التجارب الشعرية في جيزان-ورقة العمل التي شاركت بها في ملتقى الشعر 2007
إن مقاربة الشعر في منطقة جيزان في المملكة العربية السعودية تعد عملية صعبة إلى حد بعيد, خاصة إذا كان الدارس أوالباحث يقارب هذا الشعر وهو موجود على محيط الدائرة, وليس في البؤرة, والفارق بين الوجودين, لا يكمن في كون الباحث ينتمي إلى بلد أخري, وإنما ينبع من كونه ينتمي إلى ذاكرة إبداعية, قد تختلف في بعض وجوهها ومنطلقاتها, وهذا الاختلاف قد يدفع الباحث بعيدا عن المقاربة, خاصة بعد وجود بعض الأقوال التي ترى أن مقاربة الشعر السعودي بصفة عامة قد تكون لصيقة بالناقد السعودي, فهو الذي يعرف التقاليد الفنية, والتقاليد الاجتماعية التي قد تكون فاعلة في كشف النقاب عن تفرده وجماله.
ولكن- بالرغم من هذا التوجه الذي يشكل صعوبة ما ـ نجد أن هناك توجها آخر, قد يكون معينا على مواصلة العمل, يتمثل في (سلطة النموذج الفني), والذي وجد منذ الجاهلية إلى يومنا هذا, وهذا المصطلح ليس واضحا في ذهني في الفترة الآنية وضوحا تاما, ولكن يمكن كشف بعض دلالاتة من خلال الانطلاق من فكرة البيئة ودورها, وفكرة النموذج الفني الذي يتجه إليه الشعراء في فترة زمنية معينة, فوجود النموذج الفني بالإضافة إلى سطوته, تجعل أثر البيئة يقل أو يكاد يمحي.
وهذا النموذج الفني ليس ثابتا, وإنما هو متحرك من مكان إلى مكان, فالنموذج الفني الذي كان يتجه إليه (البارودي وشوقي وحافظ), كان موجودا في الجزيرة العربية بالرغم من تباعد المسافات والأزمنة, بينهما نجد النموذج الفني للرومانسية بشكلها المثالي موجودا في مصر, ماثلا في إبداع الديوان نظريا وإبداع (أبولو) شعريا, في حين أن النموذج الفني لشعر التفعيلة كان ماثلا في العراق, لدى السياب ونازك الملائكة والبياتي, أما القصيدة النثرية, فإن نموذجا الفني ـ بالرغم من البدايات التي تكون متقاربة ـ فإن نموذجها الأشمل ربما يكون موجودا في لبنان.
إن الوقوف عند مثل هذه الفكرة, التي يقل معها أثر البيئة يجعل مقاربة الشعر, عملا مشروعا لكل ناقد, حتى لو لم يكن واعيا وعيا تاما بالتقاليد الفنية أو الاجتماعية, التي تشكل ملامح ذلك العمل.
تبقى جزئية أخرى قد تكون سببا من أسباب الصعوبة, تتمثل في هذا المنحى التجميعي, الذي يضع شعراء السنوات الأخيرة في سلة واحدة, وهذا المنحى التجميعي ـ بالرغم من مشروعيته ـ قد يكون سببا في إهمال بعض الشعراء, فالشاعر يجب أن ينظر إليه على أنه فرد أو جزيرة قائمة بذاتها, ومن خلال هذا التوجه تسقط كل المصطلحات التي تعرقل هذه الفردية, مثل الحقب الزمنية القائمة على فكرة الجيل, وهي كلها توجهات ـ بالرغم من وجودها فاعلة في فترة من الفترات ـ تفقد وهجها بالتدريج.
وانطلاقا من الجزئيتين السابقتين, سوف أقوم بالوقوف عند بعض النماذج, التي تشكل من وجهه نظري الخاصة تميزا ما, فالقراءة النقدية عمل ذاتي في الأساس, بالرغم من محاولتها ارتداء مسوح الموضوعية..
حسن الصلهبي (رعشة شعرية جديدة):
يمكن أن نشير إلى أن ديوان حسن الصلهبي, (خائنة الشبه) الذي يزاوج فيه بين العمودي والحر, يمثل رعشة شعرية جديدة, وربما كان الإصرار على هذه المزواجة, سببا مهما في استخدام القافية في شعر التفعيلة بشكل خاص, فالشعر ـ أيا كان قالبه ـ لا يستغني عن القافية, ولكن هذه المزاوجة لدى حسن الصلهبي, جعلت للقافية دورا لافتا في شعر التفعيلة لديه, فشعره التفعيلي لم يتخلص من القافية تخلصا تاما, وسنجد لديه ـ أيضا ـ محاولة لتقطيع القصيدة العمودية, وكتابتها على نسق شعر التفعيلة, كما في قصيدة (خائنة الشبه) وقصيدة (في يدي يبرد الماء)...
أما في قصيدة (هلع يغمس في شبه كلام), فإن المتلقي سوف يفاجئ بجزئية مهمة, مغايرة للنموذجين السابقين, اللذين حاول من خلالهما أن يوهم المتلقي أنهما يندرجان تحت إطار شعر التفعيلة, بعيدا عن الشعر العمودي, فالقافية في هذه القصيدة ابتعدت عن مكانها المحدد, الذي تحدده لها القصيدة العمودية, وأصبحت ترد في المكان الذي يحدده السياق الدلالي أو الفكري, فهي هنا ليست محدده بنسق معين, وإنما يحددها ويطلب وجودها الفاعل النسق الفكري الخاص.
والمتأمل للقافية في هذه القصيدة, يدرك أنها جاءت مقيدة, وهذا التقييد يشير إلى مغايرة في رصد الذاتي والموضوعي, فهذا التقييد , يشير إلى أن الذات الشاعرة, تواجه كونا وعالما لا سبيل إلى مواجهته إلا بالتسليم, فهل يشي هذا التقييد القافوي بالهزيمة, وعدم القدرة على الفعل؟
إن التأمل في النص الشعري, سوف يجعلنا نجيب عن هذا السؤال بالإيجاب, لأن معاينة القصيدة, سوف تشير إلى أن هناك مغايرة في رصد العالم, وأن هناك مغايرة في لغة القصيدة, فصورة العالم ـ المرتبط حتما بالذات الشاعرة ـ لا يرتبط بحضور صوت الذات بشكل علني, فهناك محاولة للاختفاء من خلال فعل المراقبة:
يرمق الشارع آثار خطاي العاريه
يمرق الحزن من الرمل
كما يتوارى الماء
في وجه السراب
وتتجلى المغايرة في اللغة الشعرية, في خفوت النفس الرومانسي, فاللغة في هذه القصيدة أصبحت تتخلى بالتدريج عن المداميك المعهودة في القصائد السابقة, والقائمة على الاستعارة العلنية, وتحل محلها الصورة المشهدية الكاشفة, التي تكشف عن موت داخلي آني:
يا لبؤس العابرين
رقصوا للظل
لكن الخطايا
تتدلى من أغانيهم عناكب
فتحوا للموت باب
قعدوا مقعد من
أو شكت نيرانه أن تنطفئ
ففي المقطع السابق, نجد أن هناك جزئيات فنية تتكاتف فيما بينها, لتقديم صورة مشهدية للثبات والسكون, والوقوع في شباك دائرة مغلقة, بداية من رقصة الظل التي تشير إلى حركة ثابتة, ومرورا بالعناكب التي تتدلى من الأغاني, وانتهاء بالمقعد التي أوشكت نيرانه أن تنطفئ, بالإضافة إلى أن التقييد في القوافي المستخدمة, يشير إلى اندحار ما, وإلى سكون ما, وعدم القدرة على الفعل أو الحركة, أو الخروج من فعل الإغلاق المطبق..
ولابد من الإشارة إلى أن ديوان حسن الصلهبي (خائنة الشبه) يمثل رعشة شعرية جديدة, في الشعر الذي قرأته, خاصة في قصيدته إلى (الشمس), فقد اتكأ على القديم والحديث, وكون جديلة معاصرة لرؤية الذات الشاعرة للشمس, فالشمس في هذه القصيدة, ليست معطى من معطيات الطبيعة التي يراقبها الإنسان, ولكنها تأتي وكأنها معادل مراقبة للذات, فهي بوجودها اليومي واختفائها, معادل زمني مهم لقياس مدى الاقتراب من المتخيل النموذجي أو الابتعاد عنه, وربما كانت نهاية القصيدة هي السبب الرئيسي, في إدخال هذا المنحى الخاص بتلقي القصيدة:
غربت عني
وشرقت رغم انكساري إليك
تعالي لنحسم أمر هوانا المراق
على جدول الانتظار
فليس من العدل أن نحمل الماء في الكف
نحسب أنا نزرع تفاحة لا تلين
سنحصد ماذا
ضياع السنين ..
فوجود الغروب والشروق, بالإضافة إلى دال الانتظار في النص الشعري, يجعل حضور الشمس ـ في الأساس ـ مرتبطا بالزمن, بوصفها وحدة قياس مدركة بالحواس, للإشارة إلى مراقبة فعل الزمن بالذات الشاعرة, وقياس حجم المتحقق من سلطة نموذجها, وقياس حجم المتحقق من أسطورتها الذاتية المتخيلة.
وربما كان المدخل الفكري الماثل في القصيدة السابقة سببا مهما, في وجود مناح فكرية, متولدة عنه, ففي قصيدة (أخيرا سقط القمر), نجد أن هناك محاولة لإقامة جدلية تجمع بين الإنسان والشاعر, وهي علاقة جدلية مهمة, فالإنسان مشدود إلى جدل اجتماعي معين, والشاعر ذلك الكائن الموجود ولكنه لا يدرك, والذي بالرغم من توارية خلف الجسد الإنساني, يخطط له القادم, وهذه العلاقة رصدت من قبل شعراء عديدين في شعرنا المعاصر ـ بداية من أحمد عبد المعطي حجازي في الأمير المتسول, وسعدي يوسف في الأخضر بن يوسف ومشاغله, وأحمد بخيت في (الظل الثاني), وكل القصائد السابقة تشير إلى فكرة الصراع بين الإنسان والشاعر, وأن الشاعر المختفي, الذي لا يرى له قدرة على السيطرة والقيادة.
