جماليات اللغة الروائية في البحريات
للكاتبة أميمة الخميس
تستمد اللغة وجودها في الإطارين الإبداعي والنقدي, من كونها المادة الخام , التي يتشكل منها العمل الإبداعي أو النقدي , واللغة - في ذلك السياق - هي التي تشكل من خلال تراصفها الخاص النصوص الإبداعية , سواء كانت شعرية أم نثرية , وهي التي تولد سماتها الجمالية والفنية
وإذا كان الحديث السابق حديثا عاما يرتبط بالتجليات الأدبية العديدة , التي تظهر في أدبنا العربي على مر عصوره ومراحله , فإن الحديث عن لغة الرواية بصفة خاصة , له مبرراته العلمية والنقدية , خاصة بعد أن تغير الإبداع الروائي بالتدريج , ولم يعد كتاب الرواية يهتمون اهتماما خاصا بعناصر الرواية الأخرى , فلم يعد للشخصية كما يقول -عبد الملك مرتاض - تلك الامتيازات الفنية , التي كانت تتمتع بها طوال القرن التاسع عشر , وطوال النصف الأول من القرن العشرين ( ..... ), إنه لم يبق للرواية شئ غير جمال لغتها وأناقة نسجها) (1)
فاللغة - في الأساس - قد تكون أروع ما في الرواية , وأقدر عناصرها على الإدهاش والإثارة , وهي - في الوقت ذاته - أقدر هذه العناصر على تجسيد البنية الدلالية , بالإضافة إلى أن العناصر الأخرى المكونة للعمل الروائي , لا يمكن أن يكون لها وجود فعال إلا من خلال اللغة , ( فباللغة تنطق الشخصيات , وتتكشف الأحداث , وتتضح البيئة , ويتعرف القارئ على طبيعة التجربة التي يعبر الكاتب ) ( 2)
إن لغة الرواية لها تأثير فعال في تشكيل العناصر الأخرى , المكونة للرواية , فمن خلال اللغة التي تمس كل العناصر المكونة للعمل الأدبي , تصبح الرواية جنسا أدبيا , ومن ثم كان اختيار هذا المدخل لدراسة رواية (البحريات) للكاتبة أميمة الخميس , واختيار هذا المدخل المهم من وجهة نظر الباحث , لا ينفي وجود مداخل أخرى , ذات أهمية في تلقي ذلك العمل , ولكن هذه المداخل لا يمكن اصطياد وجودها إلا من خلال الاعتماد على اللغة .
وربما كانت أهم المداخل الأخرى الواضحة للقارئ , تتمثل في المقارنة بين نسقين يسيران بشكل متواز , لا يلتقيان إلا من خلال فقد واكتساب منطلقات أو تكوينات جديدة ناتجة عن الفعل والانفعال بين هذين النسقين .
النسق الأول الصحراء بناسها وقانونها الخاص , والنسق الأخير يتمثل في البحريات , بالرغم من اختلاف كل واحدة عن الأخرى , في مساحات التكيف أو التيبس , فمنهن من ظلت بعيدة عن الانزواء داخل ذلك الإطار المستكين الوقور مثل بهيجة , التي تقول عنها الرواية في الصفحة ( 260 )( نتحت وطرحت وملأت الحديقة بعبق شذاها , ولكن بهيجة ظلت خلف السور الخارجي لم تدخل , ولم يؤذن لها بالدخول , إلي أن أعلن الجسد فجأة رفضه الاستمرار) ( 3)
إن هذين النسقين , اللذين تكشف عنهما الرواية , يتجليان في دراسات عديدة , ترتبط بجدل الأنا المؤسسة في سياقاتها العديدة بالآخر , والآخر في ذلك السياق- كما يقول حسن النعمى - هو الذي يخرج عن تكويننا الاجتماعي بكل ما يجمعه من الأطياف الاجتماعية المختلفة , وبما يحظي به الأفراد في سياقه من هوية ونمط عيش وموقع حضاري يميزهم سواء عن محيطهم العربي أو العالمي ) ( 4)
فالنسق المؤسس بتجلياته العديدة , يمارس سطوة , ترتبط بأعراف وتقاليد , وهذا النسق يتجلى في الرواية من خلال شخصيات فاعلة , تحاول أن تظل الحال على سكونها المعهود , دون تأثير واضح من البحريات اللواتي يحملن قيما مغايرة , وربما تكون أم صالح - في ذلك السياق - الشخصية الفاعلة , بوصفها تقف على الأعراف , بين عالمين : عالم الرجال وعالم النساء , ومنهن البحريات , تشير الرواية إلى هذا النسق السلطوي ( كان عليها أن تبقى العالم من حولها على هذه السمة الحادة القاطعة بين الحدود ,وإلا فستتداخل الألوان , وسينهار كل شئ من حولها , في بيت ملئ بالجواري والشاميات الماجنات) ( 5 )
هذا النسق المؤسس , يقابله - بالضرورة - نسق آخر , يتمثل في البحريات , اللواتي جئن ولهن رصيد مغاير, ينم في تجلياته العديدة عن الحركة وعدم الثبات , وربما تبدو بهيجة بمالها من مساحة واسعة في الرواية رمزا مهما في ذلك السياق , وهذا لا يأتي فقط من المساحة الواسعة لها في الرواية , وإنما لأنها لم تستسلم للنسق المؤسس , وظلت على تكوينها الخاص , بعراكها , وبمساعدة شخصيات نسائية جاءت من خارج النسق المؤسس , مثل إنجريد ورحاب .
وفي ذلك الإطار ظل الوصف اللغوي ( الفاقعة) ملازما لها على مدار صفحات الرواية من البداية إلى النهاية , فهي لم تمتزج مع النسيج في خلفية المشهد ( ينشغلن بمهرجان الألوان التي تشعلها الشامية ( بهيجة ) , تظل أم زوجها تشير لها بطرف خفي أن تصمت , أو تخفض صوتها , أن تمتزج مع النسيج في خلفية الغرفة , ولكن بهيجة تصمت لحظات , ومن ثم لا تلبث أن تشهق كسمكة ملونة وقعت على كثيب رملي ) (6)
رواية ( البحريات ) من خلال بنيتها اللغوية الخاصة تشير إلى هذين النسقين من خلال الألفاظ المفردة , المقدمة لوصف كل نسق على حدة , مثل صفة الفاقعة , التي ظلت لصيقة ببهيجة من لحظة قدومها , ولحظة موتها ,وحتى في حزنها, وهي صفة كاشفة عن أعماق الشخصية , التي تحمل الأفكار والرؤى , والتي يحاول الكاتب طرحها . فالكلمة المفردة _ كما يقول باختين- في كتابه ( الماركسية وفلسفة اللغة )( تتكشف كل كلمة كما نعلم حلبة مصغرة تتقاطع فيها وتتصارع لهجات اجتماعية ذات توجه متناقض , تستبين الكلمة في فم الفرد نتاجا للتفاعل الحي للقوي الاجتماعية ) ( 7)
وفي إطار ذلك الفهم نجد أن الأوصاف الدالة المقدمة ( للبحريات ), لها صفة السيادة والشيوع في النص الروائي , وذلك لأنهن يمثلن النسق المجلوب , الذي يجب عليه أن يقاتل , ليثبت مشروعية نسقه المقموع , ويبرهن على قيمة وجوده , في إطار سيادة نسق له صفة الهيمنة , ويحكم على المغاير والمتحرك داخل أفق خاص أحكاما جاهزة .
اللغة المحكية
إذا تحركنا خطوة قد تكون أكبر من الكلمة المفردة التي تصف كل نسق على حدة , فإن القارئ للرواية سوف يدرك أن اللغة المحكية في الرواية , التي جاءت بوصفها بديلا عن الحوار , جاءت للكشف عن طبيعة كل نسق للآخر , وكاشفة عن طبيعة كل شخصية .
إن اللغة المحكية , التي ينقلها السارد , ويقدمها على لسان الشخصيات - وإن كانت موجودة ومطروقة من قبل , لأنها وثيقة الصلة بالأمثال والعبارات الدارجة على ألسنة الناس - تقدم في الرواية وفق منظومة جمالية تنقل التركيب اللغوي من سياقاته المتواترة لتدخله في سياقات جديدة .
اللغة المحكية في الرواية على لسان الشخصيات , تكشف عن طبيعة الشخصية في إطار صراعها لتثبيت منطقها , وربما تكون النماذج المحكية على لسان ( أم صالح) عن (بهيجة) كاشفة عن ذلك الصراع , بداية من الاختلاف الشكلي أو الجسدي , فأم صالح - كما أشارت الرواية - تنتمي إلى آل مبطي , وبهم صفة القصر , ومن ثم كان التبرم واضحا في نص الرواية ( وقالت لها وهي تدفعها بعد أن انتهت من شبرها (ابعدي كراعينك الطويلة بتكلفنا زود قماش ياها الحمراء ) .
إن النسق المؤسس الذي تمثله ( أم صالح ) , لديه تبرم جاهز من المختلف والمغاير شكلا , وقد كان الإلحاح في النموذج السابق على سمتين أساسيتين , لا توجدان فيها . غير أن هذا النسق لا يستند - فقط - إلى المغايرة الشكلية , وإنما ينطلق - في بعض الأحيان - في نقده للآخر من المغايرة في الحركة والسلوك , يتجلي ذلك في خطابها البهيجة حين تظهر قربها لزوجها في حضورها , فأم صالح تصف بهيجة ( بالخبلة المشفوحة ) أو قولها ( اجلسي يالمهبوله اركدى) ( 9)
ويستند أصحاب هذا النسق إلى سلطة دينية , يتوهمون من خلال الاتكاء عليها أنها تمنحهم حق وصف الآخرين بالكفر , مثل حديث أم صالح إلى بهيجة ( قومي صلي لا ربي يعاقبنا بسببك , الشر يعم والخير يخص , أنا أدري وين يجيبون لنا ها الكافرات , حسبي الله ونعم الوكيل يا شامية إبليس) ( 10 )
إن النماذج الثلاثة السابقة , التي جاءت على لسان أم صالح , تكشف عن رؤية خاصة للنسق المقابل , وفق محددات أساسية ترتبط بالمغايرة الشكلية , والمغايرة في الأعراف في التعامل مع الزوج , وإن كانت - في الحقيقة- تكشف عن رغبة في التملك الموزع بين الأم والزوجة , وترتبط - أيضا - بالمغايرة في الالتزام الديني .
واللغة المحكية على النسق الآخر المهموم بإسدال نوع من الخصوصية لم تظهر في الرواية بشكل واضح , وذلك لأن أصحاب هذا النسق من النساء لم يكن مهمومات بإظهار قدراتهن بشكل جلي وصريح , وإنما كان همهن الأساسي مرتبطا في البداية ببناء إطار حام من السهام , وخلق ملامح خصوصية تتيح لهن حرية الحركة , وتخلق لوجودهن شرعية , وإذا تأسس لهن ذلك , فإنهن يلقين السلاح, ولا يقمن بأي محاولة لمساعدة الأخريات , في بداية مرورهن بالتجربة , كما فعلت بهيجة مع سعاد , يتجلى ذلك في قول بهيجة , بعد أن أصبح لها مكان مستقر , واتخذت علاقاتها مع الصحراء شكلا مستقرا تقول لنفسها ( لن أثقل هذه الأرض البكر المحررة للتو بشامية أخرى أبررها لهم , كما ظللت أبرر نفسي طوال العشرين عاما الماضية ) ( 11)
إن قيمة اللغة المحكية تتمثل في لغات عديدة تتعدد بتعدد الشخصيات الموجودة في الرواية , وهذا التعدد يكون كفيلا بكشف المعالم الخاصة للشخصية , والكشف عن التوجهات التي قد تكون متشابهة , يتجلي ذلك في قول ( أم رحاب ) عن ابنتها ( مثل الأطرميز لا خصر ولا (.....) , أو قول ( أم علي ) ( بنتك اللي حدفت نفسها عليه ......)
