تحولات أمجد ناصر الشعرية
عادل ضرغام
يشكل الشاعر أمجد ناصر بإبداعه الشعري خطا شعريا خاصا, بعيدا عن شعرية قصيدة النثر, التي تجلت لدى روادها المعروفين, وربما كانت هذه الخصوصية ماثلة في جزئية هامة وأساسية, وهي أن أمجد ناصر بداية من ديوانه الأول (مديح لمقهى آخر), إلى ديوانه قبل الأخير (حياة كسرد متقطع ), لا يتوقف عند حدود مرحلة فكرية معينة, ينميها وينحتها بشكل خاص من تتابع دواوينه, وإنما نجده في كل ديوان – انطلاقا من فكرة الحزم الدلالية- واقفا عند حدود مرحلة فكرية خاصة, سرعان ما ينتقل إلى غيرها في ديوان تال, وهذه السمة ليست مهمة إلا إذا ارتبطت بأنساق أسلوبية يظل حضورها فاعلا مع اختلاف الذرى الفكرية التي ترتادها.
إن هذا التنوع في جانب المناحي الفكرية لشعريته, بالإضافة إلى وجود سمات أسلوبية لها حضور فاعل ومتجل في معظم دواوينه, هو الذي يجعل منه شاعرا تجريبيا بامتياز. وربما كانت السمة الفاعلة- والتي استمرت على مدار رحلته الشعرية- متمثلة في الوعي بسؤال الشعر, وماهيته, وأين يسكن, فالشعر أو الفن لا يظل في مكان واحد نظرا لديناميته, فهو تارة يسكن الموضوعي وفي الالتحام بالآخر, وتارة يسكن المهمشين والفقراء, وتارة نجده واضحا في الالتحام بالتاريخ ونماذجه المنكسرة, ففي ديوانه (مرتقى الأنفاس) نجده لا يستسلم بسهولة للتاريخ, وإنما يقدم وعيه الخاص بالفرد (أبو عبدالله الصغير), بعيدا عن الصورة التاريخية المؤسسة بالمراجع وكتب التاريخ الجاهزة.
وتأتي الصورة الشعرية – بوصفها أداة جاهزة للتفريق بين شاعر وآخر- مهمة في ذلك السياق, فصور أمجد ناصر لا تشبه صور مجايليه أو سابقيه, وإنما هي صور تنحت وجودها الخاص من تفردها, والتحامها بالبدوي والهامشي والإنساني في مداه الرحب, وصوره -في ذلك السياق- ليست صورا جزئية أو مجهرية مشدودة إلى نتوء أو بتر, وإنما مرتبطة بكيان أكبر يكيفها, وهذا الكيان الفكري الأكبر يجعل الوقوف عندها – بشكل منفرد بعيدا عن التوجه الفكري – وقوفا حذرا لا طائل منه, فالفاعلية الكبرى للسياق, الذي يعطيها قيمة ودلالة.
وربما كانت السمة السابقة – المرتبطة بالصورة – سببا في وجود سمة أخرى وأساسية, وهي التسليم التام أو الاحتماء بغابة الصور, التي تنمو تدريجيا داخل الإطار العام. وهذه الصور مشدودة إلى أطر فكرية, قد تكون بعيدة للوهلة الأولي, لأنها لا تنمو على منطق واقعي, وإنما تنمو في إطارمنطق ذاتي نفسي خاص, ولكن مقاربة السياق الفكري, يجعلها تنتظم –في النهاية – في إطار معرفي خاص.