أما في الشعر السعودي فنجد الثبيتي من خلال قصيدة (القرين), ظل دائرا في ذلك النسق الخاص بفكرة الصراع, وإن جاءت قصيدته مرتبطة إلى حد بعيد بنص سعدي يوسف. ولكن قصيدة الصلهبي, لم تشر إلى هذا الصراع, وإنما أشارت إلى السقوط أو المجئ بعد الانتظار الطويل:
أتى دون وعد
ففيم أصب له قهوة البن
ليس لدي سوى قدح واحد
مترع بالفحيح وغزو الرياح
وبعض نوي.
فالقصيدة هنا ترصد هذا الحضور, وتلح على جزئيات كانت فاعلة في تكوين طبيعة الشعرية المقدمة, من خلال الاتكاء على مجموعة من الصور, مثل القدح المترع بالفحيح وغزو الرياح, وبعض نوى.
والقصيدة تلح في كل مقطع من مقاطعها على بعض صور, يمكن أن تكون كاشفة عن توجه الشعرية, فإذا كانت الشعرية في المقطع الأول جاءت كاشفة عن نسق ما, من خلال القدح المترع بالفحيح والرياح والنوى, فإنها في المقطع الثاني: (ألست أنا الآن في مهمه ـ من تشظي النهارات؟ كيف سأراب صدع المساءات؟: وفي المقطع الثالث يتحدث عن الظل:
(كيف تجشم حمى الرحيل ـ إلى زمن لا رصيد له ـ سوى قربة من ثقوب الفراغ).
وصورة الشاعر/ الظل في هذه القصيدة, جاءت مرتبطة بتصوير التعالي وانتظار الحضور, من خلال العنوان, (وأخيرا سقط القمر), و بإسدال نوع من القداسة (أنا آخر الميتين وأول من يبعثون), وهي تحاول أن تبني وجودها من خلال الاختلاف مع كل ما كتب في ذلك السياق, إلا أنها جاءت قريبة في بنائها من قصيدة (الغراب) لإدجار ألان بو.
طردية حسين سهيل في (للأقمار باب):
إن المزاوجة بين كتابة القصيدة العمودية, والقصيدة الحرة أو قصيدة التفعيلة, لها وجود بارز في إبداع الشعراء, الذين ينتمون إلى أجيال سابقة, وربما تكون هذه المزاوجة مقصودة لدى شعراء هذه الأجيال, التي بدأت- أو كانت قريبة من- كتابة شعر التفعيلة, للإشارة إلى القدرة على كتابة الشكلين, لنفي التهمة الجاهزة التي يطلقها بعض الشعراء العموديين على أصحاب قصيدة التفعيلة, ومن هولاء حسن سهيل, وإبراهيم صعابي.
وقد لفت نظري في ديوان حسين سهيل, بعض القصائد المهمة, التي تأتي في شكل الشعر التفعيلي, مثل قصيدة (كنت وحيدا), حيث يتكئ الشاعر على فكرة أو قصائد الطرائد في شعرنا القديم, ليقدم طردية من نوع جديد, ترتبط بفكرة الإبداع: يقول حسين سهيل:
كنت وحيدا
سوى فكرة
طاردتني عاما
وظلت شريده
كنت وحيدا سوى نجمة
تمتصني حين أغيب
وحين أكون
تكون الطريده
لم يكن بيننا نهر ولا بحر
غير الحروف العنيده
كانت تخرج من إصبعي فجأة
تنام وتغفو على هدهدات سعيدة
وحين أوقظها
تفر إلى جبل أخضر
في ثنايا القصيده
فالذي يقرأ هذا النص يدرك أن الشاعر على وعي تام بفكرة الطرائد في الشعر العربي القديم, ولكنه استخدمها بشكل مغاير, حيث حدثت في النص زحزحة وإزاحة لكل من المطارد والمطارد, وهذه الزحزحة مقصودة, للإشارة إلى تجذر الموهبة, وهذه الفكرة ـ أيضا ـ ألح عليها النص الشعري من خلال الاتكاء على الموروث العربي, بصفة عامة حين قال (كانت تخرج من إصبعي فجأة), فهذه الصورة تشير إلى صورة مؤسسة في المخيلة العربية, عن الطريقة التي يخرج بها الجان من جسد الإنسان, وهي تشير إلى تجذر الموهبة.
إن هذه الفكرة التي تشير إلى فكرة الطرائد أو الطرائد بشكلها الإبداعي الخاص, وتشير إلى فكرة تجذر ووجود الموهبة, ربما كانت السبب, الذي جعل النص الشعري في النهاية يشير إلى الإمساك بالخاطرة الشعرية بشكل ناجز, بحيث لا تكون هناك فجوة بين المتخيل والمتحقق, فمعظم القصائد الشعرية التي أشارت إلى هذا المنحي, تشير دائما ـ وهذا هو الواقع الفعلي أو العملي ـ إلى هذه الفجوة, فالخاطرة الشعرية تظل سابحة, حتى بعد التعبير عنها, كما في قول سعيد عقل:
ضريحي شعر حبيبتي أطير إذا ما يقالُ
ويتجلى ذلك في قصيدة شوشة (اعترافات العمر الخائب):
الكتابات التي جفت على الأوراق ,
كانت ذات يوم , صوتنا العالي , لفح الشوق والرؤيا الحميمه
خرجت منها وجوه
لفعتها دورة الأيام,
شاخت في كوى النسيان
تحكي وجه بومة
إن هذا المنحى الإبداعي في شعر حسين سهيل في هذا الديوان له وجود بارز, يكفي أن نشير إلى قصيدة بين الحلم والجنون, للإشارة إلى تجذر هذا المنحى في إبداعه, ويتجلى أيضا في قصيدتي (ريح المائدة), وأنت كل الجهات.
والإنصاف يدعونا أن نشير إلى أن هذا السؤال الخاص بالإبداع له وجود ماثل في شعر شعراء جيزان بشكل لافت, كما في قصيدة (هي والقصيدة) لإبراهيم صعابي, وقصيدة (صاح بي صاحبي وانكسر) لعلي الأمير, وهذا السؤال الخاص بالشعر وآلية ميلاده, لا نجده إلا لدى الشعراء المهتمين بالتجريب والمغايرة وسؤال الماهية, لأن هذا السؤال يكشف عن أن مكان الشعر ليس ثابتا, فمرة يسكن في الموضوعي, وتارة يسكن في فعل المراقبة, وتارة يسكن في الجزئيات الخافتة في داخل الذات.
علي الحازمي: الغنائية الصوفية (الغزالة تشرب صورتها):
بالرغم كل ما يقال عن لغة علي الحازمي بوصفها لغة مملوءة بالغنائية , إلا أن هناك جزئيات عديدة تجعل هذا العمل, لعلي الحازمي عملا متفردا, أول هذه الجزئيات, التي ترتبط بالديوان هي جزئية الموضوعية, أو بتعبير النقاد الحزم الدلالية, فالديوان من بدايته إلى نهايته, يرتبط بنسق معرفي واحد, يحاول أن يقيم إطاره ويحدد خطوطه. صحيح أننا ـ بالرغم من هذه الموضوعية ـ لا نستطيع أن نمسك خيطا واحدا, ونقول عنه إنه الخيط الفاعل في الديوان, فهناك خيوط أو مداخل عديدة يمكن من خلالها مقاربة هذا الديوان, فهناك ذلك التوحد بين المرأة والمطلق, وكأن هذا التوحد يعبر عن سؤال وجودي. وهذا التوحد يمكن أن يرتد إلى خطوات بعيدة في تراثنا الشعري المعاصر, لدى محمود حسن اسماعيل, وإبراهيم ناجي والشابي. وأغلب التجارب الغزلية التي انتهجت نهج الطرق على باب لا يفتح, انتهت في النهاية إلى ذلك التوحد بين المرأة والمطلق, وتحول هذا التوحد بالتدريج إلى نسق صوفي خاص.
وهناك ـ أيضا ضمن المداخل العديدة لمقاربة الديوان ـ النسق الصوفي, الذي يبدأ بالسقوط, من لحظة التجلي الكامل, فهي لحظة الانقطاع والسقوط, والديوان في تقديمه لهذه التجربة المعرفية, لا يفصل بينها وبين تجربة الغزل العادية, وهنا يجب أن أشير إلى مصدر مهم, ربما شكل من وجهه نظري نافذة أساسية لعلي الحازمي, بداية من الإهداء إلى عناوين القصائد, وتقسيم الحزم الدلالية إلى ثلاثة أجزاء, وهو ديوان (أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت) لمحمد عفيفي مطر, هذا الديوان الذي كان له تأثير كبير في الشعر العربي الحديث, وتعامل معه النقاد على أنه يشير إلى فكرة وحدة الوجود, لأن العنوان مأخوذ من ابن عربي، ولكن التأمل الدقيق يجعله مرتبطا بتجربة حب عادية, قد ترتبط بالمرأة, أو باللغة أو بالقصيدة.
في ديوان علي الحازمي, نجد أن الإطار العام هو تجربة الغزل بمراحلها العديدة والمعروفة, ولكن بالرغم من وجود هذا الإطار العام, نجد هناك محاولة لربط هذه التجربة بنسق معرفي صوفي, فهناك التوحد قبل الميلاد أو السقوط, وتظل فترة الطفولة ـ في إطار هذا المنحى ـ أقرب الفترات إلى هذا التوحد, لأنها قريبة من السر:
حين ولدنا,
كما العشب بين صخور التلال القريبه
كنا قريبين من سرنا
قاب قوسين من منتهى الأغنيات,
التي يأسر الناي غربتها في أنين القصب
كان طفل هوانا ندى وشذى ممكنا
حين تبذرنا شمس آب.
فألفاظ مثل (السر ـ قاب قوسين ـ منتهي), كلها تجعل النسق الصوفي والمعرفي حاضرا, حتي لو كان النسق الدلالي الفاعل يرتبط بالغياب المعرفي لدى الطفل, الذي لا يدرك التقاليد المحددة والمانعة, وفي إطار هذا النسق الطفولي, يأتي الهوى ممكنا وتصير الدروب فضة للأناشيد, فمرحلة الطفولة القريبة من التوحد السابق مهمة في ذلك السياق, لأنها تحفظ له هدوءه واتزانه, وهي التي تعطي خياله مشروعية, وحلمه وجودا:
لن نتمكن من سرد سيرتنا في كتابين منفصلين
عن الوقت والروح
وليس لنا من خيار أخير
سوى أن نخبئ في جسد جسدين
فلابد أن أكونك أنت , ولابد من أن تكوني أنا .
