Tuesday, April 7, 2009
القصة السعودية بين الوعي الفطري وجمالية التقرير
إن الحديث عن القصة السعودية بوصفها نهراً يحمل ملامح خصوصية في إطار السرد العربي بصفة عامة، وربما كان حديثاً صعباً على الباحث، الذي لا يملك بين يديه دراية واسعة بهذه الأعمال. ولهذا كان الاختيار متمثلاً في الوقوف عند مجموعة واحدة حتى يتسنى لنا الكشف عن ملامح فنية ذات خصوصية. وفي ذلك السياق يأتي التوقف عند مجموعة (تلك التفاصيل) للكاتب حسن حجاب الحازمي، وأول جزئية يمكن أن تلفت النظر في هذه المجموعة، هي جزئية سوء التكيف أو الثورة الهادئة. ففي القصة الأولى (أقصى درجات الخيبة) تتجلى سمة أساسية في تكوين المبدع، وهي جزئية الثورة على التقاليد الاجتماعية، التي تجعل المبدع مشدوداً إليها بخيوط قوية ومتينة، ومتجذرة في لا وعيه. ولكن المبدع المبدع الحقيقي يتوق في قراره نفسه إلى التحلل من هذه الخيوط المتينة، بحيث يجد نفسه دائما يغرد وفق قوانين خاصة يرتضيها. وفي هذه القصة تبرق جزئية الثورة الحقيقة، ولكنها ثورة هادئة لا تطمع إلى التغيير، وإنما تكتفي فقط بإثارة القضية، والتلميح بعدم الرضا عن ذلك النسق المتبع في الفصل الحاد والحاسم بين الرجل والمرأة، أو بين الفتى والفتاة، فهذا الفصل في منطق القصة يسهم في ميلاد آليات احتيالية للتعرف، مثل رفع لافتة تنبىء عن الشخص أو رقم هاتفه. والقصة في إدانتها الهادئة لمنطق الواقع، لا تكتفي بعرض الجزء الخاص المرتبط بالسارد الفعلي في النص وإنما تنقلنا إلى تكرار الفعل مع شقيقة السارد، وهذا التكرار يشير من جهة أولى إلى عمومية النسق الحياتي المعيش، فالسارد ليس بدعاً في ذلك السياق، ومن جهة أخرى يشير إلى طبيعة التوق الإنساني الطبيعي والميل إلى الجنس الآخر. والقصة (أقصى درجات الخيبة) قد تشير في الوقت ذاته إلى إدراك تهويمي لجزئيات الواقع، قائم على الخيال، ولا يقوم على التجربة المعيشة، فالسارد طموح على حد تعبير النص السردي إلى أن يخوض عمار تجربة مثيرة. وهذا الإدراك التهويمي للواقع قد يكون مثيراً أساسياً لفتح باب الوهم، فالسارد انطلاقاً من إدراكه الخيالي يحاول أن يبني عوالم تدفع عنه الاختلاف، فهو يحاول التماس تجربة ليصبح كالآخرين، ومن هنا يطل الوهم عنصرا فاعلاً وأساسياً في تكوين القصة، فهناك نافذة تضيء، يتوهم من خلالها أن هناك فتاة تراقبه، وأنها تحبه، ومن ثم يحاول أن يتعرف عليها بالطرق الاحتيالية التي قدمتها القصة. وهذه القصة ربما تعيدني بالذاكرة إلى الماضي البعيد، إلى قصة قرأتها في بداية الثمانينيات (لأبو المعاطي أبو النجا)، وهي قصة (ذراعان)، وفيها يتخيل البطل وهو جاس بجوار فتاة في دار الخيالة، أن هناك حالة حبٍ متبادلة بينهما، يقيسها بابتعاد أو التصاق الذراعين على المسند المخصص لهما. فإذا تركت ذراعها فهي محبة له راضية عنه، وإذا رفعتها فهي قد غضبت عليه. والقصة ليست إلا تصويراً للوهم الإنساني، فالسارد يقف عند حدود التجربة، ولا يريد أن يخوض غمارها، فهو شبيه إلى حد بعيد بالواقف على شاطئ البحر، ولا يستطيع الدخول إلى الأعماق. فالقصة (أقصى درجات الخيبة) في تجلياتها الأولى تشير إلى ثورة هادئة مكتفية بعرض القضية ذات التقاليد دون محاولة التبرم عنيها، أو الخروج عليها. ولكن عدم الرضا الهادئ الذي رأيناه في القصة الأولى يتحول في القصة الثانية إلى صورة