في قصائد ديوانه (مديح لمقهى آخر) يمكن أن نجد ارتكانا إلى وجود الذات, بوصفها تمثل حضورا فاعلا, يكون صدى قويا في تكوين النموذج الخاص بهذه الذات, وإن تدثر بمحاولة انقسام وانفلات واضحين, خاصة في قصيدته (الفتي), التي تشير إلى رصد للذات في التحامها مع الآخر مملوءة بوهج رومانسي:
ولي أن أتابع هذه الطيور التي تتشرب روح الفتي
قهوة في الصباح الجديد
وتستل من دوحة القلب
نصل القصائد
والطير والحجر الحي
ولكن هذا الوهج الرومانسي, الذي تجلى في بعض قصائده من ديوانه الأول, خاصة قصائده الموزونة, ما لبث أن تحول إلى نسق آخر, في ظل سيطرة وعيه الباكر بالسؤال الشعري, وتحولاته وأنساقه المختلفة. وهذا الوعي الباكر بماهية الشعر حما نصه الشعري من الوقوع في الإسراف الذاتي, فسرعان ما أدرك أن الذي يطلبه ليس في الوعي الرومانسي المعهود, وليس في تشظي هذه الذات في إطار جدلها اليومي المملوء بأسئلة وجودية, كما تجلى عند صلاح عبدالصبور, أو في تشكيل مناف للذات تتدثر باليومي الجزئي, كما ظهر واضحا عند سعدي يوسف, وإنما يسكن الشعر – انطلاقا من ماهيته – في التحول التدريجي من شكل إلى شكل, يكون هذا الشكل قادرا في لحظة من سياق حضاري ما على الإمساك, أو –على الأصح- على الاقتراب منه, والتماهي معه, ويكون السؤال الذي يبحث عنه الشاعر في ذلك السياق: أين يسكن الشعر؟ للاقتراب منه, هل يسكن في النمط الغنائي المؤسس؟ أم يسكن في مكان آخر, وعلى الشاعر أن يسلك طريقا أخرى للوصول إليه.
إن شعرية أمجد ناصر- من خلال هذا الوعي الباكر – تعاين السائد وترفضه, مبطنة طريقا أخرى للوصول إلى شعرية مغايرة, ففي قصيدة (موت الأغنية):
قال لي مرة
(نادرا ما يقول)
الأغاني يداهمها التافهون
فتنأى عن القلب
طير من الرغوة المعدنية
أقول لهذا الفتي
(حائر ما أقول)
ترى ما الذي نفر الشعر منا
وأسلم كف القصيدة للنار
أنا حائر ما أقول
أتابع شكل اختلاطك بالناس والأتربة
أراك تحط الخطي
وتشيل الخطي
وتذوب الخطى في شوارع عمان
والشعر ينأي
وتنأى الأغاني
وينأى الوطن.
لقد أثبتنا القصيدة – نصا كاملا – لأنها مهمة للإشارة إلى هذا الوعي الباكر, بسؤال النظرية, المتمثل في ماهية الشعر, في محاولة للتنصل من مسوح وأردية سابقة قديمة, للتجذر في سياق شعري جديد, يبني تواجده, ويثبت أعمدته, ليس من خلال المراقبة, كما كان يفعل شاعر التفعيلة القديم, وإنما من خلال التواجد في فلك التجربة, وكأنها نسق حياتي معيش, فالشعر- من خلال الحوار بين صوتين قد يمثلان الشاعر في ارتكانه وانطلاقه – لم يعد ماثلا في الأغاني الرتيبة, التي أصبحت غير فاعلة في القبض على أنساق شعرية, وإنما أصبح ماثلا في الاختلاط بالناس والأتربة, فالشعرية هنا تخلصت من كل أشكال التعالي السابق, لترتبط- بفعل المشاركة - بنسق المهمشين.
إن حضور الذات الذي تجلى في ديوانه السابق, نجده في ديوانه (منذ جلعاد) يخف وميضه, فالذات بفعلها ووعيها السابقين, لم تعد موجودة, ولم تعد تشكل حاجزا يبعد الرؤية الحقيقية عن التشكيل, ومن ثم نجد ذاتا واعية, تخلصت من محاولة الارتباط بهذا الواقع والانتساب إليه, ففي قصيدته (نشيد):
دم في كتب الدراسة
دم في الجملة الموسيقية الأولي
للنشيد الملكي
دم في المدارس
التابعة للقوات المسلحة
صاعد في المآذن
حتى انحناء الهلال دم
في اتكاءات الجبال السبعة دم
دم بين الشجر واللحاء
بين أفواهنا والابتهال.