إن معاينة هذا الجزء الأخير والمرتبط بتوحد مقترح, مشدود إلى مرحلة الطفولة والمرتبطة بغياب أسئلة معرفية خاصة, لا يظهر لها وجود إلا بعد الوعي بالحياة وتقلباتها مهمة, لأن الصورة المقابلة, سوف تقابلنا في القصيدة التالية (نخلة تسند العمر), ففي هذه القصيدة نشعر أن الإحساس بالشمس (معادل إدراك ومعرفة), واضح وجلي, فهي التي تروض خيل الظهيرة, التي تشير إلى مدى زمني يرتبط بمدى معرفي وإدراكي, لم يكن متاحا في مرحلة الطفولة, والخيل في ذلك السياق تأتي متشحة بالحلم ومرتبطة بالخيال, وارتباط الخيل بالظهيرة, يشير إلى فحوى دلالية مرتبطة بمشروعية الحلم في هذا المدى الزمني:
لنا الله
حين يلف اليباب حقولا من الحلم
رحنا نرى سنابلها في الفصول العصيه
وحدها خيلنا
حين تغدو إلى النبع
تشرب من خيلاء يلوح
على فضة الماء
تظل تراوح في سهل ثورتها
بانتظار المهب الأخير
كي تتوق طويلا لعودة فرسانها
من خريف بعيد .
إذا كان الصباح دالا على الطفولة, فإن الظهيرة تأتي عنوانا على فترة خاصة, لا يصلح معها الخيال فاعلا ومسيطرا, بحيث يشكل وتيرة فاعلة في تلقي الحياة بتقلباتها العديدة, وهنا تأتي الصورة المقابلة المرتبطة باليباب والخريف البعيد, فالخيل (معادل الحلم), لم تعد بسهولة تقتنص فريستها, وإنما أصبحت تراوح حتى ينتهي هذا الخريف.
وبداية من الظهيرة يتشكل لدينا جانبان فاعلان يتصارعان, الجانب الأول الذي توارى بفعل النمو الزمني والمعرفي والإدراكي, ولكن بالرغم من هذا التواري, نجد أن هناك محاولة من الذات الشاعرة للارتداد إليه, وهذا الجانب يتشكل من الحلم والنخلة بسموقها, والجانب الآخر يتشكل في حدود اليباب والريح والهجير, وهما جانبان متعاركان بفعل الحركة والتوجه لتحقيق الجانب الأول الخاص بالاكتمال والتوحد والصفاء, ولسيادة الجانب الآخر, الذي يجهض أي محاولة للعودة إلى هذا الاكتمال.
إن هذا التعارك- بالضرورة ـ يفضي إلى سيادة نسق على آخر, وربما تكون هذه السيادة واضحة, من خلال عنوان القصيدة التالي, وكأن الديوان رتب بشكل خاص, حتى يوافق هذه الحالات الخاصة المرتبطة بالتوحد والسقوط, وبداية الشعور بهذا السقوط, ثم التغذي والاستقواء بفعل الذكري, والتذكر مصطلح من مصطلحات المتصوفة, إذ يلح المتصوفة على فعل التذكر, وكأنه فعل يكشف للمتصوف اختلافه عن العالم الذي كان قريبا منه, ومن ثم فهو لديه شعور بقيمة وجمال العالم السابق, وفي الوقت ذاته يلح عليه شعور بقبح ودمامة العالم الآني, ومن ثم فإن فعل الذكري أو التذكر هو الذي يعيد تشكيل الحياة, ويحفظ له حياته من خلال اجترار التوحد السابق:
تجلس الذكري أمام النبع
تروي للغزالة
قصة العطش المقيم على الضفاف
وكيف لاح الغيم في خجل على الماضي
ليزهر غصن قامتك النخيل ...
إن قصائد الديوان كلها تدور حول هذا الفضاء الدلالي, هناك اكتمال سابق, وهناك نقص آني, وكل القصائد محاولة للعودة إلى هذا الاكتمال, للوصول إلى الفضة الرائعة, ولكنها دائما تتعثر, ولا يبقى لها سوى الحلم والذكري:
هناك في شجر قطعنا ظله
غصن وحيد للغناء المرمري
على ضفاف الروح
يكفينا اعتناق الحلم والذكري
لنكمل سيرنا نحو التراب .
تبقى نقطة مهمة , وهي عنوان الديوان (الغزالة تشرب صورتها), فمن خلال بعض المتابعات النقدية لهذا الديوان, توقف البعض عند أسطورة (نرسيس), الخاصة بعشق الذات, ولكن الغزالة كما تجلى من عنوان الديوان والقصائد, تأتي لفظة مشعة, ومحملة بدلالات عديدة, ولكن أهمها حين تأتي مرتبطة بالخيل, لتشير إلى التوحد أو الاكتمال السابق, وتأتي في قصائد جناح المخيلة مرادفة للحب واليوتوبيا.
محمد حبيبي – أطفئ فانوس قلبي – جمالية التقرير:
أطفئ فانوس قلبي هو الديوان الثاني للشاعر محمد حبيبى, وهذا الديوان – بعيدا عن أحكام القيمة – يثبت أننا أمام شاعر له ملامح خصوصية, وهذه الملامح كثيرة, ولذلك فإن المداخل التي يمكن أن يدخل منها الباحث للديوان عديدة, ولكن الباحث اختار سمة خاصة, ترتبط باللغة التقريرية, فالمتأمل لشعر محمد حبيبي يدرك أن لغته تميل إلى البساطة والوضوح, ولكنها بساطة خادعة, إن لم يقدرها الباحث حق قدرها, فهذه البساطة ليست جنوحا إلى السهولة, ولكنها بساطة فنية, تحيل المتلقي إلى مدى دلالي واسع, يرتبط بحالات فكرية ومعرفية.
ولكن ما المقصود بالتقرير؟ ولماذا كان الاستناد إلى هذا المصطلح دون غيره من المصطلحات التي قد تكون متاحة في ذلك السياق, مثل الحقيقة أو التصوير بالحقيقة في مقابل المجاز؟
والإجابة لن تكون سهلة, كما يتصور البعض, لأن دلالة التقرير بوصفه مصطلحا, لن تكون متاحة من خلال استقراء المعاجم, ولهذا فالباحث بحاجة إلى الاتكاء على خصائص اللغة الشعرية موضوع الدراسة, حتى يصل إلى دلالة هذا المصطلح.
أما تفضيل هذا المصطلح دون غيره من المصطلحات التي تصلح, لأن تكون وصفا للظاهرة, فإنه يرتبط بقصور في مصطلح الحقيقة, لأن استخدام مصطلح الحقيقة, الذي يعني في تحديد معظم البلاغيين, الكلمة المستعملة فيما هي موضوعة له, من غير تأويل في الوضع كاستعمال الأسد في الهيكل المخصوص, سوف يجرنا إلى الثنائية غير المتحققة منطقيا, فاستخدام هذا المصطلح قد يوحي أن هناك انفصالا تاما بين الحقيقة والمجاز, في حين أن الواقع يثبت حضور المستويين معا, فالإيمان بوجود المستويين, لا يعني - بالضرورة – وجودهما منفصلين, فاستخدام الحقيقة لا يخلو في وجه من وجوهه من المجاز, واستخدام المجاز لايمكن تصوره دون وجود مستوى نمطي متخيل يتمدد من خلاله, والشاعر – أي شاعر – لا يكتب قصيدة ما بلغة حقيقية وأخرى مجازية, وإنما المقصود أن النص الشعري لا يعول على الاستعارة, بقدر ما يهتم باللغة, التي تحقق له تواصلا مع المتلقى, ومن ثم تزداد فيه درجة الوضوح والتقرير.
كيف نحدد معنى مصطلح التقرير؟ إن تحديد مصطلح التقرير, يجب أن يرتبط بالشعر أو الديوان موضوع الدراسة, لكي يصل الباحث إلى خصائص أو سمات تكون فاعلة في تحديد ماهية المصطلح, والسمة الأولى التي يمكن أن تطالعنا في شعر محمد حبيبي هي سمة عدم الاتكاء على الاستعارة البعيدة الأطراف, وليس معنى هذا أن الشاعر لا يستخدم الاستعارة, وإنما المقصود يشير إلى أن استخدامها لا يشكل في نصه الشعري نسقا استعاريا لافتا, وفي المقابل تكون السيادة للجملة التقريرية, التي لا تخرق مواضعة لغوية, والجملة التقريرية موجودة بشكل لافت في ديوان حبيبى, وهذه الجملة – بالرغم من تقريريها التي قد تشير إلى البساطة – ترتبط بمدى دلالي خاص, فحين يقول محمد حبيبي في قصيدة (شقيقة/ صالحة):
مع أطفالها أقبلت
كغريبين صافحتها
سوف نجد أن هذين السطرين الشعريين يرتبطان بمدى دلالي خاص, ولن يتسنى للمتلقي أن يصل إلى هذا المدى الدلالي الخاص, إلا بعد أن يتوقف عند حركة المعنى النامية في النص الشعرى, والمرتبطة بالتقاط حالات التماهي بين الشقيقين في حالات الصفاء الطبيعية والطفولة, التي يكمن بهاؤها في الانعتاق من الأسئلة التي تصاحبنا, بفعل النمو العمري والمعرفى. وبداية من هذا الإحساس الخاص بالنمو المعرفى, تبدأ مساحات التيبس في الظهور, ووجود الأطفال (الأبناء) مع الشقيقة, معادل خلخلة للصور القديمة, التي كانت ماثلة في الذهن, ومن ثم فقد بدأ السارد الفعلي في النص يشعر بالمغايرة والاختلاف, الذي يشير إلى الخروج عن النسق السابق, وفي ذلك السياق تأتي الغربة الداخلية, المرتبطة بفقد نسق سابق, ووجود نسق جديد.