واللافت للنظر في هذه الرواية إن اللغة المحكية التي جاءت على لسان أم صالح أو بهيجة أو أم رحاب الفلسطينية أو أم علي , كلها ترتبط باللغة العامية , وثيقة الصلة بالمثل والمعهود والمتداول والمتواتر على ألسنة العامة , وهذا يشير إلي أن اللغة المحكية ترتبط على نحو فاعل بالمحيط الاجتماعي وبالتكوين الثقافي .
يظهر لنا ذلك حين نعاين نمطا مختلفا من هذه اللغة على لسان شخصية أخرى , جاءت - في الأساس - مرتبطة بلحظة التحول , حيث خلعت مدينة الرياض ثيابها القديمة , وارتدت حلة جديدة , ومن ثم فهذه الشخصية تقدم بدون ماض يمكن أن يكون كاشفا عن طبيعة تكوينها .
فاللغة المحكية التي قدمتها الرواية لمتعب تكشف عن نمط خاص من الشخصيات , بل يمثل شريحة خاصة , لها أراؤها , ووجهة نظرها في الحياة , تقول الرواية على لسان متعب (لا أتمني شيئا على الإطلاق , الأمنية في العشق تخنقه تحت سقف الشرعية الممطرة وسيذبل ويموت , دعيه في مراعي السافانا زرافة حرة منفلتة ومحاصرة بالوحوش ) (12)
إن اللغة -هنا - لغة مختلفة لارتباطها بشخصية لها منطق مختلف ونمط ثقافي خاص , يؤيد ذلك أن الشخصية المخاطبة ( سعاد ) لم تفهم الكلام فهما تاما ( بالرغم من تكوينها الثقافي المنفتح علي قراءة روايات عديدة ), فالأمنية في العشق من وجهة نظرها ضرورية لاستمرار الحياة , لأنها - في ذلك السياق - تشكل أملا أو سلطة نموذج متخيل , يعطي الانحناء تجاهها شرعية , ولكن الأمنية - من وجهة نظره - تدخل العشق - ولو من طرف خفي - حيز الشرعية , التي تقتله , فهو يريده -وفق تكوينه الخاص - منفلتا من القيود والأعراف والتقاليد .
إن متعب من خلال اللغة المحكية , التي حملت وجهة نظره إلى المتلقي يتجذر في إطار شريحة معينة , تنظر للأمور نظرة آنية دون ارتباط بالماضي أو نحت في القادم , بل تحاول الانسلاخ من التراث القديم , وتؤسس سياقا لوجهتها الآنية , وهي نظرة تخالف السائد والمقرر والمؤسس , ولا تقف عند حدوده , بل تتخطى ذلك للتبرم على تقاليد دينية , يتجلى ذلك حين يرد على سؤال سعاد : لماذا لا نرى تماثيل في مدينة الرياض مثل تمثال صلاح الدين في سوريا ( فقال لها وهو ينفخ من أنفه ساخطا أفففففف , التماثيل ممنوعة هنا , وقال متهكما : يخشون أن يعاود الناس عبادتها , تخيلي العالم يتجه إلى اللادينية , وربعنا يخشون العودة إلى عبادة الأصنام ) (13)
فهذه اللغة تكشف عن تبرم خاص بالسائد , ومحاولة للخروج عنه , والتحليق بعيدا عن هذا السائد , وذلك لتجذره ثقافيا في إطار نسق مغاير , يحاول الانفلات من لحظة ماضية , والنمو في سياق جديد , يكشف عن وجهة نظر مغايرة تمس كل المستويات , بما فيها ردة الفعل تجاه المواقف التي تمر بها شخصيات الرواية , فالانسحاب الذي قامت به (سعاد ) , من عزاء أم زوجها ( سعد ) , كان له فيه رأى مغاير , يكشف عن نظرة برجماتية وثيقة الصلة بهذه الشريحة التي يمثلها متعب .
لغة الرواية بين المجاز ومنطق السرد :
القارئ لرواية( البحريات) , يدرك أن اللغة التي كتبت بها الرواية , من أهم السمات الخاصة بالرواية , بالإضافة إلى السرد والبنية الزمنية والفضاء الروائي والشخصيات , واللغة -فوق ذلك- تسهم في تشكيل العناصر الأخرى , التي تبني عليها الرسالة الإبداعية في الرواية ,والرواية - في ذلك السياق - تشكيل لغوي متعدد التقنيات والأساليب , ولا يمكن حصره في إطار اللغة الغيرية أو المحكية , التي توقفنا عندها في الجزئية السابقة , ومن ثم تطرح أمام الباحث - كما يقول محمد بو عزة - مهمة الصياغة النظرية والمفاهيمية لمعالجة المستويات اللغوية الأخرى ) (14)
وربما تكون مقاربة اللغة الروائية من أصعب الجزئيات التي يمكن أن يتوجه إليها الباحث , وذلك لأن قارئ الرواية يشعر بجمال العمل الروائي لحظة القراءة , ولكن مقاربة اللغة بعد ذلك تعد شيئا صعبا , لأن الباحث يكون موزعا بين اختيار الطريق السهل , حيث يتعامل مع لغة الرواية , على أنها شبيهة تماما بلغة الشعر , ومن ثم يتوقف أمام الجزئيات الصورية الجزئية , وبين ارتياد الطريق الأصعب , وذلك من خلال تناول لغة الرواية , بوصفها فنا له جمالياته المائزة الخاصة , ولذا فهي تحتاج إلى مقاربة خاصة مغايرة لمقاربة لغة الشعر, والمتأمل لبعض البحوث التي قدمت في ذلك السياق , يدرك أن هناك بحوثا اتخذت الطريق السهل سبيلا , منطلقة في الأساس من إن الروائي يستخدم في سرده السرد التصويري والخبري , ليشكل نسيجا سرديا , بحيث يحدث تحول -كما يقول أحد الباحثين - في لغة الرواية , من كونها وسيلة للتبليغ المباشر إلى نظام وظيفته التبليغ غير المباشر , وهو ما يسميه الدارس الوظيفة الجمالية اللغة ) ( 15 )
وفي إطار ذلك التوجه, نجد في هذه الدراسات حديثا عن اللغة السردية التجسيدية , وهي - في تعريف بعض الباحثين - اللغة التي تعتمد على التصوير الاستعارى واستخدام الألفاظ والرموز الموحية المتعددة الدلالات , واللغة النابضة بالإيقاع والتلوين البياني , والبديعي مع استثمار اللغة الشعرية الإيحائية, بقصد خلق الوظيفة الشعرية والجمالية ) ( 16 )
إن الاتجاه السابق الذي يضع في اعتباره تشابه مقاربة لغة الرواية بلغة الشعر , يقابله اتجاه آخر , يحاول أن يتعاظم على هذا التشابه , وينطلق من خصوصية بنية الرواية , وأصحاب هذا الاتجاه ينطلقون من مبدأ مهم , هو أنه ليس مقبولا أن يتعامل الناقد مع الرواية على أنها قصيدة شعرية , ويقف عند التشبيه والمجاز والصورة , والدلالات الجزئية الناتجة عنها , يقول أحد الباحثين مشيرا إلى التوجه السابق (هناك من كان يدرسها من خلال مقاربة بلاغية تقليدية تركز على الصور الشعرية من تشبيه ومجاز واستعارة وكناية ورصد للمحسنات البديعية ومواصفات اللغة كالرصانة والجزالة والليونة , وكانت هذه المقاربة البلاغية تسقط مفاهيم البلاغة الشعرية على الرواية دون مراعاة خصائصها النوعية والتجنيسية , وبنائها التعبيري المعقد , وطاقته البلاغية واللغوية والتراكبية ) ( 17)
وأصحاب هذا الاتجاه لا ينفون أن الرواية تستعير بعض خصائص اللغة الشعرية , وإنما ينفون المطابقة أو المماثلة بين لغة الشعر ولغة الرواية , وهذا - بالضرورة - يستدعي مقاربة مغايرة , لأن الرواية حين تستعير هذه الخصائص الشعرية , لا تستخدمها بالطريقة التي يستخدمها الشعر , وإنما توظفها وفق آلياتها السردية القائمة على البناء الممتد من البداية إلى النهاية ,وفي ذلك السياق تقل قيمة الصور الجزئية أو المجهرية , لأن الاهتمام الأساسي يرتبط بالبناء العام , فالرواية - في رأي محمد بو عزة - لا تؤسس شعريتها ضمن عملية اقتراضها للأدوات والوسائل الخاصة بأدبية الشعر , بل تكون شعرية من حيث هي تشكيل لغوي يعبر بالسرد عن عوالم تخيلية معقدة , ولا يتوقف الإشكال عند حدود استعارة الرواية لتقنيات الشعر , بل يتجاوز هذا التصور الاختزالي إلى التساؤل عن كيفية الخطاب الشعري في النص الروائي , كيف تشتغل هذه التقنيات من بلاغة الشعر إلى بلاغة الرواية ) ( 18)
إذا حاولنا أن نقف عند الصورة الروائية الجزئية في رواية البحريات , فإن القارئ سوف يدرك من الصفحة الأولي أن لغة الرواية من بدايتها إلى نهايتها مملوءة بهذه الصور الجزئية , ولكن القارئ سيشعر - أيضا - أنه ليس هناك إحساس بالخروج المتعمد لأنساق لغوية خاصة , والسبب في ذلك - فيما أعتقد - يعود إلى أن الكاتبة في بنائها للإطار المعرفي الخاص , الذي يشير إلى نسقين بينهما صراع يشتد وينخفض , وقد يكون ظاهرا أو متواريا , مارست نوعا من الكتابة السردية , التي تشكل طبقات متجاورة أو متجاوبة , بنيت فوق بعضها , وعلى هذا الإساس فالصورة الروائية في أي صفحة من صفحات الرواية , لا تومض دلاليا في فراغ , وإنما يتم تلقيها داخل نسق عام متنام من البداية , ولذلك لا يشعر القارئ أنه في حاجة إلى وقفة خاصة لاستبيان دلالتها , انطلاقا مما تم إنجازه في صفحات سابقة .
فحين تقول الرواية عن ( بهيجة ) (روح بهيجة تفضي إلى ساحة , الساحة تتوسطها نافورة , النافورة تثرثر طوال الليل بأحاديث الماء , وقصص وحكايات تنثرها كفراشات انطلقت من شرنقتها للتو ) (19)
لا نتوقف - بالضرورة - أمام الصور المجهرية ,لأن هذه الصور المجهرية , تبنى على جزئيات سابقة , ويتكون البناء بالتدريج لإعطاء صورة لبهيجة , فصورة بهيجة من بداية الرواية جاءت بوصفها نسقا مغايرا,فهي تختلف عن مثيلاتها في النسق المؤسس , مثل ( موضي ) وأخريات بالضرورة , ومن ثم فإن هذه الصور الجزئية تتجاوب مع صور سابقة , لتشكيل ملامح الشخصية , وتظل هذه الصور الجزئية في انفتاح دائم للإضافة في صفحات قادمة من الرواية .
