن ـ فاطمة الزهراء بنيس ـ إلي أن النقد ـ وهذا شئ منطقي وطبيعي ـ قابل للنقد والمراجعة .
وقد تجلى لدى بعض الكاتبات اتهامات صعبة للنقاد بشكل عام , مثل قول وفاء عبد الرزاق ( الناقد يبيع كلمته بمائة دولار ) , وهو اتهام لا يمكن قبوله بسهولة , ومثل هذا الكلام يشكل نسقا جاهزا لبعض الكاتبات للمواربة والتحيز للفعل الإبداعي لديهن .
إن هذه المقدمة القصيرة لا يمكن أن تلم بإشكاليات هذه الحوارات الكاشفة , عن طبيعة العقلية العربية النسوية , ولكن يكفي أن أشير إلي جزئيات مهمة يمكن أن تقابل القارئ , مثل الفن والقضايا الكبرى , أو الرؤية والتشكيل , أو مقاربة سياسية مهمة لفريدة النقاش تتصل بفكرة الإخوان المسلمين , والتطابق بين السلطة والمعارضة في إسدال نسق سلطوي على الفرد .
د. عادل ضرغام / ناقد وأكاديمي مصري .
No comments:
Post a Comment