إن هذا التوجه الفني الخاص, المرتبط باستخدام لغة تبتعد عن النهج الاستعارى, ويرتبط بلغة تقريرية, لم يكن توجها نحو السهولة, وإنما كان توجها نحو البساطة المملوءة بمدى دلالي واسع, كالإشارة إلى مرحلة الطفولة, وما تحققة للإنسان – فضلا عن الشاعر – من اتزان نفسى, ثم الانتقال إلى مرحلة النمو المعرفى, التي تأتي محملة بأسئلة خاصة.
ويتكرر هذا المنحى الخاص المرتبط ببساطة تركيبية, والمملوء بنسق تقريرى, لا يعول كثيرا على الاستعارات البعيدة الأطراف, في ديوان حبيبى, ففي قصيدته الأولى في الديوان (مشابك), والتي جاءت تحت عنوان أكبر (محض كلام), التي يقول فيها:
نحلم
ن ح ل م , نحلم , ن ح ل م, نحلم.....
في الصبح نحمل أحلامنا لنجففها
وكي لا تطير بعيدا
نثبتها بمشابك
المشابك
محض كلام
نجد أن هذه القصيدة بسيطة تركيبا, ولا تعتمد على الاستعارات البعيدة الأطراف, التي شكل الاعتماد عليها طبيعة الشعرية العربية. ولكن هناك صورة في النص السابق, قد تشكل معارضة لمنحى التقرير, الذي اخترناه مدخلا للدراسة, وهي تجفيف الأحلام, وتثبيتها بمشابك, وهذه الصورة, لا تؤثر في وجود نسق استعاري سائد, يمكن أن يشعر به المتلقى, نظرا لطبيعة شعر محمد حبيبى, التي تتحرك ببطء تجاه النسق الاستعارى, فشعريته تقدم هذا النسق بالتدريج, فنصه يشكل في وعي المتلقي سياقا خاصا, قبل هذه النقلة الاستعارية, وحين يصل المتلقي إلى هذه النقلة, يجدها داخلة في إطار سياق دلالي يكيفها, ومن ثم لا يشعر المتلقي بأي صعوبة أو معاظلة في تلقيها, بل لا يجد – والحال تلك – مبررا للوقوف عندها واستبيان دلالتها بشكل استثنائي فردى, وإنما يجد نفسه مشدودا إلى الكيان الفكرى, الذي يحاول النص الشعري ارتياده.
والنص الشعري من خلال هذه البساطة التركيبية, يستدعي نسقا دلاليا مهما, فالنص الشعري يشير إلى مناخين: هما (المساء – الليل), و(الصباح – النهار), وكل مناخ منهما, له دوره الفاعل في تشكيل طبيعة توجه الساردالفعلى, فالمساء والليل, يأتيان وكأنهما يشكلان نسق المراقبة, والتأمل للمتخيل النموذجي المرتبط بالأحلام والآمال, وكأنهما – أيضا – يقيسان حجم المتحقق من هذا المتخيل النموذجي في كل ليلة. أما (الصباح – والنهار), فيأتيان بوصفهما معادل سعى, للاقتراب من هذه الأحلام والآمال, التي تشكل المتخيل النموذجى, فالإنسان - فضلا عن الشاعر – يضع أمامه - بداية من الإحساس بالوعي والالتحام بالحياة – متخيلا نموذجيا للوصول إليه, قد يرتبط بالأمل أو بالحلم, أو بصورة خاصة للذات, وهذا النسق لا ينتهى, لأن الإنسان إذا حقق أملا, ينتقل – بالضرورة – إلى أمل آخر يحاول تحقيقه.
والقصيدة تلح على هذه الفكرة, المرتبطة – إجمالا – بكون الحياة إمكانية جميلة لشئ لا يتحقق أبدا, والنص حين يشير إلى أن السارد الفعلي من خلال فعلي المراقبة والسعى, لم يقترب من سلطة نموذجه قيد ذراع , يدلل على طبيعة الأحلام والآمال, التي لا تقف عند حد, بل لا تتجلى على هيئة واحدة, فهي – أيضا – في معرض دائم للتغير والتبدل, وفقا لسطوة الواقع , الذي يغير في طبيعتها, ويؤثر في هيئتها.
أما السمة الثانية فهي سمة ترتبط بالتعويل على المشترك الإدراكى, وهي جزئية مهمة وأساسية, في سياق حرص الشاعر المعاصر, على التواصل مع المتلقى, لأن التعويل على المشترك الإدراكى, يشير إلى جزئية مهمة, يعرفها الشاعر, ويعرفها المتلقى, وترتبط بالإنساني في مداه الرحب, وفي ذلك السياق سوف نتوقف في الديوان عند جزئيات شعرية لا تخرق مواضعة لغوية, ولكننا مع ذلك نشعر بجمالها, وحين نحاول تبرير هذا الجمال, لن نجد إلا مقدرة الشاعر في التقاط صورة شعرية يدركها المبدع, ويدركها المتلقى, وتتحد بالإنسانى, فحين يقول محمد حبيبى, في قصيدته (حريم):
حريم تقاضمن
حول فناجين تفرك آذانها
ذيول العباءات تمشط
حكي الأزقة
فيما المحمص من بنهن
تطاير صوب فراغ ثنايا تمصمص غيبة
جاره
سنشعر أن هذه الصورة الإنسانية التي يلتقطها الشاعر, ويقدمها للمتلقى, وثيقة الصلة بالإنساني, وبالبيئة التي ينتمي إليها, فهي صورة عادية, ويدركها كل إنسان, ولكن الشاعر – الشاعر الحقيقي – هو الذي يستطيع أن يلتقطها, ويقدمها في ذلك السياق الخاص, المملوء بالبساطة والتقرير, والمهموم بالتقاط مالا يلتقط, أو تكديس ما لا يكدس. فصورة النسوة الجالسات حول فناجين القهوة, بالإضافة إلى التحدث عن الأخريات الغائبات صورة عادية, ولكن الفن, هو الذي يغير في معالم الصورة, فيجعل الجزئيات المادية داخلة في إطار الصورة, وهي – أي الجزئيات المادية – لا تقف عند حدود الوجود المادى, وإنما تطل فاعلة, وكأنها كائن حي يشارك في الفعل.
أما السمة الثالثة والأخيرة, فهي سمة الاتكاء على آليات فنية مأخوذة من فنون نثرية, كاستخدام السرد الشعرى, وهنا تجدر الإشارة إلى أن استخدام تقنيات القص في إطار النص الشعري ليس شيئا سهلا, بل هو عمل صعب إلى حد بعيد, فالشاعر يجب أن يجعل المتلقي يحس بالشعر, وفي الوقت ذاته يحس بالقصة. بالإضافة إلى أن ضم الشعر إلى القصة ليس مجرد زينة, وليس مجرد قدرة لإثبات القدرة على نظم الكلام, وإنما يستفيد كل فن من الآخر, فالشعر يستفيد التفصيلات المثيرة الحية, وتستفيد القصة من الشعر التعبير الموحي المؤثر. إن الشاعر الذي يستخدم تقنيات فن في إطار فن آخر, ربما يقع في قبضة الثنائية, فتقنيات القص حين تستخدم في النص الشعري لا تملك وجودا قائما بذاته, فهي جزئية في إطار النسق الشعري الأساس, وتكمن مقدرة الشاعر في صهره لهذا العناصر. ومحمد حبيبي – في نصوصه الشعرية – على وعي كبير بهذه الجزئية, فهو لا يستسلم لعناصر القص, التي يمكن – إذا استسلم لها – أن تطيح برهافة ما هو شعرى, القائم على التكثيف, ومن ثم سنجد سرده الشعري يرتبط بجزئيتين أساسيتين, هما: التكثيف الشعرى, والانعتاق من السرد التتابعى, الذي نجده ماثلا عند أغلب الشعراء, فهو - في نصوصه – لا نجده يتبع المنطق التراتبى, وإنما نجد النصوص, تصنع وجودها من خلال منطقها الخاص, ومن خلال استخدام آليات سردية تقضي على خطية الزمن وتمدده الطبيعى, وفي سبيل ذلك يقوم بالانتقاء الخاص للتفصيلات الحية, التي يمكن أن تكون فاعلة في إطار حركة المعنى النامية في النص, بالإضافة إلى استخدام المفارقة, التي حمت نصه من الترهل السردى, فالمفارقة يمكن أن تعد جزئية أساسية في إبداع محمد حبيبى, ففي شعره تأتي المفارقة, وكأنها بؤرة يختبر الشاعر رؤيته من خلالها, ويقارن من خلالها بين الماضي والآنى, يتجلى ذلك في قصيدة (وسام), وفي قصيدة (الشقة), وفي قصيدة (ياسمين), ويتجلى بشكل قد يكون أكثر وضوحا في قصيدته (شقيقة- صالحة), التي عرضنا لها سابقا, بحيث تأتي جزئية الارتداد للخلف لمعاينة نسق حياتي تم تجاوزه, من خلال التركيز على صور مختزنة:
كنت أدفعها للشقاوة دوما
لننتصف الصفعات
ترافقني للدكاكين, حيث أمط لها النصف
من علكة المستكى
و... أعلمها كيف تجلو
البقايا بركن الجدار
وقت يكف غبار القرى
مثل لصين نظراتنا ترتمي
لقروش تطل ,
لا أسامحها حين تقضم مرسمتي (الفكس)
مع أطفالها أقبلت..
كغريبين صافحتها
إن النص الشعري القائم في بنائه على الارتداد, وعلى اختيار تفصيلات حية, لا زالت مملوءة بوهجها, يقارن بين توجهين أو نسقين معيشين: نسق الطفولة, التي يظل أصحابها, أو من ينضوون في إطارها مكفولين من الآخرين, والنص في هذا النسق يعبر عن الماضى, وينتقي جزئيات تشير إلى الانعتاق من المسؤلية والأسئلة, التي تبدأ مع النمو المعرفي والإدراك, والبداية تطل من الفعل (كنت), الذي يضع الإخبار والسرد في بؤرة التركيز, وتتوالى الصور الجزئية من خلال وسائل الربط المعهودة, ولكن النص الشعري – الذي تمدد تركيبيا لسطور عديدة في تقديم النسق الأول – ينقلنا إلى النسق الأخير أو الآنى, ومن خلال سطرين فقط, فتتشكل المفارقة, التي تشير إلى براج الطفولة والانعتاق, في مقابل السأم والقنوط الآنى.