وإذا كان الجزء المقتبس السابق يشير إلى الحركة وعدم الثبات , فإن الرواية في جزئيات كثيرة استندت إلى الصور المجهرية , لإعطاء خصوصية تكوينية لشخصيات في النسق المقابل ( أم صالح ) , تقول الرواية ( بركة مياهها رائقة آسنة فإذا وقع فيها حجر ما ....... اتسعت دوائرها وتكثفت , وظلت تتكلم في الموضوع لأيام طويلة , وتعيده بنفس الجمل مع تغيير طفيف ببعض العبارات ) ( 20)
فإذا كانت الحركة في الجزء السابق الخاص ببهيجة هي العنصر الفاعل , فإن الفاعلية هنا في تصوير أم صالح تأتي مرتبطة بالثبات من خلال البركة الساكنة , التي لا تقوم بفاعلية , وإنما تنفعل بمؤثر خارجي , وهذه الصورة الجزئية تتجاوب مع صور قدمت سابقا ( لأم صالح ) , بحيث تأتي نموذجا محافظا , يأنف من التغيير , ويختبره مرات عديدة , قبل الارتباط به .
إن النماذج الدالة على استخدام الصور المجهرية , بوصفها بنيات صغري تتشكل وفق بناء عام في نص الرواية كثيرة جدا , ولكن القارئ قد لا يشعر بهذه الصور بشكل لافت , لأن اللغة الساردة المهمومة ببناء إطار فكري , شكلت من خلال طبقات وجزئيات متجاوبة فيما بينها لتشكل حدودا وأفقا لكل شخصية , غير أنه في بعض النماذج الصورية الموجودة في الرواية , نشعر أن هناك محاولة لبناء ملامح رمزية فالرواية تصور ( رحاب في رحلتها إلى الرياض ) من خلال قولها (كان قلبها ما برح يمارس لعبته الصبيانية معها بشكل أحنقها , كانت تود أن تمسكه من شعره , وتلجمه في مقعد أو تخفيه , بإحدى خزانات الطائرة , كانت تعلم بأن مسايرته في قصته الصبيانية ستؤدى بها إلى منحدر الوحشه , كأنها أم استيقظت من آلام مخاض طويلة مهلكة , ليخبروها أن الوليد قد مات ) (21)
فالصورة السابقة تشير إلى القلب أو الحب أو الطفل , وهي صورة مؤسسة لدى شعراء الخمسينيات , وهي - كذلك - لا تنطلق دلاليا في فراغ , وإنما مرتبطة بجزئيات صورية سابقة , فالسفر من بيروت إلى الرياض لم يكن إلا هروبا من حب فاشل , لا تتكون له ملامح يقينية إلا من خلال الانتظار ( لعلي ) , الذي سافر إلي أمريكا ولم يعد .
إن هذه الصورة المجهرية تمثل حلقة أو طبقة ثانية , تتجاوب مع طبقة سابقة , ومنفتحة على طبقة أخيرة في تشكيل ملامح الحكاية , الحكاية البسيطة التي شكل الانتظار ملامحها وأوجد لها إطارا خاصا , تقول الرواية ( لتجد في النهاية أن حكايتها مع علي مخلوق له رأس صغير , وذيل طويل جدا , مصنوع من قطن المخيلة )(22)
لقد كان تناول الصور المجهرية والجزئية مرتبطا في الأساس بشيئين , هما : محاولة ربط هذه الصور المجهرية بطبقات سردية سابقة ولاحقه , مما يخرجها عن سمة الجزئية ويلحقها بالبناء العام للرواية , والأخير يتمثل في جعل دلالة هذه الصور مرتبطة بحركة المعني النامية في النص , وبالإطار المعرفي .
وربما كان هذا المدخل الخاص في دراسة الصور المجهرية والجزئية , من خلال وضعها في إطار سردي عام , مدخلا مهما , لدراسة لغة الرواية من وجهة نظر مختلفة , ترتبط بالاتجاه الثاني , الذي أشرنا إليه سابقا , بحيث يكون الحكم على لغة الرواية , لا ينطلق من بنيات جزئية , يمكن أن تنتج - إذا تم الاستناد إليها - مقاربة تتصف بالثبات مع كل الروايات , من خلال لغة فضفاضة , تصلح لمقاربة كل الروايات , وإنما ينطلق - كما يقول أحد الباحثين - من خلال محاولة تأسيس بلاغة سردية تصوغ أدواتها من سجل الجنس الروائي ومعماريته النصية ) ( 23)
والبحث عن بلاغة خاصة للغة الرواية , يتم وفق مبدأ مهم , هو أن الصور الجزئية , في أي نص سواء أكان سرديا أم شعريا , لا تحمل وجودا منفصلا قائما بذاته , وإنما توجد في إطار عام يكيف دلالاتها , وتكتسب قيمتها من الإطار الروائي العام , خاصة إذا أدركنا أن الأسلوب - كما يقول ميشال بوتور- لا يقوم بالطريقة التي نختار بها الألفاظ في الجملة فحسب , بل بالطريقة التي تتناسق بها الجمل الواحدة تلو الأخرى , والمقاطع والفصول , وعلى جميع مستويات هذا البناء الضخم , الذي هو الرواية ) (24)
وإذا كان السرد - كما يقول بارت - يشترك بنيانيا مع الجملة دون أن يحصر ذاته بعدد من الجمل ( 25) فإن الرواية لا تكون شعرية بالمقاطع فحسب , بل بمجموعها , ونحن نعلم أن هذه المقاطع التي نعتبرها لأول وهلة شعرية عند كبار الروائيين أمثال بلزاك , وستندال ودوستوفسكي , لهي مرتبطة ارتباطا وثيقا بغيرها من المقاطع , وإذا فصلت عنها فقدت الكثير من شعريتها ) ( 26)
إن التوجه السابق في الحديث عن لغة الرواية , الذي يحاول مقاربة الرواية , كبناء كلي في إطار خصوصية اللغة , يحاول الكشف عن منطق خاص للغة السرد , وهذا المنطق الخاص ليس ثابتا وإنما متغير من رواية إلى أخري , بحيث يشكل سمة فاعلة تؤدي دورها في تشييد البناء السردي , وتكون لبنة أساسية في نمو السرد وفق توجهات خاصة , وذلك من خلال استراتيجية توجيه القارئ , التي تسمح بإقامة عملية الإبلاغ , من خلال استراتيجية تمكن من المحافظة علي هذه العملية , وتسويغ التحرك الخاص نحو الحديث .
في رواية البحريات نجد أن المنطق السردي , أو لنقل بتعبير - قد يكون أكثر صحة -أن الجزئية أو الآلية الفاعلة تتمثل في الجزئيات الخاصة التي تقدم في النص السردي بوصفها بترا أو تكييفا لحركة السرد , أو عتبة داخلية, تبدأ الرواية منها الرحلة السردية من لحظة الوقوف أو الصمت إلى لحظة الحركة أو الكلام .
والمتأمل لهذه الجزئية , يدرك أنها تكررت كثيرا بشكل فاعل في الرواية , وهي آلية لا علاقة لها بالمقاطع أو الفصول , وإنما لها علاقة أساسية بحركة المعني في النص السردي , وبحركة الشخصية نحو توجه خاص , ويبدو أن لها علاقة - أيضا - بالموقف الانفعالي الذي أشار إليه بارت في قوله (لا يستطيع أحد أن يكتب دون أن يتخذ موقفا انفعاليا مهما بلغ تجرد الرسالة الظاهر ) (27)
كيف يمكن تحديد هذه العتبة الداخلية أو التكييف السردي أو البتر السردي , الذي يحمل في طياته خبرة سردية ومعرفية حياتية ؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تنطلق مما يمكن أن نسمية لحظة الانغلاق أو الوقوف أو الكسر , ثم التحرك بعد ذلك لا ستئناف الحركة السردية النامية في النص .
إن معاينة النماذج الموجودة في رواية البحريات , التي يمكن أن تكون عتبات داخلية , يكشف عن أن وظائفها الدلالية تتعدد وتنمو في مناح عديدة , ولكن يمكن إجمال هذه الوظائف الدلالية فيما يلي :
الإخبارية :
هي تلك الجزئيات التي تأتي في النص الروائي , والتي تضع المتلقي في فضاء الرواية زمانيا أو مكانيا, بحيث تشكل هذه الجزئيات الإخبارية إطارا مهما , بحيث يستطيع المتلقي من خلال الإلمام بهذه الجزئيات أن يكون واعيا بالسياق الحضاري للرواية , مثل جزئية ( في الشتاء تهب رياح شمالية جافة أربعين يوما على نجد تسمي المربعانية ....)(28)
ولكن هذا الإخبار الذي يجعل المتلقي داخلا في فضاء الرواية يعد مهما , لأن هذا الإخبار كان مهما في وجود حركة النزول من ( بهيجة ) , ورؤيتها ( لسعد ) واكتشاف بلله بالماء , ومن ثم يظل هذا الخيط ممتدا حتى حادثة الضبع الشهيرة , حيث تشممها في ليلة من الليالي .
فالإخبار له وظيفة دلالية في الأساس , ولكن هذا الإخبار يظل فاعلا , طالما نظرنا إليه في سياقه السردي , ومن ثم تتمدد هذه الخيوط الإخبارية , لتظل شرايين فاعلة في البناء السردي .
إن بعض هذه النماذج الإخبارية , لها مرتكزات سياسية , وإن كانت لا تخلو من إحالات زمنية , فحين تقول الرواية (تحدق بالعرش السعودي كثير من التيارات الثورية , التي كانت تموج في العالم العربي , وأدت إلى سقوط كثير من الملكيات آنذاك , لذا كانت المعركة آنذاك معركة وجود لامجال فيها للتسامح .... أو غض النظر , وكانت الحياة السياسية مغطاة بشبكة اسخباراتية محكمة , من يقع في براثنها يدفع ثمنا غاليا ) (29) لا يستطيع المتلقي أن ينكر أن هذا البتر الجزئي وثيق الصلة بشخصية ( سعد ) , الذي ظل يقرأ كتب الثوريين العرب دون فهم حقيقي , لأن هذا النسق الحياتي , الذي يجعله يتكلم في السياسة في حالة سكره يغطي علي فشله في إطار مستويات عديدة .
التنميطية
وهي الوظيفة الأكثر وجودا في نص الرواية لهذه العتبات الداخلية , لأن هذا التنميط وثيق الصلة بالإطار المعرفي الخاص بالرواية , فالنمط في الرواية نسق مكتمل , يكون وجوده بالتدريج من خلال ظواهر وأعراف وتقاليد , وهذه الأعراف والتقاليد , تقوم مقام العقيدة في النسق المؤسس بحدوده , والذي لا يقبل بسهولة السماح للغرباء بالدخول إليه .
يتجلى هذا في نماذج عديدة في نص الرواية , تقول ( توزيع الفطرة بعد عيد رمضان وذبح الخراف في عيد الأضحى تصنعه ببرتكول سري واتفاق خفي , تؤسس لنظامها الاجتماعي الصلب , الذي يصعب على الغرباء فك رموزه , نظام المجد مملكة مستقلة , كاملة الحدود والمعالم ) ( 30)
فالجزئية السابقة تشير إلى نسق خاص , لا يسمح للغرباء بالدخول إليه , وربما تكون هذه الجزئية - أيضا - بداية لتكوين نمط مقابل غير مؤسس بالاندماج , يرتبط بوضع ( البحريات ) , اللواتي ظللن بلا عمل حقيقي , وكأن الدخول أو المشاركة , يعد إيذانا بالاندماج في النمط المؤسس .