نجد أن الرؤية في هذا النشيد ,تنطلق من الكلمة المحورية( دم), التي تأتي بوصفها جزئية فاعلة, في تغيير ملامح الجزئيات الصورية, التي أشار إليها, بداية من كتب الدراسة, ومرورا بالمآذن والجبال والشجرة, وانتهاء بالأفواه.
والدم – هنا- لا يأتي بوصفه جزئية بسيطة تضاف إلى هذه الجزئيات, لكي تشعرنا بالتغيير في ملامح التكوين, وإنما تشير إلى حضور أساس, وإلى وجود نسق عام يؤثر في البناء, وفي تشكيل الفرد بداية من لحظة ميلاده, إلى لحظة الوعي والمعرفة, فكل السياقات المحيطة أصابها العوار.
ولكن هذا التحول من نسق الوجود في الإطار إلى نسق مراقبة ذلك الإطار, وهو بعيد عنه, لا يتم بشكل حاسم, ففي بعض الأحيان, يطل هذا العالم – في إطار نسق الاستبصار- في صورة قديمة لا يمكن التخلص منها, لأنها تظل عالقة, ويظل لها وجود, في إطار سيطرة صورة جديدة يحاول الشاعر الانتساب إليها, يتجلى ذلك حين نتأمل قصائد مثل (حصاد) و(صلاح الشافعي), حيث نجد القصائد معنية بتقديم قراءة باطنية شديدة الخصوصية للواقع الفردي والجمعي, ذلك الواقع الذي يتجلى لحظة الانفلات إلى صورة جديدة, متماهيا مع الأماكن, التي يظل حضورها فاعلا, بالرغم من الانتقال من توجه إبداعي إلى توجه جديد, ومن رصد المقيم المشدود إلى طبيعة هذا الوجود, إلى رصد المفارق, الذي يقدم وجهة نظره بشكل محايد بعيدا عن أفق الذات:
نحتفظ من الأماكن
التي شيعتنا إلى ضجر الحقائب
بالصور التذكارية
الملتقطة مع العائلة.
صور حائلة الألوان
وعائلة مزدهية بالسلالة
وضجر الحقائب
وبريد لا ينتظم
ذلكم ما تبقى من
الأمهات.
ربما يمكننا الوقوف عند هذه القصيدة, من معاينة نسق أسلوبي مهم, أشرنا إليه سابقا, في شعرية أمجد ناصر, يتمثل ذلك الملمح في التمدد التركيبي, الذي يولد تمددا صوريا, فالقصيدة السابقة – أماكن – عند التأمل تتكون من جملتين, الأولى تنتهي مع كلمة العائلة والأخرى مع نهاية القصيدة, ولكن عند التأمل الدقيق سوف ندرك أن القصيدة تتكون من جملة واحدة, فكلمة (صور) التي تبدأ بها الجملة الثانية, تأتي وكأنها مفصل تركيبي, يحيل إلى كلمة (الصور) في الجملة الأولى, وهي وسيلة ربط معهودة في الشعرية العربية قديما وحديثا. ولكن هذا التمدد التركيبي في نص أمجد ناصر, أوجد التفافا صوريا, أو –على الأصح- تراكما صوريا, ولكن هذه الصور لا تبنى على منطق الواقع, وإنما نجدها – في أغلب الأحيان –مشدودة إلى ترابطات نفسية, وتحيل إلى جزئيات قد تبدو للوهلة الأولى متباعدة, ولكن جمعها في سياق معرفي واحد يهشم هذا التباعد.