إن مقاربة الشعر في منطقة جيزان في المملكة العربية السعودية تعد عملية صعبة إلى حد بعيد, خاصة إذا كان الدارس أوالباحث يقارب هذا الشعر وهو موجود على محيط الدائرة, وليس في البؤرة, والفارق بين الوجودين, لا يكمن في كون الباحث ينتمي إلى بلد أخري, وإنما ينبع من كونه ينتمي إلى ذاكرة إبداعية, قد تختلف في بعض وجوهها ومنطلقاتها, وهذا الاختلاف قد يدفع الباحث بعيدا عن المقاربة, خاصة بعد وجود بعض الأقوال التي ترى أن مقاربة الشعر السعودي بصفة عامة قد تكون لصيقة بالناقد السعودي, فهو الذي يعرف التقاليد الفنية, والتقاليد الاجتماعية التي قد تكون فاعلة في كشف النقاب عن تفرده وجماله.
ولكن- بالرغم من هذا التوجه الذي يشكل صعوبة ما ـ نجد أن هناك توجها آخر, قد يكون معينا على مواصلة العمل, يتمثل في (سلطة النموذج الفني), والذي وجد منذ الجاهلية إلى يومنا هذا, وهذا المصطلح ليس واضحا في ذهني في الفترة الآنية وضوحا تاما, ولكن يمكن كشف بعض دلالاتة من خلال الانطلاق من فكرة البيئة ودورها, وفكرة النموذج الفني الذي يتجه إليه الشعراء في فترة زمنية معينة, فوجود النموذج الفني بالإضافة إلى سطوته, تجعل أثر البيئة يقل أو يكاد يمحي.
وهذا النموذج الفني ليس ثابتا, وإنما هو متحرك من مكان إلى مكان, فالنموذج الفني الذي كان يتجه إليه (البارودي وشوقي وحافظ), كان موجودا في الجزيرة العربية بالرغم من تباعد المسافات والأزمنة, بينهما نجد النموذج الفني للرومانسية بشكلها المثالي موجودا في مصر, ماثلا في إبداع الديوان نظريا وإبداع (أبولو) شعريا, في حين أن النموذج الفني لشعر التفعيلة كان ماثلا في العراق, لدى السياب ونازك الملائكة والبياتي, أما القصيدة النثرية, فإن نموذجا الفني ـ بالرغم من البدايات التي تكون متقاربة ـ فإن نموذجها الأشمل ربما يكون موجودا في لبنان.
إن الوقوف عند مثل هذه الفكرة, التي يقل معها أثر البيئة يجعل مقاربة الشعر, عملا مشروعا لكل ناقد, حتى لو لم يكن واعيا وعيا تاما بالتقاليد الفنية أو الاجتماعية, التي تشكل ملامح ذلك العمل.
تبقى جزئية أخرى قد تكون سببا من أسباب الصعوبة, تتمثل في هذا المنحى التجميعي, الذي يضع شعراء السنوات الأخيرة في سلة واحدة, وهذا المنحى التجميعي ـ بالرغم من مشروعيته ـ قد يكون سببا في إهمال بعض الشعراء, فالشاعر يجب أن ينظر إليه على أنه فرد أو جزيرة قائمة بذاتها, ومن خلال هذا التوجه تسقط كل المصطلحات التي تعرقل هذه الفردية, مثل الحقب الزمنية القائمة على فكرة الجيل, وهي كلها توجهات ـ بالرغم من وجودها فاعلة في فترة من الفترات ـ تفقد وهجها بالتدريج.
وانطلاقا من الجزئيتين السابقتين, سوف أقوم بالوقوف عند بعض النماذج, التي تشكل من وجهه نظري الخاصة تميزا ما, فالقراءة النقدية عمل ذاتي في الأساس, بالرغم من محاولتها ارتداء مسوح الموضوعية..
حسن الصلهبي (رعشة شعرية جديدة):
يمكن أن نشير إلى أن ديوان حسن الصلهبي, (خائنة الشبه) الذي يزاوج فيه بين العمودي والحر, يمثل رعشة شعرية جديدة, وربما كان الإصرار على هذه المزواجة, سببا مهما في استخدام القافية في شعر التفعيلة بشكل خاص, فالشعر ـ أيا كان قالبه ـ لا يستغني عن القافية, ولكن هذه المزاوجة لدى حسن الصلهبي, جعلت للقافية دورا لافتا في شعر التفعيلة لديه, فشعره التفعيلي لم يتخلص من القافية تخلصا تاما, وسنجد لديه ـ أيضا ـ محاولة لتقطيع القصيدة العمودية, وكتابتها على نسق شعر التفعيلة, كما في قصيدة (خائنة الشبه) وقصيدة (في يدي يبرد الماء)...
أما في قصيدة (هلع يغمس في شبه كلام), فإن المتلقي سوف يفاجئ بجزئية مهمة, مغايرة للنموذجين السابقين, اللذين حاول من خلالهما أن يوهم المتلقي أنهما يندرجان تحت إطار شعر التفعيلة, بعيدا عن الشعر العمودي, فالقافية في هذه القصيدة ابتعدت عن مكانها المحدد, الذي تحدده لها القصيدة العمودية, وأصبحت ترد في المكان الذي يحدده السياق الدلالي أو الفكري, فهي هنا ليست محدده بنسق معين, وإنما يحددها ويطلب وجودها الفاعل النسق الفكري الخاص.
والمتأمل للقافية في هذه القصيدة, يدرك أنها جاءت مقيدة, وهذا التقييد يشير إلى مغايرة في رصد الذاتي والموضوعي, فهذا التقييد , يشير إلى أن الذات الشاعرة, تواجه كونا وعالما لا سبيل إلى مواجهته إلا بالتسليم, فهل يشي هذا التقييد القافوي بالهزيمة, وعدم القدرة على الفعل؟
إن التأمل في النص الشعري, سوف يجعلنا نجيب عن هذا السؤال بالإيجاب, لأن معاينة القصيدة, سوف تشير إلى أن هناك مغايرة في رصد العالم, وأن هناك مغايرة في لغة القصيدة, فصورة العالم ـ المرتبط حتما بالذات الشاعرة ـ لا يرتبط بحضور صوت الذات بشكل علني, فهناك محاولة للاختفاء من خلال فعل المراقبة:
يرمق الشارع آثار خطاي العاريه
يمرق الحزن من الرمل
كما يتوارى الماء
في وجه السراب
وتتجلى المغايرة في اللغة الشعرية, في خفوت النفس الرومانسي, فاللغة في هذه القصيدة أصبحت تتخلى بالتدريج عن المداميك المعهودة في القصائد السابقة, والقائمة على الاستعارة العلنية, وتحل محلها الصورة المشهدية الكاشفة, التي تكشف عن موت داخلي آني:
يا لبؤس العابرين
رقصوا للظل
لكن الخطايا
تتدلى من أغانيهم عناكب
فتحوا للموت باب
قعدوا مقعد من
أو شكت نيرانه أن تنطفئ
ففي المقطع السابق, نجد أن هناك جزئيات فنية تتكاتف فيما بينها, لتقديم صورة مشهدية للثبات والسكون, والوقوع في شباك دائرة مغلقة, بداية من رقصة الظل التي تشير إلى حركة ثابتة, ومرورا بالعناكب التي تتدلى من الأغاني, وانتهاء بالمقعد التي أوشكت نيرانه أن تنطفئ, بالإضافة إلى أن التقييد في القوافي المستخدمة, يشير إلى اندحار ما, وإلى سكون ما, وعدم القدرة على الفعل أو الحركة, أو الخروج من فعل الإغلاق المطبق..
ولابد من الإشارة إلى أن ديوان حسن الصلهبي (خائنة الشبه) يمثل رعشة شعرية جديدة, في الشعر الذي قرأته, خاصة في قصيدته إلى (الشمس), فقد اتكأ على القديم والحديث, وكون جديلة معاصرة لرؤية الذات الشاعرة للشمس, فالشمس في هذه القصيدة, ليست معطى من معطيات الطبيعة التي يراقبها الإنسان, ولكنها تأتي وكأنها معادل مراقبة للذات, فهي بوجودها اليومي واختفائها, معادل زمني مهم لقياس مدى الاقتراب من المتخيل النموذجي أو الابتعاد عنه, وربما كانت نهاية القصيدة هي السبب الرئيسي, في إدخال هذا المنحى الخاص بتلقي القصيدة:
غربت عني
وشرقت رغم انكساري إليك
تعالي لنحسم أمر هوانا المراق
على جدول الانتظار
فليس من العدل أن نحمل الماء في الكف
نحسب أنا نزرع تفاحة لا تلين
سنحصد ماذا
ضياع السنين ..
فوجود الغروب والشروق, بالإضافة إلى دال الانتظار في النص الشعري, يجعل حضور الشمس ـ في الأساس ـ مرتبطا بالزمن, بوصفها وحدة قياس مدركة بالحواس, للإشارة إلى مراقبة فعل الزمن بالذات الشاعرة, وقياس حجم المتحقق من سلطة نموذجها, وقياس حجم المتحقق من أسطورتها الذاتية المتخيلة.
وربما كان المدخل الفكري الماثل في القصيدة السابقة سببا مهما, في وجود مناح فكرية, متولدة عنه, ففي قصيدة (أخيرا سقط القمر), نجد أن هناك محاولة لإقامة جدلية تجمع بين الإنسان والشاعر, وهي علاقة جدلية مهمة, فالإنسان مشدود إلى جدل اجتماعي معين, والشاعر ذلك الكائن الموجود ولكنه لا يدرك, والذي بالرغم من توارية خلف الجسد الإنساني, يخطط له القادم, وهذه العلاقة رصدت من قبل شعراء عديدين في شعرنا المعاصر ـ بداية من أحمد عبد المعطي حجازي في الأمير المتسول, وسعدي يوسف في الأخضر بن يوسف ومشاغله, وأحمد بخيت في (الظل الثاني), وكل القصائد السابقة تشير إلى فكرة الصراع بين الإنسان والشاعر, وأن الشاعر المختفي, الذي لا يرى له قدرة على السيطرة والقيادة.