ومن خلال جزئيات أخري تتشكل طبيعة النمط , الذي لا يتجلى بوجه واحد , وإنما بوجوه عديدة , ولذا نجد الرواية - حتى يتم لها إطار مكتمل- تلح على بعض الجزئيات التي يمكن أن تكون فاعلة في تشكيل ملامح هذا النمط , مثل الإشارة إلى طبيعة التجار في جزئية من هذه الجزئيات , في قولها (في بيوت التجار عادة لا تحدث كثير من الثورات أو الهزات, ليس هناك استجابة لنبض التغير الكوني , فالسائد والمطمئن للمألوف , يضمن لهم دروبا تجارية آمنة سالكة , وبضائع , تصل في مواقيتها , وسوقا مزدهرة منتعشة .... كما أن أمعاءهم الغليظة والدقيقة ممتلئة , وبيوتهم متسعة دائما والمستودعات وافرة , ليس هناك من حاجة لفتح هذه البوابة , التي قد يدخل منها الشيطان , يحمل في أعطافه شرا عظيما ) ( 31)
فالإشارة إلى التجار وطبيعتهم المرتبطة بالتدثر بالسكون والثبات , وتمحيص الشئ قبل الدخول إليه , تعتبر عتبة أو مدخلا مهما للإشارة إلى موقفهم الخاص من قضية تعليم البنات في تلك الفترة الزمنية , وهذا التمحيص أو الانتظار حتى تسفر التجربة عن نتيجة آمنة , لم يقف بالبناء السردي عند تلك الحدود , وإنما كان سببا في دخول رحاب - هي إحدى البحريات - إلى هذا الفضاء أو النسق المؤسس , حيث أنتج التمحيص والانتظار حركة في إطار مختلف , تتمثل في جلب مدرسة للبنات بالمنزل .
التبريرية أو التسويغية :
في بعض هذه العتبات الداخلية , التي تقطع السرد بشكل حذر , يمكن أن يجد المتلقي فيها تبريرا للحدث القادم , أو إشارة مسبقة له , فحين تتحدث الرواية بجملة سردية طويلة عن العباءة الخاصة بالمرأة في قولها (العباءة السوداء الحريرية, على الرغم من كونها تغطي الرأس والكتفين, ولكنها حين تنسدل على الجسم... تبرز تقاسيمه, والعين الرجالية , في الرياض مدربة على استكناه ظلام العباءة , وتحدي عتمتها وتقصي تضاريس الجمال من خلف العباءة ... العباءة تسلم الجسد الأنثوي إلى لهيب المخيلة , وهناك في تلك الأرض الشاسعة , يعاد إنشاؤه تارة أخرى رطبا لينا ومتحفزا يقطر عسلا ) (32 )
فهذه الجزئية تعد تبريرا للحدث السردي القادم,والذي يمتد ليشكل خيطا سرديا في بنية الرواية,وهو حدث ارتباط متعب بسعاد - البحرية الثالثة زوجة سعد – حيث أبصرها وهي تنزل من السيارة,ولم تكن بعد قد أتقنت لبس العباءة ,فكانت هذه الحادثة بداية لوجود خيط سردي مهم في نص الرواية .
إن هذه العتبات بوجودها في الإطار السردي , قد تأتي لتبرير الحدث , أو إشارة إلى ميلاد ذلك الخيط , أو قد تأتي لتبرير التوجه أو لتفسير الحركة المؤجلة من بعض الشخصيات , فحين تقول الرواية في إحدى عتباتها (الأنثى بعد الثلاثين تبدأ في إحراق المراكب , تبدأ كل سنة تمضي تتهاوي كمركب يترمد , ويغطس في القاع , تزداد وحشية المحيط , وتعتم زرقته , وتغادره نسماته الرطبة العليلة , فلا يبقى هناك في الأفق سوى أعاصير الظلام والوحشة , عندها قد يستيقظ ذلك الربان الشرس المقاتل , ذلك الذي يستبسل ويهدر في الأعماق , والذي يبرز عند المنعطفات الحالكة بمركبته النيرانية المجنونة ) ( 33)
هذه الجزئية تقدم بوصفها إشارة وثيقة الصلة برحاب , تلك الشخصية التي جاءت من الرياض هروبا من حب , لا يكون قسماته إلا الانتظار المنفتح على الخيال , ومن ثم فهذه العتبة ليست إلا إشارة إلى وجود تغيير داخلي , لم يستطع بعد أن يفتح شرنقته للخروج للارتباط بعمر الحضرمي بديلا عن علي , الذي كانت تأنف منه في البداية , والرواية في رصد هذا التحول , لم تقدمه بشكل قاطع , وإنما أخذ مراحل , تبدأ بالتغيير الداخلي المكتوم , وينتهي بالانفجار , كما سوف نرى في عتبات الوظيفة الانفعالية .
الانفعالية :
لا شك أن هذه الوظيفة موجودة في الوظائف السابقة , بشكل من الأشكال , فهذه العتبات وهذا البتر الجزئي , ليس معناه إلا حضورا للسارد , بما يحمله من خبرة معرفية وسردية وحياتية , وهذا يتطلب - بالضرورة - موقفا انفعاليا , ولكن الذي جعلنا نضعها في إطار منفصل هو حضور الضمير ( نا ) في هذه العتبات , مما يعني حضورا لفظيا من جهة , ومن جهة أخرى يعني تطابقا في وجهة النظر والتوجه ورؤية الأشياء, بل إلي درجة خاصة من التماهي .
وقد أشرنا - سابقا - في حديثنا عن الوظيفة التبريرية في الجزئية الخاصة (برحاب ) أن التغيير أو التحول لم يأت فجأة,وإنما مر بمرحلة التغيير الداخلي المكتوم,وبمرحلة الانفجار الهائل , تقول الرواية ( كثيرا ما نظن بأن قراراتنا الكبرى في الحياة تنبجس فجأة من أعماقنا دون سابق تخطيط أو تبرير , دون أن نخمن بأنها قطرات الأسئلة التي كانت تطرق أرواحنا وتراكمت , وصنعت ذلك الطوفان , الذي نظنه قرارا مفاجئا اندفق من الغيب ) ( 34)
فالرواية - من خلال هذه العتبة الداخلية - تشير إلى طبيعة الإنسان في إطار وضعه الحياتي الصعب , الذي يحاول الفكاك من أسر تجربة مطبقة , وهذا الفكاك لا يتم إلا بالبناء التدريجي في جانب , والهدم في جانب آخر , ويتم كل ذلك في حالة سكون خارجي وعراك داخلي مع الذات , فالأمر - لدي رحاب - أو التحول لديها لم يتم بشكل ينم عن الانفجار , كما تجلي في نهاية الرواية , وإنما تم بشكل مرحلي خاص .
إن هذه الوظيفة الانفعالية تشير- كما لا حظنا سابقا - إلى تماه خاص بين السارد والشخصية , وإن كانت تقدم في إطار شبه منفصل عن الخط السردي النامي , ومن ثم تقدم وجهة نظر تم الإتكاء على مشروعيتها من خلال هذا التطابق , فالمتأمل للنموذج الخاص ( بأم صالح ) , في أزمتها الخاصة , يشعر أن هذا التطابق المبني على خبرة معرفية موجود , تقول الرواية ( في تلك اللحظة التي نظن بها أنا حصلنا على ملامحنا المتماسكة الناضجة والنهائية , وغدونا أكثر سيطرة على أنفسنا ومحيطنا , ونبدأ بمشاريع كانت نائمة أو مؤجلة في قائمة الأحلام, تبدأ المرآة تعكس إشارات خبيثة وغير متوقعة , ويبدأ الصغار الذين شهدنا ولادتهم وحبوهم في الزواج والإنجاب , ونعرف بأن الوقت يأخذنا عن المقدمة , ويتقهقر بنا باتجاه الصفوف الخلفية ) (35)
هذه الأزمة الخاصة بأم صالح , والتي تجلت من خلال بتر سردي يرتبط بالسياق العام , أزمة إنسانية , ترتبط بعامل الزمن , الذي بمروره تزداد الخسارات الجسيمة , وكل هذه الخسارات كانت موجودة لديها , بداية من الزوجات المتعددة لزوجها , ومرورا بتفلت ابنها البكر من يديها وانحنائه إلى الشامية , وانتهاء بالتحول الخاص بكل السياقات التي كانت تحاول تثبيتها .
هذه الأزمة المملوءة بالخسارات , جعلتها , تتجه لتثبيت سلطتها في اتجاه آخر , يتمثل في دور الرقيب , في المسافة الفاصلة بين عالمين , كشفت عنهما الرواية بالتفصيل .
إن هذه العتبات الجزئية باختلاف وظائفها الدلالية , تجلت بشكل فاعل , وكشفت عن دور مهم , لأنها أسهمت في وجود إطارات أو خيوط سردية , شكلت في النهاية البناء السردي للرواية .
الهوامش
(1) عبد الملك مرتاض : في نظرية الرواية , عالم المعرفة , ديسمبر1998, ص116
(2) عبد الرحيم حمدان : اللغة في رواية تجليات الروح , مجلة الجامعة الإسلامية , مجلد 16 , عدد 2 , يونيو 2008 ,ص104
(3) أميمة الخميس : البحريات , دار المدى , سورية , 2006 , ص260
(4) حسن النعمي : مدخل إلى الآخر في الرواية السعودية , الراوي , مارس , 2008 , ص115
(5) أميمة الخميس : السابق , ص47
(6) أميمة الخميس : السابق ص87
(7) فيصل دراج: نظرية الرواية , المركز الثقافي العربي , ط2 , 2002 ,ص 66
(8) أميمة الخميس : السابق , الرواية , ص35
(9) أميمة الخميس : السابق , ص60
(10)أميمة الخميس : السابق ص36
(11)أميمة الخميس : الرواية , ص187
(12)أميمة الخميس : الرواية , ص223
(13)أميمية الخميس : الرواية , ص210
(14)محمد بو عزة : التشكيل اللغوي في الرواية , علامات سبتمبر 1999 , ص76
(15)مفيد نجم : شعرية اللغة وتجلياتها في الرواية العربية , نزوي عمان , عدد ( 51 ) ص32
(16)عبد الرحمن حمدان : السابق , ص120
(17)جميل حمداوى : اللغة في الخطاب الروائي .