وربما كانت الجزئية الفاعلة المحركة لحركة المعنى متمثلة في كلمة (الأماكن), وماذا يتبقى منها, بعد فعل الإقصاء الذي قد يكون إجبارا أو طواعية, وقد تشير كلمة (ضجر) المرتبطة بالحقائب, إلى مغايرة في شعرية أمجد ناصر عن شعرية سعدي يوسف, فشعر السفر المملوء بضجيج المطارات واليومي لدى سعدي يوسف, يفصح عن اختيار خاص, وكأن فعل السفر والرصد الآني للحياة في مختلف تجلياتها, يعطي هذه الشعرية زادا لا ينفد, أما لدى أمجد ناصر فإن السفر ما زال مملوءا بالضجر, وبحنين خاص للأماكن.
إن محاولة الاحتفاظ بالأماكن, ليست إلا محاولة استبقاء للحفاظ على ديمومة تواصل, من خلال التطلع إلى صور الذات مع العائلة, ولكن هذه الصور – الأماكن, لا تبقى على حالها, وإنما أصابها التغير, وهنا تطل الذات بوجودها المشدود إلى أفق قديم, وأماكن أصبح وجودها نفسيا, لكي تشير إلى وسيلتي التواصل, أولها الصور, التي لا تقدم صورة آنية, وإنما حائلة, والأخرى البريد غير المنتظم.
ويبدو أن الضجر الذي رأيناه واضحا, والمرتبط بالحقائب, كان له وجود بارز في هذه الفترة الإبداعية ,الخاصة بالانتقال من سياق إلى سياق , يتجلى ذلك في قصيدة (وحشة) حيث نجد أن هناك تناصا مع أسطورة بنلوبي, التي قدمت في شعرنا العربي الحديث بوصفها نموذجا أو رمزا للوفاء والانتظار, ولكن النص الشعري غير في ملامح الأسطورة, فجعل الانتظار مرتبطا بعودة الأبناء.
وسواء وسعنا دائرة التلقي وجعلناها مرتبطة بالأم – الوطن, أو جعلناها محصورة في إطار الأم المحددة, فإن هذه الجزئية تشير إلى حنين خاص, يمارس دوره في انفتاح النص الشعري, وتعالقه بين عالمين جديد وقديم. ويتجلى في بعض قصائد الديوان أن اختيار الجديد-في الأساس – كان اختيارا إبداعيا, لنسق معين, كما في قصيدة غياب.
أما في ديوان (مرتقى الأنفاس) فإن أمجد ناصر, لا يقدم الحادثة التاريخية, بوصفها حدثا تاريخيا فحسب, وإنما بوصفها حادثة تاريخية باطنية, فالمقصود ليس تقديم التاريخ, وإنما تقديم قراءة باطنية لآخر أمير مسلم سلم مفتاح غرناطة إلى ملك أسبانيا, وهو الأمير أبوعبدالله الصغير, آخر أمراء بني الأحمر.
والقصيدة لا تقدم التاريخ بوصفه يشكل ضغطا على الذات الشاعرة, ولكن النص الشعري يستند إلى جزئيات التاريخ بوصفها إطارا عاما, يعبر من خلاله عن الانكماش إلى الانكسار, والانعتاق من سلطة النموذج المتخيل, الذي يؤمن بجدوى القادم, فالرثاء في هذه القصيدة يمكن أن يخص كل إنسان عربي, في لحظته الآنية, وخصوصية القصيدة, لا تنطلق –كما فعلت معظم القصائد في ذلك السياق – من النوستاليجا أو الحنين إلى ماض زاهر, وإنما هي رثاء آني للحظة حضارية مطبقة بأطرافها في إطار سياقها الخاص.