جديدة أشبه بثورة مكتومة، يتجلى ذلك في قصة (الصورة) وهذه القصة تعيدنا إلى أنساق تراثية وأمثلة شديدة الخصوصية مرتبطة بالبيئة السعودية، مثل (اصبر وراك شفرة) و(والله يستر ما تفضحونا يوم امختان)، (ولدي رجل من ظهر رجل ومهو من اللي يرمشون) و(يا ذا المعلى طاح في شوك النشب ياذا المعلى كأنه يضرب في خشب). والقصة حين تضرب بجذورها في دهاليز التقاليد البدوية القديمة، لا تفصح عن وجهة نظر الكاتب من خلال الإلماح إلى مقولة قالتها الأم (ولدي مهو من اللي يرمشون)، وتتكرر هذه المقولة في القصة ثلاث مرات، ودلالتها تشير إلى الانسحاق تحت وطأة أنساق موروثة ترتبط بعملية الختان، وتتجلى وجهة نظر الكاتب حين يقول: (وعيناه شاخصتان لا ترمشان، والدم يتسرب بغزارة، وأبي يكاد يطير من الفرح لأن عيني عليّ لم ترمشا، وحين وصلنا إلى البيت ونام على نفس القعادة) لم ترمش عيناه، وكان لابد ان أبكي وأنا أغلقهما. ففي هذه الجزئية تتبدى وجهة النظر الخاصة بالكاتب، والثائرة ثورة هادئة على التقاليد، والقصة على هذا النحو يمكن أن تشير على نحو من التبسيط الذي يمكن أن يكون مخلاً بأن الإيمان بالتقاليد البالية من وجهة نظره، ربما يقضي علينا، لأنها تقاليد مرتبطة بلحظة حضارية سابقة يمثلها الأب (الذي تأبى عيناه أن تسحا)، أما لحظتنا التي يمثلها السارد حين يحاور والده حين حدته في ختان أخيه: المستشفى قريب والأمور أحسن من قبل. ويتماس مع هذه الجزئية المرتبطة بالثورة المتلبسة بالهدوء النسبي، نقطة أخرى ترتبط بطبيعة تولد الدلالة في قصص حسن حجاب الحازمي، وهي سمة قارة في أغلب قصص المجموعة، ترتبط ببنية الكشف عن الدلالة فهي عند الكاتب مرتبطة بنهاية القصة، فدائماً هناك بؤرة كاشفة لا يتم الكشف عنها إلا في نهاية القصة، وهذه البؤرة الكاشفة تلقي مزيداً من الضوء على الدلالة وربما تساهم في تشكيلها، وفي تشكيل وجهة النظر التي يعبر عنها الكاتب من خلال المواربة. فحسن الحازمي في قصصه لا يعبر عن رؤيته بشكل واضح وصريح، وإنما يمكن الكشف عنها من خلال تأمل الدلالات المتولدة من خلال نسق المفارقة المفضية إلى تناقض بين الحياة والموت كما في قصة الصورة. وتتكرر تلك التقنية الخاصة بطبيعة التولد الدلالي في نهاية القص، في (فراغ) فالدلالة في البداية ومروراً بجزئيات القصة تشير أو تلمح إلى قيمة الأم، ولكن نهاية القصة تصور الفراغ الموجود في العنوان، الذي يمكن أن يشير إلى تغير في مفهوم الأمومة من جهة الأم، فالأم في ذلك السياق تخلت عن واجبها المعروف والمقدس، وتركت المهمة للخادمة، ومن ثم كان ضرورياً أن يسير التلاميذ للأم الفعلية الخادمة التي ارتبطوا بها وشعروا بوجودها. وعلى هذا الأساس تكتمل عناصر البناء الدلالي من خلال اللقطة الضوئية الكاشفة في نهاية القصة، فهي تلمح إلى متغير حياتي أصبح موجوداً في البيئة التي ينتمي إليها السارد، ويظهر بشكل واضح إذا وضع في إطار مقارن مع أم السارد الفعلية التي تمثل نسقاً للأم الحقيقية، التي كانت تقوم بدورها، ولم تترك فراغاً تشغله الخادمة. وربما تكون جزئية المفارقة بين الأمس واليوم على جميع المستويات، جزئية فاعلة في هذه المجموعة القصصية، تلك المفارقة التي ولدت الثورة الهادئة المكتفية بتصوير وإبراز التناقض دون إحداث ثورة واضحة طامحة للتغيير. ولكن تلك المفارقة ما كان لها أن تتأسس على هذا النحو