(18)محمد بو عزة : السابق , ص83
(19)أميمة الخميس : السابق , ص 16
(20)أميمة الخميس : السابق , ص54
(21)أميمة الخميس : السابق , 107
(22)أميمة الخميس : السابق , ص113
(23)محمد بو عزة : السابق , ص78
(24)ميشال بوتور : بحوث في الرواية الجديدة , منشورات عويدات , ط1, 1986, ص35
(25)رولان بارت : النقد البنيوي للحكاية , ترجمة أنطوان أبو زيد , دار سوشبرس , الدار البيضاء , ط1 , 1988 , ص95
(26)ميشال بوتور : السابق , ص34
(27)رولان بارت : السابق, ص15
(28)أميمة الخميس : السابق, ص176
(29)أميمة الخميس : السابق, ص93
(30)أميمة الخميس: السابق, ص34
(31)أميمة الخميس : السابق, ص100
(32)أميمة الخميس: السابق ,ص191
(33)أميمة الخميس : السابق, ص116
(34)أميمة الخميسي : السابق, ص246
(35)أميمة الخميس : السابق , ص48
للكاتبة أميمة الخميس
تستمد اللغة وجودها في الإطارين الإبداعي والنقدي, من كونها المادة الخام , التي يتشكل منها العمل الإبداعي أو النقدي , واللغة - في ذلك السياق - هي التي تشكل من خلال تراصفها الخاص النصوص الإبداعية , سواء كانت شعرية أم نثرية , وهي التي تولد سماتها الجمالية والفنية
وإذا كان الحديث السابق حديثا عاما يرتبط بالتجليات الأدبية العديدة , التي تظهر في أدبنا العربي على مر عصوره ومراحله , فإن الحديث عن لغة الرواية بصفة خاصة , له مبرراته العلمية والنقدية , خاصة بعد أن تغير الإبداع الروائي بالتدريج , ولم يعد كتاب الرواية يهتمون اهتماما خاصا بعناصر الرواية الأخرى , فلم يعد للشخصية كما يقول -عبد الملك مرتاض - تلك الامتيازات الفنية , التي كانت تتمتع بها طوال القرن التاسع عشر , وطوال النصف الأول من القرن العشرين ( ..... ), إنه لم يبق للرواية شئ غير جمال لغتها وأناقة نسجها) (1)
فاللغة - في الأساس - قد تكون أروع ما في الرواية , وأقدر عناصرها على الإدهاش والإثارة , وهي - في الوقت ذاته - أقدر هذه العناصر على تجسيد البنية الدلالية , بالإضافة إلى أن العناصر الأخرى المكونة للعمل الروائي , لا يمكن أن يكون لها وجود فعال إلا من خلال اللغة , ( فباللغة تنطق الشخصيات , وتتكشف الأحداث , وتتضح البيئة , ويتعرف القارئ على طبيعة التجربة التي يعبر الكاتب ) ( 2)
إن لغة الرواية لها تأثير فعال في تشكيل العناصر الأخرى , المكونة للرواية , فمن خلال اللغة التي تمس كل العناصر المكونة للعمل الأدبي , تصبح الرواية جنسا أدبيا , ومن ثم كان اختيار هذا المدخل لدراسة رواية (البحريات) للكاتبة أميمة الخميس , واختيار هذا المدخل المهم من وجهة نظر الباحث , لا ينفي وجود مداخل أخرى , ذات أهمية في تلقي ذلك العمل , ولكن هذه المداخل لا يمكن اصطياد وجودها إلا من خلال الاعتماد على اللغة .
وربما كانت أهم المداخل الأخرى الواضحة للقارئ , تتمثل في المقارنة بين نسقين يسيران بشكل متواز , لا يلتقيان إلا من خلال فقد واكتساب منطلقات أو تكوينات جديدة ناتجة عن الفعل والانفعال بين هذين النسقين .
النسق الأول الصحراء بناسها وقانونها الخاص , والنسق الأخير يتمثل في البحريات , بالرغم من اختلاف كل واحدة عن الأخرى , في مساحات التكيف أو التيبس , فمنهن من ظلت بعيدة عن الانزواء داخل ذلك الإطار المستكين الوقور مثل بهيجة , التي تقول عنها الرواية في الصفحة ( 260 )( نتحت وطرحت وملأت الحديقة بعبق شذاها , ولكن بهيجة ظلت خلف السور الخارجي لم تدخل , ولم يؤذن لها بالدخول , إلي أن أعلن الجسد فجأة رفضه الاستمرار) ( 3)
إن هذين النسقين , اللذين تكشف عنهما الرواية , يتجليان في دراسات عديدة , ترتبط بجدل الأنا المؤسسة في سياقاتها العديدة بالآخر , والآخر في ذلك السياق- كما يقول حسن النعمى - هو الذي يخرج عن تكويننا الاجتماعي بكل ما يجمعه من الأطياف الاجتماعية المختلفة , وبما يحظي به الأفراد في سياقه من هوية ونمط عيش وموقع حضاري يميزهم سواء عن محيطهم العربي أو العالمي ) ( 4)
فالنسق المؤسس بتجلياته العديدة , يمارس سطوة , ترتبط بأعراف وتقاليد , وهذا النسق يتجلى في الرواية من خلال شخصيات فاعلة , تحاول أن تظل الحال على سكونها المعهود , دون تأثير واضح من البحريات اللواتي يحملن قيما مغايرة , وربما تكون أم صالح - في ذلك السياق - الشخصية الفاعلة , بوصفها تقف على الأعراف , بين عالمين : عالم الرجال وعالم النساء , ومنهن البحريات , تشير الرواية إلى هذا النسق السلطوي ( كان عليها أن تبقى العالم من حولها على هذه السمة الحادة القاطعة بين الحدود ,وإلا فستتداخل الألوان , وسينهار كل شئ من حولها , في بيت ملئ بالجواري والشاميات الماجنات) ( 5 )
هذا النسق المؤسس , يقابله - بالضرورة - نسق آخر , يتمثل في البحريات , اللواتي جئن ولهن رصيد مغاير, ينم في تجلياته العديدة عن الحركة وعدم الثبات , وربما تبدو بهيجة بمالها من مساحة واسعة في الرواية رمزا مهما في ذلك السياق , وهذا لا يأتي فقط من المساحة الواسعة لها في الرواية , وإنما لأنها لم تستسلم للنسق المؤسس , وظلت على تكوينها الخاص , بعراكها , وبمساعدة شخصيات نسائية جاءت من خارج النسق المؤسس , مثل إنجريد ورحاب .
وفي ذلك الإطار ظل الوصف اللغوي ( الفاقعة) ملازما لها على مدار صفحات الرواية من البداية إلى النهاية , فهي لم تمتزج مع النسيج في خلفية المشهد ( ينشغلن بمهرجان الألوان التي تشعلها الشامية ( بهيجة ) , تظل أم زوجها تشير لها بطرف خفي أن تصمت , أو تخفض صوتها , أن تمتزج مع النسيج في خلفية الغرفة , ولكن بهيجة تصمت لحظات , ومن ثم لا تلبث أن تشهق كسمكة ملونة وقعت على كثيب رملي ) (6)
رواية ( البحريات ) من خلال بنيتها اللغوية الخاصة تشير إلى هذين النسقين من خلال الألفاظ المفردة , المقدمة لوصف كل نسق على حدة , مثل صفة الفاقعة , التي ظلت لصيقة ببهيجة من لحظة قدومها , ولحظة موتها ,وحتى في حزنها, وهي صفة كاشفة عن أعماق الشخصية , التي تحمل الأفكار والرؤى , والتي يحاول الكاتب طرحها . فالكلمة المفردة _ كما يقول باختين- في كتابه ( الماركسية وفلسفة اللغة )( تتكشف كل كلمة كما نعلم حلبة مصغرة تتقاطع فيها وتتصارع لهجات اجتماعية ذات توجه متناقض , تستبين الكلمة في فم الفرد نتاجا للتفاعل الحي للقوي الاجتماعية ) ( 7)
وفي إطار ذلك الفهم نجد أن الأوصاف الدالة المقدمة ( للبحريات ), لها صفة السيادة والشيوع في النص الروائي , وذلك لأنهن يمثلن النسق المجلوب , الذي يجب عليه أن يقاتل , ليثبت مشروعية نسقه المقموع , ويبرهن على قيمة وجوده , في إطار سيادة نسق له صفة الهيمنة , ويحكم على المغاير والمتحرك داخل أفق خاص أحكاما جاهزة .
اللغة المحكية
إذا تحركنا خطوة قد تكون أكبر من الكلمة المفردة التي تصف كل نسق على حدة , فإن القارئ للرواية سوف يدرك أن اللغة المحكية في الرواية , التي جاءت بوصفها بديلا عن الحوار , جاءت للكشف عن طبيعة كل نسق للآخر , وكاشفة عن طبيعة كل شخصية .
إن اللغة المحكية , التي ينقلها السارد , ويقدمها على لسان الشخصيات - وإن كانت موجودة ومطروقة من قبل , لأنها وثيقة الصلة بالأمثال والعبارات الدارجة على ألسنة الناس - تقدم في الرواية وفق منظومة جمالية تنقل التركيب اللغوي من سياقاته المتواترة لتدخله في سياقات جديدة .
اللغة المحكية في الرواية على لسان الشخصيات , تكشف عن طبيعة الشخصية في إطار صراعها لتثبيت منطقها , وربما تكون النماذج المحكية على لسان ( أم صالح) عن (بهيجة) كاشفة عن ذلك الصراع , بداية من الاختلاف الشكلي أو الجسدي , فأم صالح - كما أشارت الرواية - تنتمي إلى آل مبطي , وبهم صفة القصر , ومن ثم كان التبرم واضحا في نص الرواية ( وقالت لها وهي تدفعها بعد أن انتهت من شبرها (ابعدي كراعينك الطويلة بتكلفنا زود قماش ياها الحمراء ) .
إن النسق المؤسس الذي تمثله ( أم صالح ) , لديه تبرم جاهز من المختلف والمغاير شكلا , وقد كان الإلحاح في النموذج السابق على سمتين أساسيتين , لا توجدان فيها . غير أن هذا النسق لا يستند - فقط - إلى المغايرة الشكلية , وإنما ينطلق - في بعض الأحيان - في نقده للآخر من المغايرة في الحركة والسلوك , يتجلي ذلك في خطابها البهيجة حين تظهر قربها لزوجها في حضورها , فأم صالح تصف بهيجة ( بالخبلة المشفوحة ) أو قولها ( اجلسي يالمهبوله اركدى) ( 9)
ويستند أصحاب هذا النسق إلى سلطة دينية , يتوهمون من خلال الاتكاء عليها أنها تمنحهم حق وصف الآخرين بالكفر , مثل حديث أم صالح إلى بهيجة ( قومي صلي لا ربي يعاقبنا بسببك , الشر يعم والخير يخص , أنا أدري وين يجيبون لنا ها الكافرات , حسبي الله ونعم الوكيل يا شامية إبليس) ( 10 )
إن النماذج الثلاثة السابقة , التي جاءت على لسان أم صالح , تكشف عن رؤية خاصة للنسق المقابل , وفق محددات أساسية ترتبط بالمغايرة الشكلية , والمغايرة في الأعراف في التعامل مع الزوج , وإن كانت - في الحقيقة- تكشف عن رغبة في التملك الموزع بين الأم والزوجة , وترتبط - أيضا - بالمغايرة في الالتزام الديني .
واللغة المحكية على النسق الآخر المهموم بإسدال نوع من الخصوصية لم تظهر في الرواية بشكل واضح , وذلك لأن أصحاب هذا النسق من النساء لم يكن مهمومات بإظهار قدراتهن بشكل جلي وصريح , وإنما كان همهن الأساسي مرتبطا في البداية ببناء إطار حام من السهام , وخلق ملامح خصوصية تتيح لهن حرية الحركة , وتخلق لوجودهن شرعية , وإذا تأسس لهن ذلك , فإنهن يلقين السلاح, ولا يقمن بأي محاولة لمساعدة الأخريات , في بداية مرورهن بالتجربة , كما فعلت بهيجة مع سعاد , يتجلى ذلك في قول بهيجة , بعد أن أصبح لها مكان مستقر , واتخذت علاقاتها مع الصحراء شكلا مستقرا تقول لنفسها ( لن أثقل هذه الأرض البكر المحررة للتو بشامية أخرى أبررها لهم , كما ظللت أبرر نفسي طوال العشرين عاما الماضية ) ( 11)
إن قيمة اللغة المحكية تتمثل في لغات عديدة تتعدد بتعدد الشخصيات الموجودة في الرواية , وهذا التعدد يكون كفيلا بكشف المعالم الخاصة للشخصية , والكشف عن التوجهات التي قد تكون متشابهة , يتجلي ذلك في قول ( أم رحاب ) عن ابنتها ( مثل الأطرميز لا خصر ولا (.....) , أو قول ( أم علي ) ( بنتك اللي حدفت نفسها عليه ......)