أما في الشعر السعودي فنجد الثبيتي من خلال قصيدة (القرين), ظل دائرا في ذلك النسق الخاص بفكرة الصراع, وإن جاءت قصيدته مرتبطة إلى حد بعيد بنص سعدي يوسف. ولكن قصيدة الصلهبي, لم تشر إلى هذا الصراع, وإنما أشارت إلى السقوط أو المجئ بعد الانتظار الطويل:
أتى دون وعد
ففيم أصب له قهوة البن
ليس لدي سوى قدح واحد
مترع بالفحيح وغزو الرياح
وبعض نوي.
فالقصيدة هنا ترصد هذا الحضور, وتلح على جزئيات كانت فاعلة في تكوين طبيعة الشعرية المقدمة, من خلال الاتكاء على مجموعة من الصور, مثل القدح المترع بالفحيح وغزو الرياح, وبعض نوى.
والقصيدة تلح في كل مقطع من مقاطعها على بعض صور, يمكن أن تكون كاشفة عن توجه الشعرية, فإذا كانت الشعرية في المقطع الأول جاءت كاشفة عن نسق ما, من خلال القدح المترع بالفحيح والرياح والنوى, فإنها في المقطع الثاني: (ألست أنا الآن في مهمه ـ من تشظي النهارات؟ كيف سأراب صدع المساءات؟: وفي المقطع الثالث يتحدث عن الظل:
(كيف تجشم حمى الرحيل ـ إلى زمن لا رصيد له ـ سوى قربة من ثقوب الفراغ).
وصورة الشاعر/ الظل في هذه القصيدة, جاءت مرتبطة بتصوير التعالي وانتظار الحضور, من خلال العنوان, (وأخيرا سقط القمر), و بإسدال نوع من القداسة (أنا آخر الميتين وأول من يبعثون), وهي تحاول أن تبني وجودها من خلال الاختلاف مع كل ما كتب في ذلك السياق, إلا أنها جاءت قريبة في بنائها من قصيدة (الغراب) لإدجار ألان بو.
طردية حسين سهيل في (للأقمار باب):
إن المزاوجة بين كتابة القصيدة العمودية, والقصيدة الحرة أو قصيدة التفعيلة, لها وجود بارز في إبداع الشعراء, الذين ينتمون إلى أجيال سابقة, وربما تكون هذه المزاوجة مقصودة لدى شعراء هذه الأجيال, التي بدأت- أو كانت قريبة من- كتابة شعر التفعيلة, للإشارة إلى القدرة على كتابة الشكلين, لنفي التهمة الجاهزة التي يطلقها بعض الشعراء العموديين على أصحاب قصيدة التفعيلة, ومن هولاء حسن سهيل, وإبراهيم صعابي.
وقد لفت نظري في ديوان حسين سهيل, بعض القصائد المهمة, التي تأتي في شكل الشعر التفعيلي, مثل قصيدة (كنت وحيدا), حيث يتكئ الشاعر على فكرة أو قصائد الطرائد في شعرنا القديم, ليقدم طردية من نوع جديد, ترتبط بفكرة الإبداع: يقول حسين سهيل:
كنت وحيدا
سوى فكرة
طاردتني عاما
وظلت شريده
كنت وحيدا سوى نجمة
تمتصني حين أغيب
وحين أكون
تكون الطريده
لم يكن بيننا نهر ولا بحر
غير الحروف العنيده
كانت تخرج من إصبعي فجأة
تنام وتغفو على هدهدات سعيدة
وحين أوقظها
تفر إلى جبل أخضر
في ثنايا القصيده
فالذي يقرأ هذا النص يدرك أن الشاعر على وعي تام بفكرة الطرائد في الشعر العربي القديم, ولكنه استخدمها بشكل مغاير, حيث حدثت في النص زحزحة وإزاحة لكل من المطارد والمطارد, وهذه الزحزحة مقصودة, للإشارة إلى تجذر الموهبة, وهذه الفكرة ـ أيضا ـ ألح عليها النص الشعري من خلال الاتكاء على الموروث العربي, بصفة عامة حين قال (كانت تخرج من إصبعي فجأة), فهذه الصورة تشير إلى صورة مؤسسة في المخيلة العربية, عن الطريقة التي يخرج بها الجان من جسد الإنسان, وهي تشير إلى تجذر الموهبة.
إن هذه الفكرة التي تشير إلى فكرة الطرائد أو الطرائد بشكلها الإبداعي الخاص, وتشير إلى فكرة تجذر ووجود الموهبة, ربما كانت السبب, الذي جعل النص الشعري في النهاية يشير إلى الإمساك بالخاطرة الشعرية بشكل ناجز, بحيث لا تكون هناك فجوة بين المتخيل والمتحقق, فمعظم القصائد الشعرية التي أشارت إلى هذا المنحي, تشير دائما ـ وهذا هو الواقع الفعلي أو العملي ـ إلى هذه الفجوة, فالخاطرة الشعرية تظل سابحة, حتى بعد التعبير عنها, كما في قول سعيد عقل:
ضريحي شعر حبيبتي أطير إذا ما يقالُ
ويتجلى ذلك في قصيدة شوشة (اعترافات العمر الخائب):
الكتابات التي جفت على الأوراق ,
كانت ذات يوم , صوتنا العالي , لفح الشوق والرؤيا الحميمه
خرجت منها وجوه
لفعتها دورة الأيام,
شاخت في كوى النسيان
تحكي وجه بومة
إن هذا المنحى الإبداعي في شعر حسين سهيل في هذا الديوان له وجود بارز, يكفي أن نشير إلى قصيدة بين الحلم والجنون, للإشارة إلى تجذر هذا المنحى في إبداعه, ويتجلى أيضا في قصيدتي (ريح المائدة), وأنت كل الجهات.
والإنصاف يدعونا أن نشير إلى أن هذا السؤال الخاص بالإبداع له وجود ماثل في شعر شعراء جيزان بشكل لافت, كما في قصيدة (هي والقصيدة) لإبراهيم صعابي, وقصيدة (صاح بي صاحبي وانكسر) لعلي الأمير, وهذا السؤال الخاص بالشعر وآلية ميلاده, لا نجده إلا لدى الشعراء المهتمين بالتجريب والمغايرة وسؤال الماهية, لأن هذا السؤال يكشف عن أن مكان الشعر ليس ثابتا, فمرة يسكن في الموضوعي, وتارة يسكن في فعل المراقبة, وتارة يسكن في الجزئيات الخافتة في داخل الذات.
علي الحازمي: الغنائية الصوفية (الغزالة تشرب صورتها):
بالرغم كل ما يقال عن لغة علي الحازمي بوصفها لغة مملوءة بالغنائية , إلا أن هناك جزئيات عديدة تجعل هذا العمل, لعلي الحازمي عملا متفردا, أول هذه الجزئيات, التي ترتبط بالديوان هي جزئية الموضوعية, أو بتعبير النقاد الحزم الدلالية, فالديوان من بدايته إلى نهايته, يرتبط بنسق معرفي واحد, يحاول أن يقيم إطاره ويحدد خطوطه. صحيح أننا ـ بالرغم من هذه الموضوعية ـ لا نستطيع أن نمسك خيطا واحدا, ونقول عنه إنه الخيط الفاعل في الديوان, فهناك خيوط أو مداخل عديدة يمكن من خلالها مقاربة هذا الديوان, فهناك ذلك التوحد بين المرأة والمطلق, وكأن هذا التوحد يعبر عن سؤال وجودي. وهذا التوحد يمكن أن يرتد إلى خطوات بعيدة في تراثنا الشعري المعاصر, لدى محمود حسن اسماعيل, وإبراهيم ناجي والشابي. وأغلب التجارب الغزلية التي انتهجت نهج الطرق على باب لا يفتح, انتهت في النهاية إلى ذلك التوحد بين المرأة والمطلق, وتحول هذا التوحد بالتدريج إلى نسق صوفي خاص.
وهناك ـ أيضا ضمن المداخل العديدة لمقاربة الديوان ـ النسق الصوفي, الذي يبدأ بالسقوط, من لحظة التجلي الكامل, فهي لحظة الانقطاع والسقوط, والديوان في تقديمه لهذه التجربة المعرفية, لا يفصل بينها وبين تجربة الغزل العادية, وهنا يجب أن أشير إلى مصدر مهم, ربما شكل من وجهه نظري نافذة أساسية لعلي الحازمي, بداية من الإهداء إلى عناوين القصائد, وتقسيم الحزم الدلالية إلى ثلاثة أجزاء, وهو ديوان (أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت) لمحمد عفيفي مطر, هذا الديوان الذي كان له تأثير كبير في الشعر العربي الحديث, وتعامل معه النقاد على أنه يشير إلى فكرة وحدة الوجود, لأن العنوان مأخوذ من ابن عربي، ولكن التأمل الدقيق يجعله مرتبطا بتجربة حب عادية, قد ترتبط بالمرأة, أو باللغة أو بالقصيدة.
في ديوان علي الحازمي, نجد أن الإطار العام هو تجربة الغزل بمراحلها العديدة والمعروفة, ولكن بالرغم من وجود هذا الإطار العام, نجد هناك محاولة لربط هذه التجربة بنسق معرفي صوفي, فهناك التوحد قبل الميلاد أو السقوط, وتظل فترة الطفولة ـ في إطار هذا المنحى ـ أقرب الفترات إلى هذا التوحد, لأنها قريبة من السر:
حين ولدنا,
كما العشب بين صخور التلال القريبه
كنا قريبين من سرنا
قاب قوسين من منتهى الأغنيات,
التي يأسر الناي غربتها في أنين القصب
كان طفل هوانا ندى وشذى ممكنا
حين تبذرنا شمس آب.
فألفاظ مثل (السر ـ قاب قوسين ـ منتهي), كلها تجعل النسق الصوفي والمعرفي حاضرا, حتي لو كان النسق الدلالي الفاعل يرتبط بالغياب المعرفي لدى الطفل, الذي لا يدرك التقاليد المحددة والمانعة, وفي إطار هذا النسق الطفولي, يأتي الهوى ممكنا وتصير الدروب فضة للأناشيد, فمرحلة الطفولة القريبة من التوحد السابق مهمة في ذلك السياق, لأنها تحفظ له هدوءه واتزانه, وهي التي تعطي خياله مشروعية, وحلمه وجودا:
لن نتمكن من سرد سيرتنا في كتابين منفصلين
عن الوقت والروح
وليس لنا من خيار أخير
سوى أن نخبئ في جسد جسدين
فلابد أن أكونك أنت , ولابد من أن تكوني أنا .