الحاد إلا من خلال تلبسها بالوعي الفطري الذي يرى الحياة من خلال لونين هما الأبيض والأسود، ولا مجال في تلك السياق للرمادي، وهذا الوعي الفطري يسهم في تكوين سمات خاصة للبطل. وتتبع قيمة القاص حسن حجاب الحازمي في مقدرته على إدراك التكوينات النفسية للبطل المعاصر، الذي أدى به الانزواء خلف جدار خاص إلى تكوين خاص، يرتبط بتشكيل الشخص الهامشي، الذي يأخذ الحياة من أيسر جوانبها، كما في قصة (المسالم). ولا تقف قدرة الكاتب عند حدود تصوير الشخص المهمش بوصفه بطلاً فاعلاً في سياقاتنا المختلفة، وإنما تعدى ذلك إلى حدود البحث عن أسباب تكوين البطل المهمش المتدثر بالصمت والوقوف عند حافة التجربة دون الدخول في غمارها. فالمتلقي يستطيع أن يدرك من بداية القصة طبيعة ذلك البطل المسالم الهامشي، ولكن دفعة الرؤيا تظهر موحية بالتفسيرات التي أدت إلى ذلك التكوين، منها طبيعة التربية التي نشأ عليها البطل، فقد نشأ في ظروف خاصة، وفي جو على حد تعبير السارد مترع بالمحاذير والعقوبات، وظل يحمل ميراثها في دمه. إن هذه الصورة للهامش طبيعية وعادية، فهو نتيجة لذلك التكوين يخاف دائماً أن يدلف إلى التجربة، ولكنه في بعض الأحيان قد تشده التجربة كما قدم في قصة المسالم، ولكن هذا الدخول لم يفض الى تغيير في طبيعة المسالم، ولم يفلح في كسر شرنقة التهميش، وإنما ازدادت قوة وضيقاً، فقد أثبتت التجربة صواب توجهه، في أخذه الحياة من أيسر جوانبها. ولكن هذه الجزئية الخاصة بالتهميش، وطريقة التكوين النفسي للبطل، ربما تكون لبنة أولى في إطار أكبر يرتبط بالوعي الخاص الذي تقدمه المجموعة، فهذا الوعي في الأساس وعي فطري، يرى أن الانغماس في الحياة بشكل قوي يعد تخليا عن براءة فطرية مجبولة. والوعي الفطري انطلاقاً من طبيعة التجربة الإنسانية لا يظلّ على حاله، وإنما يتطور وينمو، ويصبح وعياً مراقباً للآخر بعيداً عن أفق الذات، ففي قصة (المطارد) يتحول البوح السردي المرتبط بضمير المتكلم، إلى بوح سردي خاص يرتبط بمراقبة الآخر للتعبير عن دفق الحياة الواقعي، ممزوجاً بصورة (سعيد مهران) في رائعة نجيب محفوظ (اللص والكلاب) ويحاول الكاتب من خلالها أن يقدم وجهات نظر متباينة في تصوير حادثة سقوط العامل. إن هذا التحول من الوعي الفطري المباشر المرتبط في الإطار السردي بضمير المتكلم إلى مراقبة الآخر، وحلول ضمير الغائب مكانه، ربما يتخذ نسقاً مختلفاً في قصص أخرى مثل قصة (نقيق الضفادع) التي يمكن أن تكون مع قصة (تلك التفاصيل) نسقاً تأملياً خاصاً، حيث يختار الكاتب (الضفدع) ليتحث من خلاله ليناقش قضية غاية في الأهمية هي قضية الوجود والسعادة والموت، وربما أرجعتني تلك القصة إلى قصة لتوفيق الحكيم بعنوان (عرف كيف يموت). ففي هذه القصة يحدث ما يمكن أن نسميه تماهيا بين صورة المبدع، وصوت ذكر الضفدع الذي يبحث عن السعادة انطلاقاً من مغادرة المكان والأهل بحثاً عن حياة خاصة وبحثاً عن مدى أرحب يكون فيه بعيداً عن المألوف والمقرر، وحين يجد هذه الحياة، يعود إلى موطنه الأول، ليحسم القضية لإعلان رغبته في الرحيل نهائياً، ولكن في أثناء عودته يتعرض للحادث ويموت. إن القصة بهذه الصورة لا يمكن تلقيها على هذا النحو، لأن هذا التلقي المباشر، يفقد القصة الكثير من قيمتها، فالقصة في الأساس تناقش طبيعة الحياة، ومفهوم السعادة حين يرتبط عند الجيل الكبير