واللافت للنظر في هذه الرواية إن اللغة المحكية التي جاءت على لسان أم صالح أو بهيجة أو أم رحاب الفلسطينية أو أم علي , كلها ترتبط باللغة العامية , وثيقة الصلة بالمثل والمعهود والمتداول والمتواتر على ألسنة العامة , وهذا يشير إلي أن اللغة المحكية ترتبط على نحو فاعل بالمحيط الاجتماعي وبالتكوين الثقافي .
يظهر لنا ذلك حين نعاين نمطا مختلفا من هذه اللغة على لسان شخصية أخرى , جاءت - في الأساس - مرتبطة بلحظة التحول , حيث خلعت مدينة الرياض ثيابها القديمة , وارتدت حلة جديدة , ومن ثم فهذه الشخصية تقدم بدون ماض يمكن أن يكون كاشفا عن طبيعة تكوينها .
فاللغة المحكية التي قدمتها الرواية لمتعب تكشف عن نمط خاص من الشخصيات , بل يمثل شريحة خاصة , لها أراؤها , ووجهة نظرها في الحياة , تقول الرواية على لسان متعب (لا أتمني شيئا على الإطلاق , الأمنية في العشق تخنقه تحت سقف الشرعية الممطرة وسيذبل ويموت , دعيه في مراعي السافانا زرافة حرة منفلتة ومحاصرة بالوحوش ) (12)
إن اللغة -هنا - لغة مختلفة لارتباطها بشخصية لها منطق مختلف ونمط ثقافي خاص , يؤيد ذلك أن الشخصية المخاطبة ( سعاد ) لم تفهم الكلام فهما تاما ( بالرغم من تكوينها الثقافي المنفتح علي قراءة روايات عديدة ), فالأمنية في العشق من وجهة نظرها ضرورية لاستمرار الحياة , لأنها - في ذلك السياق - تشكل أملا أو سلطة نموذج متخيل , يعطي الانحناء تجاهها شرعية , ولكن الأمنية - من وجهة نظره - تدخل العشق - ولو من طرف خفي - حيز الشرعية , التي تقتله , فهو يريده -وفق تكوينه الخاص - منفلتا من القيود والأعراف والتقاليد .
إن متعب من خلال اللغة المحكية , التي حملت وجهة نظره إلى المتلقي يتجذر في إطار شريحة معينة , تنظر للأمور نظرة آنية دون ارتباط بالماضي أو نحت في القادم , بل تحاول الانسلاخ من التراث القديم , وتؤسس سياقا لوجهتها الآنية , وهي نظرة تخالف السائد والمقرر والمؤسس , ولا تقف عند حدوده , بل تتخطى ذلك للتبرم على تقاليد دينية , يتجلى ذلك حين يرد على سؤال سعاد : لماذا لا نرى تماثيل في مدينة الرياض مثل تمثال صلاح الدين في سوريا ( فقال لها وهو ينفخ من أنفه ساخطا أفففففف , التماثيل ممنوعة هنا , وقال متهكما : يخشون أن يعاود الناس عبادتها , تخيلي العالم يتجه إلى اللادينية , وربعنا يخشون العودة إلى عبادة الأصنام ) (13)
فهذه اللغة تكشف عن تبرم خاص بالسائد , ومحاولة للخروج عنه , والتحليق بعيدا عن هذا السائد , وذلك لتجذره ثقافيا في إطار نسق مغاير , يحاول الانفلات من لحظة ماضية , والنمو في سياق جديد , يكشف عن وجهة نظر مغايرة تمس كل المستويات , بما فيها ردة الفعل تجاه المواقف التي تمر بها شخصيات الرواية , فالانسحاب الذي قامت به (سعاد ) , من عزاء أم زوجها ( سعد ) , كان له فيه رأى مغاير , يكشف عن نظرة برجماتية وثيقة الصلة بهذه الشريحة التي يمثلها متعب .
لغة الرواية بين المجاز ومنطق السرد :
القارئ لرواية( البحريات) , يدرك أن اللغة التي كتبت بها الرواية , من أهم السمات الخاصة بالرواية , بالإضافة إلى السرد والبنية الزمنية والفضاء الروائي والشخصيات , واللغة -فوق ذلك- تسهم في تشكيل العناصر الأخرى , التي تبني عليها الرسالة الإبداعية في الرواية ,والرواية - في ذلك السياق - تشكيل لغوي متعدد التقنيات والأساليب , ولا يمكن حصره في إطار اللغة الغيرية أو المحكية , التي توقفنا عندها في الجزئية السابقة , ومن ثم تطرح أمام الباحث - كما يقول محمد بو عزة - مهمة الصياغة النظرية والمفاهيمية لمعالجة المستويات اللغوية الأخرى ) (14)
وربما تكون مقاربة اللغة الروائية من أصعب الجزئيات التي يمكن أن يتوجه إليها الباحث , وذلك لأن قارئ الرواية يشعر بجمال العمل الروائي لحظة القراءة , ولكن مقاربة اللغة بعد ذلك تعد شيئا صعبا , لأن الباحث يكون موزعا بين اختيار الطريق السهل , حيث يتعامل مع لغة الرواية , على أنها شبيهة تماما بلغة الشعر , ومن ثم يتوقف أمام الجزئيات الصورية الجزئية , وبين ارتياد الطريق الأصعب , وذلك من خلال تناول لغة الرواية , بوصفها فنا له جمالياته المائزة الخاصة , ولذا فهي تحتاج إلى مقاربة خاصة مغايرة لمقاربة لغة الشعر, والمتأمل لبعض البحوث التي قدمت في ذلك السياق , يدرك أن هناك بحوثا اتخذت الطريق السهل سبيلا , منطلقة في الأساس من إن الروائي يستخدم في سرده السرد التصويري والخبري , ليشكل نسيجا سرديا , بحيث يحدث تحول -كما يقول أحد الباحثين - في لغة الرواية , من كونها وسيلة للتبليغ المباشر إلى نظام وظيفته التبليغ غير المباشر , وهو ما يسميه الدارس الوظيفة الجمالية اللغة ) ( 15 )
وفي إطار ذلك التوجه, نجد في هذه الدراسات حديثا عن اللغة السردية التجسيدية , وهي - في تعريف بعض الباحثين - اللغة التي تعتمد على التصوير الاستعارى واستخدام الألفاظ والرموز الموحية المتعددة الدلالات , واللغة النابضة بالإيقاع والتلوين البياني , والبديعي مع استثمار اللغة الشعرية الإيحائية, بقصد خلق الوظيفة الشعرية والجمالية ) ( 16 )
إن الاتجاه السابق الذي يضع في اعتباره تشابه مقاربة لغة الرواية بلغة الشعر , يقابله اتجاه آخر , يحاول أن يتعاظم على هذا التشابه , وينطلق من خصوصية بنية الرواية , وأصحاب هذا الاتجاه ينطلقون من مبدأ مهم , هو أنه ليس مقبولا أن يتعامل الناقد مع الرواية على أنها قصيدة شعرية , ويقف عند التشبيه والمجاز والصورة , والدلالات الجزئية الناتجة عنها , يقول أحد الباحثين مشيرا إلى التوجه السابق (هناك من كان يدرسها من خلال مقاربة بلاغية تقليدية تركز على الصور الشعرية من تشبيه ومجاز واستعارة وكناية ورصد للمحسنات البديعية ومواصفات اللغة كالرصانة والجزالة والليونة , وكانت هذه المقاربة البلاغية تسقط مفاهيم البلاغة الشعرية على الرواية دون مراعاة خصائصها النوعية والتجنيسية , وبنائها التعبيري المعقد , وطاقته البلاغية واللغوية والتراكبية ) ( 17)
وأصحاب هذا الاتجاه لا ينفون أن الرواية تستعير بعض خصائص اللغة الشعرية , وإنما ينفون المطابقة أو المماثلة بين لغة الشعر ولغة الرواية , وهذا - بالضرورة - يستدعي مقاربة مغايرة , لأن الرواية حين تستعير هذه الخصائص الشعرية , لا تستخدمها بالطريقة التي يستخدمها الشعر , وإنما توظفها وفق آلياتها السردية القائمة على البناء الممتد من البداية إلى النهاية ,وفي ذلك السياق تقل قيمة الصور الجزئية أو المجهرية , لأن الاهتمام الأساسي يرتبط بالبناء العام , فالرواية - في رأي محمد بو عزة - لا تؤسس شعريتها ضمن عملية اقتراضها للأدوات والوسائل الخاصة بأدبية الشعر , بل تكون شعرية من حيث هي تشكيل لغوي يعبر بالسرد عن عوالم تخيلية معقدة , ولا يتوقف الإشكال عند حدود استعارة الرواية لتقنيات الشعر , بل يتجاوز هذا التصور الاختزالي إلى التساؤل عن كيفية الخطاب الشعري في النص الروائي , كيف تشتغل هذه التقنيات من بلاغة الشعر إلى بلاغة الرواية ) ( 18)
إذا حاولنا أن نقف عند الصورة الروائية الجزئية في رواية البحريات , فإن القارئ سوف يدرك من الصفحة الأولي أن لغة الرواية من بدايتها إلى نهايتها مملوءة بهذه الصور الجزئية , ولكن القارئ سيشعر - أيضا - أنه ليس هناك إحساس بالخروج المتعمد لأنساق لغوية خاصة , والسبب في ذلك - فيما أعتقد - يعود إلى أن الكاتبة في بنائها للإطار المعرفي الخاص , الذي يشير إلى نسقين بينهما صراع يشتد وينخفض , وقد يكون ظاهرا أو متواريا , مارست نوعا من الكتابة السردية , التي تشكل طبقات متجاورة أو متجاوبة , بنيت فوق بعضها , وعلى هذا الإساس فالصورة الروائية في أي صفحة من صفحات الرواية , لا تومض دلاليا في فراغ , وإنما يتم تلقيها داخل نسق عام متنام من البداية , ولذلك لا يشعر القارئ أنه في حاجة إلى وقفة خاصة لاستبيان دلالتها , انطلاقا مما تم إنجازه في صفحات سابقة .
فحين تقول الرواية عن ( بهيجة ) (روح بهيجة تفضي إلى ساحة , الساحة تتوسطها نافورة , النافورة تثرثر طوال الليل بأحاديث الماء , وقصص وحكايات تنثرها كفراشات انطلقت من شرنقتها للتو ) (19)
لا نتوقف - بالضرورة - أمام الصور المجهرية ,لأن هذه الصور المجهرية , تبنى على جزئيات سابقة , ويتكون البناء بالتدريج لإعطاء صورة لبهيجة , فصورة بهيجة من بداية الرواية جاءت بوصفها نسقا مغايرا,فهي تختلف عن مثيلاتها في النسق المؤسس , مثل ( موضي ) وأخريات بالضرورة , ومن ثم فإن هذه الصور الجزئية تتجاوب مع صور سابقة , لتشكيل ملامح الشخصية , وتظل هذه الصور الجزئية في انفتاح دائم للإضافة في صفحات قادمة من الرواية .