إن معاينة هذا الجزء الأخير والمرتبط بتوحد مقترح, مشدود إلى مرحلة الطفولة والمرتبطة بغياب أسئلة معرفية خاصة, لا يظهر لها وجود إلا بعد الوعي بالحياة وتقلباتها مهمة, لأن الصورة المقابلة, سوف تقابلنا في القصيدة التالية (نخلة تسند العمر), ففي هذه القصيدة نشعر أن الإحساس بالشمس (معادل إدراك ومعرفة), واضح وجلي, فهي التي تروض خيل الظهيرة, التي تشير إلى مدى زمني يرتبط بمدى معرفي وإدراكي, لم يكن متاحا في مرحلة الطفولة, والخيل في ذلك السياق تأتي متشحة بالحلم ومرتبطة بالخيال, وارتباط الخيل بالظهيرة, يشير إلى فحوى دلالية مرتبطة بمشروعية الحلم في هذا المدى الزمني:
لنا الله
حين يلف اليباب حقولا من الحلم
رحنا نرى سنابلها في الفصول العصيه
وحدها خيلنا
حين تغدو إلى النبع
تشرب من خيلاء يلوح
على فضة الماء
تظل تراوح في سهل ثورتها
بانتظار المهب الأخير
كي تتوق طويلا لعودة فرسانها
من خريف بعيد .
إذا كان الصباح دالا على الطفولة, فإن الظهيرة تأتي عنوانا على فترة خاصة, لا يصلح معها الخيال فاعلا ومسيطرا, بحيث يشكل وتيرة فاعلة في تلقي الحياة بتقلباتها العديدة, وهنا تأتي الصورة المقابلة المرتبطة باليباب والخريف البعيد, فالخيل (معادل الحلم), لم تعد بسهولة تقتنص فريستها, وإنما أصبحت تراوح حتى ينتهي هذا الخريف.
وبداية من الظهيرة يتشكل لدينا جانبان فاعلان يتصارعان, الجانب الأول الذي توارى بفعل النمو الزمني والمعرفي والإدراكي, ولكن بالرغم من هذا التواري, نجد أن هناك محاولة من الذات الشاعرة للارتداد إليه, وهذا الجانب يتشكل من الحلم والنخلة بسموقها, والجانب الآخر يتشكل في حدود اليباب والريح والهجير, وهما جانبان متعاركان بفعل الحركة والتوجه لتحقيق الجانب الأول الخاص بالاكتمال والتوحد والصفاء, ولسيادة الجانب الآخر, الذي يجهض أي محاولة للعودة إلى هذا الاكتمال.
إن هذا التعارك- بالضرورة ـ يفضي إلى سيادة نسق على آخر, وربما تكون هذه السيادة واضحة, من خلال عنوان القصيدة التالي, وكأن الديوان رتب بشكل خاص, حتى يوافق هذه الحالات الخاصة المرتبطة بالتوحد والسقوط, وبداية الشعور بهذا السقوط, ثم التغذي والاستقواء بفعل الذكري, والتذكر مصطلح من مصطلحات المتصوفة, إذ يلح المتصوفة على فعل التذكر, وكأنه فعل يكشف للمتصوف اختلافه عن العالم الذي كان قريبا منه, ومن ثم فهو لديه شعور بقيمة وجمال العالم السابق, وفي الوقت ذاته يلح عليه شعور بقبح ودمامة العالم الآني, ومن ثم فإن فعل الذكري أو التذكر هو الذي يعيد تشكيل الحياة, ويحفظ له حياته من خلال اجترار التوحد السابق:
تجلس الذكري أمام النبع
تروي للغزالة
قصة العطش المقيم على الضفاف
وكيف لاح الغيم في خجل على الماضي
ليزهر غصن قامتك النخيل ...
إن قصائد الديوان كلها تدور حول هذا الفضاء الدلالي, هناك اكتمال سابق, وهناك نقص آني, وكل القصائد محاولة للعودة إلى هذا الاكتمال, للوصول إلى الفضة الرائعة, ولكنها دائما تتعثر, ولا يبقى لها سوى الحلم والذكري:
هناك في شجر قطعنا ظله
غصن وحيد للغناء المرمري
على ضفاف الروح
يكفينا اعتناق الحلم والذكري
لنكمل سيرنا نحو التراب .
تبقى نقطة مهمة , وهي عنوان الديوان (الغزالة تشرب صورتها), فمن خلال بعض المتابعات النقدية لهذا الديوان, توقف البعض عند أسطورة (نرسيس), الخاصة بعشق الذات, ولكن الغزالة كما تجلى من عنوان الديوان والقصائد, تأتي لفظة مشعة, ومحملة بدلالات عديدة, ولكن أهمها حين تأتي مرتبطة بالخيل, لتشير إلى التوحد أو الاكتمال السابق, وتأتي في قصائد جناح المخيلة مرادفة للحب واليوتوبيا.
محمد حبيبي – أطفئ فانوس قلبي – جمالية التقرير:
أطفئ فانوس قلبي هو الديوان الثاني للشاعر محمد حبيبى, وهذا الديوان – بعيدا عن أحكام القيمة – يثبت أننا أمام شاعر له ملامح خصوصية, وهذه الملامح كثيرة, ولذلك فإن المداخل التي يمكن أن يدخل منها الباحث للديوان عديدة, ولكن الباحث اختار سمة خاصة, ترتبط باللغة التقريرية, فالمتأمل لشعر محمد حبيبي يدرك أن لغته تميل إلى البساطة والوضوح, ولكنها بساطة خادعة, إن لم يقدرها الباحث حق قدرها, فهذه البساطة ليست جنوحا إلى السهولة, ولكنها بساطة فنية, تحيل المتلقي إلى مدى دلالي واسع, يرتبط بحالات فكرية ومعرفية.
ولكن ما المقصود بالتقرير؟ ولماذا كان الاستناد إلى هذا المصطلح دون غيره من المصطلحات التي قد تكون متاحة في ذلك السياق, مثل الحقيقة أو التصوير بالحقيقة في مقابل المجاز؟
والإجابة لن تكون سهلة, كما يتصور البعض, لأن دلالة التقرير بوصفه مصطلحا, لن تكون متاحة من خلال استقراء المعاجم, ولهذا فالباحث بحاجة إلى الاتكاء على خصائص اللغة الشعرية موضوع الدراسة, حتى يصل إلى دلالة هذا المصطلح.
أما تفضيل هذا المصطلح دون غيره من المصطلحات التي تصلح, لأن تكون وصفا للظاهرة, فإنه يرتبط بقصور في مصطلح الحقيقة, لأن استخدام مصطلح الحقيقة, الذي يعني في تحديد معظم البلاغيين, الكلمة المستعملة فيما هي موضوعة له, من غير تأويل في الوضع كاستعمال الأسد في الهيكل المخصوص, سوف يجرنا إلى الثنائية غير المتحققة منطقيا, فاستخدام هذا المصطلح قد يوحي أن هناك انفصالا تاما بين الحقيقة والمجاز, في حين أن الواقع يثبت حضور المستويين معا, فالإيمان بوجود المستويين, لا يعني - بالضرورة – وجودهما منفصلين, فاستخدام الحقيقة لا يخلو في وجه من وجوهه من المجاز, واستخدام المجاز لايمكن تصوره دون وجود مستوى نمطي متخيل يتمدد من خلاله, والشاعر – أي شاعر – لا يكتب قصيدة ما بلغة حقيقية وأخرى مجازية, وإنما المقصود أن النص الشعري لا يعول على الاستعارة, بقدر ما يهتم باللغة, التي تحقق له تواصلا مع المتلقى, ومن ثم تزداد فيه درجة الوضوح والتقرير.
كيف نحدد معنى مصطلح التقرير؟ إن تحديد مصطلح التقرير, يجب أن يرتبط بالشعر أو الديوان موضوع الدراسة, لكي يصل الباحث إلى خصائص أو سمات تكون فاعلة في تحديد ماهية المصطلح, والسمة الأولى التي يمكن أن تطالعنا في شعر محمد حبيبي هي سمة عدم الاتكاء على الاستعارة البعيدة الأطراف, وليس معنى هذا أن الشاعر لا يستخدم الاستعارة, وإنما المقصود يشير إلى أن استخدامها لا يشكل في نصه الشعري نسقا استعاريا لافتا, وفي المقابل تكون السيادة للجملة التقريرية, التي لا تخرق مواضعة لغوية, والجملة التقريرية موجودة بشكل لافت في ديوان حبيبى, وهذه الجملة – بالرغم من تقريريها التي قد تشير إلى البساطة – ترتبط بمدى دلالي خاص, فحين يقول محمد حبيبي في قصيدة (شقيقة/ صالحة):
مع أطفالها أقبلت
كغريبين صافحتها
سوف نجد أن هذين السطرين الشعريين يرتبطان بمدى دلالي خاص, ولن يتسنى للمتلقي أن يصل إلى هذا المدى الدلالي الخاص, إلا بعد أن يتوقف عند حركة المعنى النامية في النص الشعرى, والمرتبطة بالتقاط حالات التماهي بين الشقيقين في حالات الصفاء الطبيعية والطفولة, التي يكمن بهاؤها في الانعتاق من الأسئلة التي تصاحبنا, بفعل النمو العمري والمعرفى. وبداية من هذا الإحساس الخاص بالنمو المعرفى, تبدأ مساحات التيبس في الظهور, ووجود الأطفال (الأبناء) مع الشقيقة, معادل خلخلة للصور القديمة, التي كانت ماثلة في الذهن, ومن ثم فقد بدأ السارد الفعلي في النص يشعر بالمغايرة والاختلاف, الذي يشير إلى الخروج عن النسق السابق, وفي ذلك السياق تأتي الغربة الداخلية, المرتبطة بفقد نسق سابق, ووجود نسق جديد.