ولقد اتكأ الشاعر على جزئيات مهمة, وحاضرة في التاريخ مثل (المرقب), الذي أثبتت المصادر أن الأمير الصغير صعد إليه لحظة الرحيل, وأطلق عليه الأسبان زفرة العربي الأخيرة, والنص يبدأ من هذه الجزئية بوصفها كانت نسق حماية ومراقبة, في لحظة السيادة, ولكنها تطل في الوقت الآني, بوصفها شاهدة على الموت, وانكفاء الأفق القادم:
لن نعرف كم غفونا هناك
تحت ظلال رموشنا
وكم دارت بنا الأرض
في كتب تناولها مقتنون عديدون
لكننا رجعنا أخف ما نكون
ولم نجد من تركناهم على الأبراج
يصدون رياحا من سبع جهات.
إن ضمير السرد الجمعي هنا, يشير إلى سياق ماض, وإلى سياق آني, يضمنا جميعا, ولكنه يشير – بالضرورة - إلى وجود إحساس خاص بالانكفاء, مشدود إلى الأمير الصغير, وقومه بني الأحمر,انطلاقا من مساءلة التاريخ لهم.
والوعي بهذه الجزئية – مساءلة التاريخ – يأتي في أجزاء عديدة من نص القصيدة, فالقصيدة تحاول أن تنفلت من الحدث التاريخي, فالمدونات التاريخية تشير إلى جبن وانهزام هذا القائد, أما النص الشعري لدى أمجد ناصر فيقدمه قائدا وجد في لحظة تاريخية, وشكل تشكيلا خاصا, جعله مطالبا بأن يسدد كل الفواتير السابقة للضعف والاستهانة.
والقصيدة من خلال اتكائها على السرد, وعلى تبريد الإيقاع, والبعد عن الاستعارات العلنية, التي شكلت في تجليات سابقة أفق الشعرية العربية, تلح على فقد ذلك القائد, من خلال لحظته التاريخية, وتكوينه الخاص لطفولته, التي وعد بها, ومضى يؤسسها في ذهنه:
....ووعدت بالغصن والثمرة
بالمنامة في الطرف الخالي
بالشميم منبلجا من ضربة السمهري
بجت ربيب الظل فلقتين
بغالب الجبابرة
أخذهم بالتلابيب
بساحبهم من خرزات دروعهم
يجرجره من على خيط اللعاب مدنفين
بالنوم نوم الذي مطمئنا
أن
الصباح
لناظره
إن الرؤية الشعرية في هذا الديوان تباين النسق التاريخي, لتصنع تاريخا نفسيا خاصا, لهذا القائد, فالشعر لا يتجلى فقط من خلال التاريخي, وإنما يرتبط بالحدس المشدود إلى الرؤية الباطنية, المنطلقة من الذات المنكسرة في تجليها الخاص, لكي تتماهى مع هذا القائد, فالإلحاح من خلال الاقتباس السابق على مجموعة ألفاظ تنتمي إلى نسق طفولي خاص, يشير إلى التباين الواضح بين نسق التكوين الذي شكل وعدا, وبين النسق الذي وجده مطبقا في لحظة النهاية, أليس هذا التباين في صوره العديدة مطبقا علينا في لحظتنا الراهنة.
في ديوانه (سر من رآك) تتخذ شعرية أمجد ناصر أفقا جديدا, وإن تجلى في بعض قصائد (وصول الغرباء), وهي جزئية ترتبط بمحاولة الالتحام بالآخر, والتوق إلى معرفته من خلال آفاق عديدة, وقد تجلى هذا الالتحام في توجهات عديدة, منها النسق التجريبي, الذي يفتح النص الشعري على كتابة الجسد, في إطارها الخاص, كما في قصيد (الرائحة تذكر), ففي هذه القصيدة تغدو الشعرية بوصفها محاولة لتثبيت وتكديس ما لا يثبت ولا يكدس:
الرائحة تعود لتذكر
الرائحة ذاتها
في المتروك
والمأهول
بالطيف والهالة.