وإذا كان الجزء المقتبس السابق يشير إلى الحركة وعدم الثبات , فإن الرواية في جزئيات كثيرة استندت إلى الصور المجهرية , لإعطاء خصوصية تكوينية لشخصيات في النسق المقابل ( أم صالح ) , تقول الرواية ( بركة مياهها رائقة آسنة فإذا وقع فيها حجر ما ....... اتسعت دوائرها وتكثفت , وظلت تتكلم في الموضوع لأيام طويلة , وتعيده بنفس الجمل مع تغيير طفيف ببعض العبارات ) ( 20)
فإذا كانت الحركة في الجزء السابق الخاص ببهيجة هي العنصر الفاعل , فإن الفاعلية هنا في تصوير أم صالح تأتي مرتبطة بالثبات من خلال البركة الساكنة , التي لا تقوم بفاعلية , وإنما تنفعل بمؤثر خارجي , وهذه الصورة الجزئية تتجاوب مع صور قدمت سابقا ( لأم صالح ) , بحيث تأتي نموذجا محافظا , يأنف من التغيير , ويختبره مرات عديدة , قبل الارتباط به .
إن النماذج الدالة على استخدام الصور المجهرية , بوصفها بنيات صغري تتشكل وفق بناء عام في نص الرواية كثيرة جدا , ولكن القارئ قد لا يشعر بهذه الصور بشكل لافت , لأن اللغة الساردة المهمومة ببناء إطار فكري , شكلت من خلال طبقات وجزئيات متجاوبة فيما بينها لتشكل حدودا وأفقا لكل شخصية , غير أنه في بعض النماذج الصورية الموجودة في الرواية , نشعر أن هناك محاولة لبناء ملامح رمزية فالرواية تصور ( رحاب في رحلتها إلى الرياض ) من خلال قولها (كان قلبها ما برح يمارس لعبته الصبيانية معها بشكل أحنقها , كانت تود أن تمسكه من شعره , وتلجمه في مقعد أو تخفيه , بإحدى خزانات الطائرة , كانت تعلم بأن مسايرته في قصته الصبيانية ستؤدى بها إلى منحدر الوحشه , كأنها أم استيقظت من آلام مخاض طويلة مهلكة , ليخبروها أن الوليد قد مات ) (21)
فالصورة السابقة تشير إلى القلب أو الحب أو الطفل , وهي صورة مؤسسة لدى شعراء الخمسينيات , وهي - كذلك - لا تنطلق دلاليا في فراغ , وإنما مرتبطة بجزئيات صورية سابقة , فالسفر من بيروت إلى الرياض لم يكن إلا هروبا من حب فاشل , لا تتكون له ملامح يقينية إلا من خلال الانتظار ( لعلي ) , الذي سافر إلي أمريكا ولم يعد .
إن هذه الصورة المجهرية تمثل حلقة أو طبقة ثانية , تتجاوب مع طبقة سابقة , ومنفتحة على طبقة أخيرة في تشكيل ملامح الحكاية , الحكاية البسيطة التي شكل الانتظار ملامحها وأوجد لها إطارا خاصا , تقول الرواية ( لتجد في النهاية أن حكايتها مع علي مخلوق له رأس صغير , وذيل طويل جدا , مصنوع من قطن المخيلة )(22)
لقد كان تناول الصور المجهرية والجزئية مرتبطا في الأساس بشيئين , هما : محاولة ربط هذه الصور المجهرية بطبقات سردية سابقة ولاحقه , مما يخرجها عن سمة الجزئية ويلحقها بالبناء العام للرواية , والأخير يتمثل في جعل دلالة هذه الصور مرتبطة بحركة المعني النامية في النص , وبالإطار المعرفي .
وربما كان هذا المدخل الخاص في دراسة الصور المجهرية والجزئية , من خلال وضعها في إطار سردي عام , مدخلا مهما , لدراسة لغة الرواية من وجهة نظر مختلفة , ترتبط بالاتجاه الثاني , الذي أشرنا إليه سابقا , بحيث يكون الحكم على لغة الرواية , لا ينطلق من بنيات جزئية , يمكن أن تنتج - إذا تم الاستناد إليها - مقاربة تتصف بالثبات مع كل الروايات , من خلال لغة فضفاضة , تصلح لمقاربة كل الروايات , وإنما ينطلق - كما يقول أحد الباحثين - من خلال محاولة تأسيس بلاغة سردية تصوغ أدواتها من سجل الجنس الروائي ومعماريته النصية ) ( 23)
والبحث عن بلاغة خاصة للغة الرواية , يتم وفق مبدأ مهم , هو أن الصور الجزئية , في أي نص سواء أكان سرديا أم شعريا , لا تحمل وجودا منفصلا قائما بذاته , وإنما توجد في إطار عام يكيف دلالاتها , وتكتسب قيمتها من الإطار الروائي العام , خاصة إذا أدركنا أن الأسلوب - كما يقول ميشال بوتور- لا يقوم بالطريقة التي نختار بها الألفاظ في الجملة فحسب , بل بالطريقة التي تتناسق بها الجمل الواحدة تلو الأخرى , والمقاطع والفصول , وعلى جميع مستويات هذا البناء الضخم , الذي هو الرواية ) (24)
وإذا كان السرد - كما يقول بارت - يشترك بنيانيا مع الجملة دون أن يحصر ذاته بعدد من الجمل ( 25) فإن الرواية لا تكون شعرية بالمقاطع فحسب , بل بمجموعها , ونحن نعلم أن هذه المقاطع التي نعتبرها لأول وهلة شعرية عند كبار الروائيين أمثال بلزاك , وستندال ودوستوفسكي , لهي مرتبطة ارتباطا وثيقا بغيرها من المقاطع , وإذا فصلت عنها فقدت الكثير من شعريتها ) ( 26)
إن التوجه السابق في الحديث عن لغة الرواية , الذي يحاول مقاربة الرواية , كبناء كلي في إطار خصوصية اللغة , يحاول الكشف عن منطق خاص للغة السرد , وهذا المنطق الخاص ليس ثابتا وإنما متغير من رواية إلى أخري , بحيث يشكل سمة فاعلة تؤدي دورها في تشييد البناء السردي , وتكون لبنة أساسية في نمو السرد وفق توجهات خاصة , وذلك من خلال استراتيجية توجيه القارئ , التي تسمح بإقامة عملية الإبلاغ , من خلال استراتيجية تمكن من المحافظة علي هذه العملية , وتسويغ التحرك الخاص نحو الحديث .
في رواية البحريات نجد أن المنطق السردي , أو لنقل بتعبير - قد يكون أكثر صحة -أن الجزئية أو الآلية الفاعلة تتمثل في الجزئيات الخاصة التي تقدم في النص السردي بوصفها بترا أو تكييفا لحركة السرد , أو عتبة داخلية, تبدأ الرواية منها الرحلة السردية من لحظة الوقوف أو الصمت إلى لحظة الحركة أو الكلام .
والمتأمل لهذه الجزئية , يدرك أنها تكررت كثيرا بشكل فاعل في الرواية , وهي آلية لا علاقة لها بالمقاطع أو الفصول , وإنما لها علاقة أساسية بحركة المعني في النص السردي , وبحركة الشخصية نحو توجه خاص , ويبدو أن لها علاقة - أيضا - بالموقف الانفعالي الذي أشار إليه بارت في قوله (لا يستطيع أحد أن يكتب دون أن يتخذ موقفا انفعاليا مهما بلغ تجرد الرسالة الظاهر ) (27)
كيف يمكن تحديد هذه العتبة الداخلية أو التكييف السردي أو البتر السردي , الذي يحمل في طياته خبرة سردية ومعرفية حياتية ؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تنطلق مما يمكن أن نسمية لحظة الانغلاق أو الوقوف أو الكسر , ثم التحرك بعد ذلك لا ستئناف الحركة السردية النامية في النص .
إن معاينة النماذج الموجودة في رواية البحريات , التي يمكن أن تكون عتبات داخلية , يكشف عن أن وظائفها الدلالية تتعدد وتنمو في مناح عديدة , ولكن يمكن إجمال هذه الوظائف الدلالية فيما يلي :
الإخبارية :
هي تلك الجزئيات التي تأتي في النص الروائي , والتي تضع المتلقي في فضاء الرواية زمانيا أو مكانيا, بحيث تشكل هذه الجزئيات الإخبارية إطارا مهما , بحيث يستطيع المتلقي من خلال الإلمام بهذه الجزئيات أن يكون واعيا بالسياق الحضاري للرواية , مثل جزئية ( في الشتاء تهب رياح شمالية جافة أربعين يوما على نجد تسمي المربعانية ....)(28)
ولكن هذا الإخبار الذي يجعل المتلقي داخلا في فضاء الرواية يعد مهما , لأن هذا الإخبار كان مهما في وجود حركة النزول من ( بهيجة ) , ورؤيتها ( لسعد ) واكتشاف بلله بالماء , ومن ثم يظل هذا الخيط ممتدا حتى حادثة الضبع الشهيرة , حيث تشممها في ليلة من الليالي .
فالإخبار له وظيفة دلالية في الأساس , ولكن هذا الإخبار يظل فاعلا , طالما نظرنا إليه في سياقه السردي , ومن ثم تتمدد هذه الخيوط الإخبارية , لتظل شرايين فاعلة في البناء السردي .
إن بعض هذه النماذج الإخبارية , لها مرتكزات سياسية , وإن كانت لا تخلو من إحالات زمنية , فحين تقول الرواية (تحدق بالعرش السعودي كثير من التيارات الثورية , التي كانت تموج في العالم العربي , وأدت إلى سقوط كثير من الملكيات آنذاك , لذا كانت المعركة آنذاك معركة وجود لامجال فيها للتسامح .... أو غض النظر , وكانت الحياة السياسية مغطاة بشبكة اسخباراتية محكمة , من يقع في براثنها يدفع ثمنا غاليا ) (29) لا يستطيع المتلقي أن ينكر أن هذا البتر الجزئي وثيق الصلة بشخصية ( سعد ) , الذي ظل يقرأ كتب الثوريين العرب دون فهم حقيقي , لأن هذا النسق الحياتي , الذي يجعله يتكلم في السياسة في حالة سكره يغطي علي فشله في إطار مستويات عديدة .
التنميطية
وهي الوظيفة الأكثر وجودا في نص الرواية لهذه العتبات الداخلية , لأن هذا التنميط وثيق الصلة بالإطار المعرفي الخاص بالرواية , فالنمط في الرواية نسق مكتمل , يكون وجوده بالتدريج من خلال ظواهر وأعراف وتقاليد , وهذه الأعراف والتقاليد , تقوم مقام العقيدة في النسق المؤسس بحدوده , والذي لا يقبل بسهولة السماح للغرباء بالدخول إليه .
يتجلى هذا في نماذج عديدة في نص الرواية , تقول ( توزيع الفطرة بعد عيد رمضان وذبح الخراف في عيد الأضحى تصنعه ببرتكول سري واتفاق خفي , تؤسس لنظامها الاجتماعي الصلب , الذي يصعب على الغرباء فك رموزه , نظام المجد مملكة مستقلة , كاملة الحدود والمعالم ) ( 30)
فالجزئية السابقة تشير إلى نسق خاص , لا يسمح للغرباء بالدخول إليه , وربما تكون هذه الجزئية - أيضا - بداية لتكوين نمط مقابل غير مؤسس بالاندماج , يرتبط بوضع ( البحريات ) , اللواتي ظللن بلا عمل حقيقي , وكأن الدخول أو المشاركة , يعد إيذانا بالاندماج في النمط المؤسس .