إن هذا التوجه الفني الخاص, المرتبط باستخدام لغة تبتعد عن النهج الاستعارى, ويرتبط بلغة تقريرية, لم يكن توجها نحو السهولة, وإنما كان توجها نحو البساطة المملوءة بمدى دلالي واسع, كالإشارة إلى مرحلة الطفولة, وما تحققة للإنسان – فضلا عن الشاعر – من اتزان نفسى, ثم الانتقال إلى مرحلة النمو المعرفى, التي تأتي محملة بأسئلة خاصة.
ويتكرر هذا المنحى الخاص المرتبط ببساطة تركيبية, والمملوء بنسق تقريرى, لا يعول كثيرا على الاستعارات البعيدة الأطراف, في ديوان حبيبى, ففي قصيدته الأولى في الديوان (مشابك), والتي جاءت تحت عنوان أكبر (محض كلام), التي يقول فيها:
نحلم
ن ح ل م , نحلم , ن ح ل م, نحلم.....
في الصبح نحمل أحلامنا لنجففها
وكي لا تطير بعيدا
نثبتها بمشابك
المشابك
محض كلام
نجد أن هذه القصيدة بسيطة تركيبا, ولا تعتمد على الاستعارات البعيدة الأطراف, التي شكل الاعتماد عليها طبيعة الشعرية العربية. ولكن هناك صورة في النص السابق, قد تشكل معارضة لمنحى التقرير, الذي اخترناه مدخلا للدراسة, وهي تجفيف الأحلام, وتثبيتها بمشابك, وهذه الصورة, لا تؤثر في وجود نسق استعاري سائد, يمكن أن يشعر به المتلقى, نظرا لطبيعة شعر محمد حبيبى, التي تتحرك ببطء تجاه النسق الاستعارى, فشعريته تقدم هذا النسق بالتدريج, فنصه يشكل في وعي المتلقي سياقا خاصا, قبل هذه النقلة الاستعارية, وحين يصل المتلقي إلى هذه النقلة, يجدها داخلة في إطار سياق دلالي يكيفها, ومن ثم لا يشعر المتلقي بأي صعوبة أو معاظلة في تلقيها, بل لا يجد – والحال تلك – مبررا للوقوف عندها واستبيان دلالتها بشكل استثنائي فردى, وإنما يجد نفسه مشدودا إلى الكيان الفكرى, الذي يحاول النص الشعري ارتياده.
والنص الشعري من خلال هذه البساطة التركيبية, يستدعي نسقا دلاليا مهما, فالنص الشعري يشير إلى مناخين: هما (المساء – الليل), و(الصباح – النهار), وكل مناخ منهما, له دوره الفاعل في تشكيل طبيعة توجه الساردالفعلى, فالمساء والليل, يأتيان وكأنهما يشكلان نسق المراقبة, والتأمل للمتخيل النموذجي المرتبط بالأحلام والآمال, وكأنهما – أيضا – يقيسان حجم المتحقق من هذا المتخيل النموذجي في كل ليلة. أما (الصباح – والنهار), فيأتيان بوصفهما معادل سعى, للاقتراب من هذه الأحلام والآمال, التي تشكل المتخيل النموذجى, فالإنسان - فضلا عن الشاعر – يضع أمامه - بداية من الإحساس بالوعي والالتحام بالحياة – متخيلا نموذجيا للوصول إليه, قد يرتبط بالأمل أو بالحلم, أو بصورة خاصة للذات, وهذا النسق لا ينتهى, لأن الإنسان إذا حقق أملا, ينتقل – بالضرورة – إلى أمل آخر يحاول تحقيقه.
والقصيدة تلح على هذه الفكرة, المرتبطة – إجمالا – بكون الحياة إمكانية جميلة لشئ لا يتحقق أبدا, والنص حين يشير إلى أن السارد الفعلي من خلال فعلي المراقبة والسعى, لم يقترب من سلطة نموذجه قيد ذراع , يدلل على طبيعة الأحلام والآمال, التي لا تقف عند حد, بل لا تتجلى على هيئة واحدة, فهي – أيضا – في معرض دائم للتغير والتبدل, وفقا لسطوة الواقع , الذي يغير في طبيعتها, ويؤثر في هيئتها.
أما السمة الثانية فهي سمة ترتبط بالتعويل على المشترك الإدراكى, وهي جزئية مهمة وأساسية, في سياق حرص الشاعر المعاصر, على التواصل مع المتلقى, لأن التعويل على المشترك الإدراكى, يشير إلى جزئية مهمة, يعرفها الشاعر, ويعرفها المتلقى, وترتبط بالإنساني في مداه الرحب, وفي ذلك السياق سوف نتوقف في الديوان عند جزئيات شعرية لا تخرق مواضعة لغوية, ولكننا مع ذلك نشعر بجمالها, وحين نحاول تبرير هذا الجمال, لن نجد إلا مقدرة الشاعر في التقاط صورة شعرية يدركها المبدع, ويدركها المتلقى, وتتحد بالإنسانى, فحين يقول محمد حبيبى, في قصيدته (حريم):
حريم تقاضمن
حول فناجين تفرك آذانها
ذيول العباءات تمشط
حكي الأزقة
فيما المحمص من بنهن
تطاير صوب فراغ ثنايا تمصمص غيبة
جاره
سنشعر أن هذه الصورة الإنسانية التي يلتقطها الشاعر, ويقدمها للمتلقى, وثيقة الصلة بالإنساني, وبالبيئة التي ينتمي إليها, فهي صورة عادية, ويدركها كل إنسان, ولكن الشاعر – الشاعر الحقيقي – هو الذي يستطيع أن يلتقطها, ويقدمها في ذلك السياق الخاص, المملوء بالبساطة والتقرير, والمهموم بالتقاط مالا يلتقط, أو تكديس ما لا يكدس. فصورة النسوة الجالسات حول فناجين القهوة, بالإضافة إلى التحدث عن الأخريات الغائبات صورة عادية, ولكن الفن, هو الذي يغير في معالم الصورة, فيجعل الجزئيات المادية داخلة في إطار الصورة, وهي – أي الجزئيات المادية – لا تقف عند حدود الوجود المادى, وإنما تطل فاعلة, وكأنها كائن حي يشارك في الفعل.
أما السمة الثالثة والأخيرة, فهي سمة الاتكاء على آليات فنية مأخوذة من فنون نثرية, كاستخدام السرد الشعرى, وهنا تجدر الإشارة إلى أن استخدام تقنيات القص في إطار النص الشعري ليس شيئا سهلا, بل هو عمل صعب إلى حد بعيد, فالشاعر يجب أن يجعل المتلقي يحس بالشعر, وفي الوقت ذاته يحس بالقصة. بالإضافة إلى أن ضم الشعر إلى القصة ليس مجرد زينة, وليس مجرد قدرة لإثبات القدرة على نظم الكلام, وإنما يستفيد كل فن من الآخر, فالشعر يستفيد التفصيلات المثيرة الحية, وتستفيد القصة من الشعر التعبير الموحي المؤثر. إن الشاعر الذي يستخدم تقنيات فن في إطار فن آخر, ربما يقع في قبضة الثنائية, فتقنيات القص حين تستخدم في النص الشعري لا تملك وجودا قائما بذاته, فهي جزئية في إطار النسق الشعري الأساس, وتكمن مقدرة الشاعر في صهره لهذا العناصر. ومحمد حبيبي – في نصوصه الشعرية – على وعي كبير بهذه الجزئية, فهو لا يستسلم لعناصر القص, التي يمكن – إذا استسلم لها – أن تطيح برهافة ما هو شعرى, القائم على التكثيف, ومن ثم سنجد سرده الشعري يرتبط بجزئيتين أساسيتين, هما: التكثيف الشعرى, والانعتاق من السرد التتابعى, الذي نجده ماثلا عند أغلب الشعراء, فهو - في نصوصه – لا نجده يتبع المنطق التراتبى, وإنما نجد النصوص, تصنع وجودها من خلال منطقها الخاص, ومن خلال استخدام آليات سردية تقضي على خطية الزمن وتمدده الطبيعى, وفي سبيل ذلك يقوم بالانتقاء الخاص للتفصيلات الحية, التي يمكن أن تكون فاعلة في إطار حركة المعنى النامية في النص, بالإضافة إلى استخدام المفارقة, التي حمت نصه من الترهل السردى, فالمفارقة يمكن أن تعد جزئية أساسية في إبداع محمد حبيبى, ففي شعره تأتي المفارقة, وكأنها بؤرة يختبر الشاعر رؤيته من خلالها, ويقارن من خلالها بين الماضي والآنى, يتجلى ذلك في قصيدة (وسام), وفي قصيدة (الشقة), وفي قصيدة (ياسمين), ويتجلى بشكل قد يكون أكثر وضوحا في قصيدته (شقيقة- صالحة), التي عرضنا لها سابقا, بحيث تأتي جزئية الارتداد للخلف لمعاينة نسق حياتي تم تجاوزه, من خلال التركيز على صور مختزنة:
كنت أدفعها للشقاوة دوما
لننتصف الصفعات
ترافقني للدكاكين, حيث أمط لها النصف
من علكة المستكى
و... أعلمها كيف تجلو
البقايا بركن الجدار
وقت يكف غبار القرى
مثل لصين نظراتنا ترتمي
لقروش تطل ,
لا أسامحها حين تقضم مرسمتي (الفكس)
مع أطفالها أقبلت..
كغريبين صافحتها
إن النص الشعري القائم في بنائه على الارتداد, وعلى اختيار تفصيلات حية, لا زالت مملوءة بوهجها, يقارن بين توجهين أو نسقين معيشين: نسق الطفولة, التي يظل أصحابها, أو من ينضوون في إطارها مكفولين من الآخرين, والنص في هذا النسق يعبر عن الماضى, وينتقي جزئيات تشير إلى الانعتاق من المسؤلية والأسئلة, التي تبدأ مع النمو المعرفي والإدراك, والبداية تطل من الفعل (كنت), الذي يضع الإخبار والسرد في بؤرة التركيز, وتتوالى الصور الجزئية من خلال وسائل الربط المعهودة, ولكن النص الشعري – الذي تمدد تركيبيا لسطور عديدة في تقديم النسق الأول – ينقلنا إلى النسق الأخير أو الآنى, ومن خلال سطرين فقط, فتتشكل المفارقة, التي تشير إلى براج الطفولة والانعتاق, في مقابل السأم والقنوط الآنى.
No comments:
Post a Comment