فالرائحة بتجلياتها العديدة, تأتي وكأنها فعل مهم, لإعادة الانسجام, وللم المبعثر, وإعادة الهدوء إلى الذات, والتذكر بوصفه حضورا لحالة انسجام واكتمال سابقين يعيد رصد الأشياء المحيطة بالفعل, بوصفها محددات لتجربة ذات طقوس خاصة, بحيث تكتسب هذه الجزئيات داخل حدود الصور وفي ألق الفعل وجودا مغايرا عن وجودها المعهود, وتكمن هذه المغايرة – في إطار شعرية أمجد ناصر المعنية بالرصد الواصف دون تشنجات استعارية – في عاديتها, إذ يغدو إدراكها في إطار ذلك الحيز المهمش كشفا لها, ولوجودها الفاعل, ومن ثم ظلت هذه الجزئيات حاضرة في إطار فعل التذكر, القائم – انطلاقا من طبيعته - على انتقاء ملامح حميمية فاعلة:
الرائحة تذكر بأعطيات لم يرسلها أحد
بأسرة في غرف الضحى
بثياب مخذولة على المشاجب
بأشعة تنكسر على العضلات
بهباء يتساقط على المعاصم
بأنفاس تجرب مسالك جديدة إلى مرتفع الهواء
بمياه الأصلاب
مسفوحة على الدانتيلا
بالترائب .
إن الجزئيات العديدة السابقة, والتي تحيل إليها رائحة فعل التذكر, تأتي ملتحمة إلى حد بعيد بنسق صوري جارح يعتمد على جزالة بلاغية, مرتكنة إلى ثقافة ذات نسق جمعي, فهي مشدودة إلى القرآن الكريم, وإلى القصيدة النثرية في تجليها الغربي, المعتمدة على التمدد التركيبي الذي يشكل في النهاية نسقا بنائيا متكاملا, من خلال الاتكاء على الجملة المشدودة إلى ركنين ثابتين, ومن خلال الوسائل المعهودة في ذلك السياق.
والصورة – لدي أمجد ناصر- بالرغم من هذا النسق الثقافي, الذي يتجلى في إبداعه, في إطار سياقات متعددة, تظل مشدودة إلى بداوة خاصة, تجعلنا نرى أن هذا التكوين القديم, ظل فاعلا في شعرية الشاعر, حتى بعد انقطاع أسباب هذه البداوة, خاصة إذا جاءت هذه الصور البدوية مرتكنة إلى فعل الرائحة, وما تثيره من عملية اختمار الفعل الغريزي, في إطار تداعيات خاصة:
بمياه الأصلاب
مسفوحة على الدانتيلا
بالترائب
بأكباش يهيجها البول برواد فضاء تخطفهم سحنة
القمر
بالصنوبري
بالليلكي
بالمشرئب
بأمطار على أسطح من طين
بحنطة مركوزة في الحظائر
وقد أشرنا – سابقا- إلى أن هذا الالتحام التجريبي مع الآخر, يفتح بابا لدخول شعرية أمجد ناصر إلى كتابة الجسد, ولكنها – بالرغم من ذلك – كتابة خاصة للجسد, لا تتوسل بالتهتك وكتابة الإيروتيكي, بوصفه أفقا مقصودا, وإنما تكتبه متوسلة ومشدودة – في ذلك السياق إلى الإنساني في مداه الرحب, وكأنه فعل حميمي, تتوسل به الذات الإنسانية لكي تبقى في انسجام تام قبل تشظيها بفعل الصحو:
يا لأحكام النهار إذ تبدأ القهقري
وللمواضعات إذ تساقط تباعا
وللرغبات إذ تطلق فهود الكتفين
لتجوس مفازة الهجران .
إن شعرية أمجد ناصر شعرية تجريبية في الأساس, تحاول الانفلات من المؤسس لتنحت لنفسها دربا خاصا, ينطلق – في الأساس – من سؤال مؤداه: أين يسكن الشعر؟, وارتحالاته العديدة, التي تجلت في دواوينه الشعرية, ليست إلا بحثا عن الشعر, ومكان تواجده, وماهيته وآلياته التي تتغير يالتدريج نظرا لطبيعته الدينامية.
No comments:
Post a Comment