ومن خلال جزئيات أخري تتشكل طبيعة النمط , الذي لا يتجلى بوجه واحد , وإنما بوجوه عديدة , ولذا نجد الرواية - حتى يتم لها إطار مكتمل- تلح على بعض الجزئيات التي يمكن أن تكون فاعلة في تشكيل ملامح هذا النمط , مثل الإشارة إلى طبيعة التجار في جزئية من هذه الجزئيات , في قولها (في بيوت التجار عادة لا تحدث كثير من الثورات أو الهزات, ليس هناك استجابة لنبض التغير الكوني , فالسائد والمطمئن للمألوف , يضمن لهم دروبا تجارية آمنة سالكة , وبضائع , تصل في مواقيتها , وسوقا مزدهرة منتعشة .... كما أن أمعاءهم الغليظة والدقيقة ممتلئة , وبيوتهم متسعة دائما والمستودعات وافرة , ليس هناك من حاجة لفتح هذه البوابة , التي قد يدخل منها الشيطان , يحمل في أعطافه شرا عظيما ) ( 31)
فالإشارة إلى التجار وطبيعتهم المرتبطة بالتدثر بالسكون والثبات , وتمحيص الشئ قبل الدخول إليه , تعتبر عتبة أو مدخلا مهما للإشارة إلى موقفهم الخاص من قضية تعليم البنات في تلك الفترة الزمنية , وهذا التمحيص أو الانتظار حتى تسفر التجربة عن نتيجة آمنة , لم يقف بالبناء السردي عند تلك الحدود , وإنما كان سببا في دخول رحاب - هي إحدى البحريات - إلى هذا الفضاء أو النسق المؤسس , حيث أنتج التمحيص والانتظار حركة في إطار مختلف , تتمثل في جلب مدرسة للبنات بالمنزل .
التبريرية أو التسويغية :
في بعض هذه العتبات الداخلية , التي تقطع السرد بشكل حذر , يمكن أن يجد المتلقي فيها تبريرا للحدث القادم , أو إشارة مسبقة له , فحين تتحدث الرواية بجملة سردية طويلة عن العباءة الخاصة بالمرأة في قولها (العباءة السوداء الحريرية, على الرغم من كونها تغطي الرأس والكتفين, ولكنها حين تنسدل على الجسم... تبرز تقاسيمه, والعين الرجالية , في الرياض مدربة على استكناه ظلام العباءة , وتحدي عتمتها وتقصي تضاريس الجمال من خلف العباءة ... العباءة تسلم الجسد الأنثوي إلى لهيب المخيلة , وهناك في تلك الأرض الشاسعة , يعاد إنشاؤه تارة أخرى رطبا لينا ومتحفزا يقطر عسلا ) (32 )
فهذه الجزئية تعد تبريرا للحدث السردي القادم,والذي يمتد ليشكل خيطا سرديا في بنية الرواية,وهو حدث ارتباط متعب بسعاد - البحرية الثالثة زوجة سعد – حيث أبصرها وهي تنزل من السيارة,ولم تكن بعد قد أتقنت لبس العباءة ,فكانت هذه الحادثة بداية لوجود خيط سردي مهم في نص الرواية .
إن هذه العتبات بوجودها في الإطار السردي , قد تأتي لتبرير الحدث , أو إشارة إلى ميلاد ذلك الخيط , أو قد تأتي لتبرير التوجه أو لتفسير الحركة المؤجلة من بعض الشخصيات , فحين تقول الرواية في إحدى عتباتها (الأنثى بعد الثلاثين تبدأ في إحراق المراكب , تبدأ كل سنة تمضي تتهاوي كمركب يترمد , ويغطس في القاع , تزداد وحشية المحيط , وتعتم زرقته , وتغادره نسماته الرطبة العليلة , فلا يبقى هناك في الأفق سوى أعاصير الظلام والوحشة , عندها قد يستيقظ ذلك الربان الشرس المقاتل , ذلك الذي يستبسل ويهدر في الأعماق , والذي يبرز عند المنعطفات الحالكة بمركبته النيرانية المجنونة ) ( 33)
هذه الجزئية تقدم بوصفها إشارة وثيقة الصلة برحاب , تلك الشخصية التي جاءت من الرياض هروبا من حب , لا يكون قسماته إلا الانتظار المنفتح على الخيال , ومن ثم فهذه العتبة ليست إلا إشارة إلى وجود تغيير داخلي , لم يستطع بعد أن يفتح شرنقته للخروج للارتباط بعمر الحضرمي بديلا عن علي , الذي كانت تأنف منه في البداية , والرواية في رصد هذا التحول , لم تقدمه بشكل قاطع , وإنما أخذ مراحل , تبدأ بالتغيير الداخلي المكتوم , وينتهي بالانفجار , كما سوف نرى في عتبات الوظيفة الانفعالية .
الانفعالية :
لا شك أن هذه الوظيفة موجودة في الوظائف السابقة , بشكل من الأشكال , فهذه العتبات وهذا البتر الجزئي , ليس معناه إلا حضورا للسارد , بما يحمله من خبرة معرفية وسردية وحياتية , وهذا يتطلب - بالضرورة - موقفا انفعاليا , ولكن الذي جعلنا نضعها في إطار منفصل هو حضور الضمير ( نا ) في هذه العتبات , مما يعني حضورا لفظيا من جهة , ومن جهة أخرى يعني تطابقا في وجهة النظر والتوجه ورؤية الأشياء, بل إلي درجة خاصة من التماهي .
وقد أشرنا - سابقا - في حديثنا عن الوظيفة التبريرية في الجزئية الخاصة (برحاب ) أن التغيير أو التحول لم يأت فجأة,وإنما مر بمرحلة التغيير الداخلي المكتوم,وبمرحلة الانفجار الهائل , تقول الرواية ( كثيرا ما نظن بأن قراراتنا الكبرى في الحياة تنبجس فجأة من أعماقنا دون سابق تخطيط أو تبرير , دون أن نخمن بأنها قطرات الأسئلة التي كانت تطرق أرواحنا وتراكمت , وصنعت ذلك الطوفان , الذي نظنه قرارا مفاجئا اندفق من الغيب ) ( 34)
فالرواية - من خلال هذه العتبة الداخلية - تشير إلى طبيعة الإنسان في إطار وضعه الحياتي الصعب , الذي يحاول الفكاك من أسر تجربة مطبقة , وهذا الفكاك لا يتم إلا بالبناء التدريجي في جانب , والهدم في جانب آخر , ويتم كل ذلك في حالة سكون خارجي وعراك داخلي مع الذات , فالأمر - لدي رحاب - أو التحول لديها لم يتم بشكل ينم عن الانفجار , كما تجلي في نهاية الرواية , وإنما تم بشكل مرحلي خاص .
إن هذه الوظيفة الانفعالية تشير- كما لا حظنا سابقا - إلى تماه خاص بين السارد والشخصية , وإن كانت تقدم في إطار شبه منفصل عن الخط السردي النامي , ومن ثم تقدم وجهة نظر تم الإتكاء على مشروعيتها من خلال هذا التطابق , فالمتأمل للنموذج الخاص ( بأم صالح ) , في أزمتها الخاصة , يشعر أن هذا التطابق المبني على خبرة معرفية موجود , تقول الرواية ( في تلك اللحظة التي نظن بها أنا حصلنا على ملامحنا المتماسكة الناضجة والنهائية , وغدونا أكثر سيطرة على أنفسنا ومحيطنا , ونبدأ بمشاريع كانت نائمة أو مؤجلة في قائمة الأحلام, تبدأ المرآة تعكس إشارات خبيثة وغير متوقعة , ويبدأ الصغار الذين شهدنا ولادتهم وحبوهم في الزواج والإنجاب , ونعرف بأن الوقت يأخذنا عن المقدمة , ويتقهقر بنا باتجاه الصفوف الخلفية ) (35)
هذه الأزمة الخاصة بأم صالح , والتي تجلت من خلال بتر سردي يرتبط بالسياق العام , أزمة إنسانية , ترتبط بعامل الزمن , الذي بمروره تزداد الخسارات الجسيمة , وكل هذه الخسارات كانت موجودة لديها , بداية من الزوجات المتعددة لزوجها , ومرورا بتفلت ابنها البكر من يديها وانحنائه إلى الشامية , وانتهاء بالتحول الخاص بكل السياقات التي كانت تحاول تثبيتها .
هذه الأزمة المملوءة بالخسارات , جعلتها , تتجه لتثبيت سلطتها في اتجاه آخر , يتمثل في دور الرقيب , في المسافة الفاصلة بين عالمين , كشفت عنهما الرواية بالتفصيل .
إن هذه العتبات الجزئية باختلاف وظائفها الدلالية , تجلت بشكل فاعل , وكشفت عن دور مهم , لأنها أسهمت في وجود إطارات أو خيوط سردية , شكلت في النهاية البناء السردي للرواية .
الهوامش
(1) عبد الملك مرتاض : في نظرية الرواية , عالم المعرفة , ديسمبر1998, ص116
(2) عبد الرحيم حمدان : اللغة في رواية تجليات الروح , مجلة الجامعة الإسلامية , مجلد 16 , عدد 2 , يونيو 2008 ,ص104
(3) أميمة الخميس : البحريات , دار المدى , سورية , 2006 , ص260
(4) حسن النعمي : مدخل إلى الآخر في الرواية السعودية , الراوي , مارس , 2008 , ص115
(5) أميمة الخميس : السابق , ص47
(6) أميمة الخميس : السابق ص87
(7) فيصل دراج: نظرية الرواية , المركز الثقافي العربي , ط2 , 2002 ,ص 66
(8) أميمة الخميس : السابق , الرواية , ص35
(9) أميمة الخميس : السابق , ص60
(10)أميمة الخميس : السابق ص36
(11)أميمة الخميس : الرواية , ص187
(12)أميمة الخميس : الرواية , ص223
(13)أميمية الخميس : الرواية , ص210
(14)محمد بو عزة : التشكيل اللغوي في الرواية , علامات سبتمبر 1999 , ص76
(15)مفيد نجم : شعرية اللغة وتجلياتها في الرواية العربية , نزوي عمان , عدد ( 51 ) ص32
(16)عبد الرحمن حمدان : السابق , ص120
(17)جميل حمداوى : اللغة في الخطاب الروائي .
(18)محمد بو عزة : السابق , ص83
(19)أميمة الخميس : السابق , ص 16
(20)أميمة الخميس : السابق , ص54
(21)أميمة الخميس : السابق , 107
(22)أميمة الخميس : السابق , ص113
(23)محمد بو عزة : السابق , ص78
(24)ميشال بوتور : بحوث في الرواية الجديدة , منشورات عويدات , ط1, 1986, ص35
(25)رولان بارت : النقد البنيوي للحكاية , ترجمة أنطوان أبو زيد , دار سوشبرس , الدار البيضاء , ط1 , 1988 , ص95
(26)ميشال بوتور : السابق , ص34
(27)رولان بارت : السابق, ص15
(28)أميمة الخميس : السابق, ص176
(29)أميمة الخميس : السابق, ص93
(30)أميمة الخميس: السابق, ص34
(31)أميمة الخميس : السابق, ص100
(32)أميمة الخميس: السابق ,ص191
(33)أميمة الخميس : السابق, ص116
(34)أميمة الخميسي : السابق, ص246
(35)أميمة الخميس : السابق , ص48
No comments:
Post a Comment