بالخنوع والوقوف عند منطقة معينة، ولكنها عند الابن الذي ينتمي إلى لحظة حضارية مغايرة ترتبط بالمغايرة والبحث عن أفق جديد، يمارس فيه كشفه ووعيه الخاص. وثمة جزئية أخرى تلمح إليها القصة، وتقدم دلالياً من خلال نسق الكشف الدلالي في نهاية القصة كما هو معروف في قصص الحازمي، وهي دفقة الضوء الأخيرة وتتمثل تلك الجزئية في شموخ الموت الذي ينبع من عدم تحديد موعده. وربما كان النقيق الذي يشبه السعي المرتبط بأفق الانتظار لدى الإنسان ليس إلا محاولة لاستلهام القادم والإحساس به قبل وقوعه، وهي محاولة لأسطرة الواقع الخاص بالضفادع. وقد يدفعنا الأمل في قصة أخرى للوصول إلى صواب مشروعية فهمنا السابق لقصة الضفادع، فالتوقف عن قصة (البحث عن راحة) التي تنتهج البحث عن المغايرة في أماكن نائية، ربما يثبت أن هناك نسقا خاصا في الوعي بالعالم، ومحاولة خلق أطر فكرية خاصة بالكاتب، سوف تكون حين تكتمل علامات بارزة في القصة السعودية.... ثمة جزئية أخيرة تعد من سمات المجموعة (تلك التفاصيل) بل تكاد تكون أهم الجزئيات، وهي جزئية اللغة، واللغة في هذه المجموعة تختصر سنوات عديدة، قد يستغرقها أي كاتب للوصول إليها، فلغة هذه المجموعة لغة خاصة ترتبط في الأساس بالتقرير. والمتأمل للسرد العربي بتجلياته العديدة بداية من البداية الأولى يدرك أن اللغة في البداية كانت لغة استعارية، أو لغة شعرية قريبة من لغة الشعر، مثلما نجد لدى المنفلوطي في العبرات أو النظرات، ويمكن أن نجدها لدى كاتب ينتمي إلى جيل لاحق هو محمد عبدالحليم عبدالله. والمتأمل للغة في ذلك السياق يمكن أن يلاحظ أن شعرية اللغة أو الإلحاح على استخدام الاستعارة في السرد يؤدي في أغلب الأحيان إلى التأثير على اتساق السرد. وربما يعود قبول ذلك النسق في حينه إلى السياق الحضاري الخاص الذي يولد ذائقة مبدعة وذائقة نقدية لها كيانها الخاص وتكوينها المتميز. فاللغة المحتشدة التي كتب بها نجيب محفوظ على سبيل المثال (الثلاثية) أو (بداية ونهاية) لا يمكن لقارئ اليوم أن يتقبلها بسهولة، ولكن يمكن أن يتقبل بشغف خاص روايات إبراهيم عبدالمجيد، بهاء طاهر، والغيطاني وآخرين، لأن هؤلاء لم يعودوا يبحثون عن اللغة المحتشدة أو اللغة الاستعارية الشعرية التي تعبر عن مرحلة بداية طفولية سابقة، وإنما أصبحوا يبحثون عن جماليات خاصة للتقرير تجعل السارد سارياً في سياق خاص ولا مجال لانحرافه تحت تأثير الاستعارة. ولغة المجموعة (تلك التفاصيل) تدخل في ذلك السياق الخاص الذي يستخدم جمالية التقرير المدهشة الموحية بجمال خاص، ينبع من بناء إطارات سردية دون نتوءات لغوية. ولكن في بعض نماذج المجموعة القصصية، نجد اللغة تغادر تقريرتها لتسبح في إطار الاستعارة، التي يمكن أن تؤثر في اتساق السرد، يتجلى ذلك في قصة (تلك التفاصل)، حين يقول السارد مصوراً الفراغ المتكون من بعد الرحيل المتخيل (بابا.. بابا جاوبني) فلا يحببه سوى الصمت الجليل، وحزن الأشياء من حوله، وبحيرة دمع تتسرب رويداً رويداً من حجرة نومنا، لتغرق الصالة، وكل أرجاء المنزل.. إن ما يعطي السرد العربي قيمته في العقود الثلاثة الأخيرة، هي تلك السمة البارزة الخاصة بجمالية التقرير، حيث تبتعد اللغة السردية عن التهويم الاستعاري، لتلتحم بالتقرير المدهش الذي لا يخلو من جمال.
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment