أخذت الشعرية العربية المعاصرة أنماطا وأشكالا جديدة, منها ما يؤكد خصوصيته في إطار جنس أدبي معين كقصيدة النثر, ومنها كذلك ما يؤكد خصوصيته من خلال تشكيل ملامح فنية ربما تكون فاعلة في تحديد ملامح هذه الخصوصية, ومنها أخيرا ما يتمثل في اختيار لغة خاصة تجنح إلى اللغة الشعرية الشفافة، التي تجعل المتلقي في منطقة ما بين الإعجاب بهذا التشكيل الخاص للصور الممتدة, وبين الخوف من صعوبة المغامرة التي يحاول ارتيادها. فالدخول إلى عالم هذه الدواوين ربما يحتاج إلى لغة خاصة تحاول ارتياد هذه العوالم الشعرية، فلا يشعر القارئ للنص النقدي والشعري أن هناك مساحة معرفية شاسعة بين النصين.ويأتي ديوان علي الحازمي "الغزالة تشرب صورتها "علامة بارزة على هذا النوع الأخير، فلغته شفافة تحيل المتلقي إلى عوالم خاصة يبنيها، ويؤسس بنيتها الخاصة، ولكنها في الوقت ذاته لا تحيل على شيء يمكن للناقد الإمساك به، لأن لغته منسربة تحاول الإيهام بالبعد عن الحادثة، وإذا حاول الناقد أن يطوعها لأدواته التي لا تصل إلى فضاءاتها الخاصة، فسنشعر بالفارق النوعي بين النص الشعري والكتابة النقدية. وملامح الخصوصية وإن كانت تنبع من اللغة الشفافة، فإنها ليست الملمح الأخير, فهناك ملامح خصوصية تنبع من تقنية البناء، الذي يحاول أن يجسد أو يجذر تجربة الحب شديدة الخصوصية التي يقدمها الديوان إلى المتلقي. ففي الجزء الأول من الديوان, والذي جاء تحت عنوان "جمر يغفو وامرأة تهب" سنشعر بأن هذا الجزء من الديوان يقدم لنا التجربة كاملة بلحظتها الآنية الجافة, وماضيها الخاص المترع بكل آليات الجمال, وإذا كان هذا الجزء ينطلق من لحظة الجفاف, فإنه يقدم ملامح التوحد في لحظات سابقة, ففي الجزء الأول "تبذرنا شمس آب" سنجد أن الشمس ربما تكون بداية مرحلة ما تتصل بالميلاد والطفولة, ومن ثم يكون جمع الاثنين منطقيا, فالشمس في ذلك السياق إشارة للوجود والوعي والنمو. ومن هنا يأتي الخطاب الشعري معبرا عن التوحد القديم في لحظة الطفولة: يا حبيبة مري على الغيم- دعينا نطوف بالأمنيات على مفرق السهل/ حين ولدنا/ كما العشب بين صخور التلال القريبة/ كنا قريبين من سرنا/ قاب قوسين من منتهى الأمنيات/ التي يأسر الناي غربتها في أنين القصب/ كان طفل هوانا ندى وشذى ممكنا". فالمتأمل لهذا الجزء يدرك أن اللحظة الجافة الآنية هي التي تحرك حركة المعنى في النص، وهي الفاعلة، ومن ثم كان التدثر بصور قديمة موروثة "مري على الغيم" التي تحيلنا إلى الحب العذري القديم، وإلى عادة البدوي القديم الذي كان إذا رأى الغيم وثق بالمطر.إن هذه اللحظة تمارس تأثيرها على حركة السرد في القصيدة وعلى التمدد التركيبي الذي يتكون أمامنا في النص، ومن هنا يأتي الارتداد إلى لحظة سابقة، كان الوعي فيها ساكنا، والخوف من المستقبل غير موجود,وهي لحظة الطفولة، التي كانا فيها كالعشب حين يوجد وجودا طبيعيا, مكونا وحدة خاصة، والإشارة في قوله "قاب قوسين "تحيلنا إلى حالة صفاء وجودي واكتمال بين نسقين. ولكن هذه اللحظة الماضية والمرتبطة بحالة توحد خاص، سرعان ما تتبدل وتتحول إلى لحظة آنية نابعة من ويل القناصة الذين ينثرون سهامهم: أرخي العنان لخيل هواك/ لنفلت من ويل قناصة ينثرون/ سهامهم حول تلك التلال القريبة/ دعي الخيل تشرع من رغبة في جناح قوائمها / كي تعانق من غربة في دمي وطنا. إن المتأمل لهذا الجزء من النص ويقارنه بالجزء السابق سيدرك أن مكان التوحد ومكان التشتت واحد، يتمثل في تلك التلال القريبة، والفارق ماثل فقط في الصفاء والأمن في الحالة الأولى، ووجود القناصة في اللقطة الثانية، ومن هنا كان الانتقال إلى رمز وثيق الصلة بالأدب العربي، وهو رمز الخيل، والخيل في النص ليست الخيل المعهودة، وإنما هي خيول الحلم، التي تنبثق أساسا من جفاف اللحظة الحاضرة، ولهذا جاء الحديث في المقطع التالي مرتبطا بحديث خاص للريح والغيم "دعيني أجرب حظي مع الريح/ حين تهب على عشبنا الحر "إنه حنين للحظة ماضية تبددت بفعل لحظة آنية. إن الفارق الواضح بين الواقع والحلم يمارس تأثيره في تشكيل ملامح الخصوصية اللغوية لدى علي الحازمي، وفي تشكيل طبيعة البناء الشعري. فإذا كان الجزء السابق من النص مازال مؤمنا بمشروعية التوحد السابق, ولو عن طريق الحلم، فإننا سنجد في الجزء التالي من القصيدة "نخلة تسند العمر" أن هناك ملامح وحدة بديلة عن التوحد السابق الذي رأيناه خيالا في الجزء الأول، وذلك حين يقول "لنا الله/ حين يلف اليباب حقولا من الحلم/ رحنا نربي فصولها في الفصول العصية "فسلطة الواقع في ذلك الجزء متجلية ومتجذرة بشكل قوي، فخيله - الحلم - تمثل سباحة ضد التيار المؤسس الذي يروضها، ومن ثم سنجد ألفاظا في النص الشعري تؤسس لتلك الوحدة مثل الخريف والهجير، ولم يتبق له إلا الغياب الذي يؤسس لهذه الشعرية منطلقها وحلمها الصاعد تدريجيا بخيوله. إن هذه الوحدة التي تصدرت النص الشعري في النص بداية من الجزء الثاني، تفتح الباب لخطوة أخرى تنبني بشكل تراتبي على الوحدة السابقة، وتتمثل في حالة انعزاله أمام تمثاله الذي صنعه من الورق، ففي الجزء الثالث من النص نقرأ قوله "تجلس الذكرى أمام النبع تروي للغزالة/ قصة العطش المقيم على الضفاف/ وكيف لاح الغيم في خجل على الماضي/ ليزهر غصن قامتك النحيل " ويبدأ هذا التوجه في النمو، من خلال الجزء الرابع "غصن وحيد للغناء ", وتتحول المحبوبة إلى رمز خاص في الجزء الخامس "عائشة ", ذلك الرمز الذي أسسه البياتي، وجعله منفتحا على دلالات عديدة ترتبط بالفردي والوطني والوجودي. ويختم البناء النصي من خلال الجزء الأخير "جناح المخيلة "الذي يرتبط بالخيل، والغزالة التي تغادر طبيعتها المادية وتنفتح على مجالات عديدة، منها ما هو ذاتي، ومنها ما هو مرهون بالإبداع الشعري حين يلتحم بالخيال والمجاز.
Wednesday, November 11, 2009
تراتبية البناء-عادل ضرغام
أخذت الشعرية العربية المعاصرة أنماطا وأشكالا جديدة, منها ما يؤكد خصوصيته في إطار جنس أدبي معين كقصيدة النثر, ومنها كذلك ما يؤكد خصوصيته من خلال تشكيل ملامح فنية ربما تكون فاعلة في تحديد ملامح هذه الخصوصية, ومنها أخيرا ما يتمثل في اختيار لغة خاصة تجنح إلى اللغة الشعرية الشفافة، التي تجعل المتلقي في منطقة ما بين الإعجاب بهذا التشكيل الخاص للصور الممتدة, وبين الخوف من صعوبة المغامرة التي يحاول ارتيادها. فالدخول إلى عالم هذه الدواوين ربما يحتاج إلى لغة خاصة تحاول ارتياد هذه العوالم الشعرية، فلا يشعر القارئ للنص النقدي والشعري أن هناك مساحة معرفية شاسعة بين النصين.ويأتي ديوان علي الحازمي "الغزالة تشرب صورتها "علامة بارزة على هذا النوع الأخير، فلغته شفافة تحيل المتلقي إلى عوالم خاصة يبنيها، ويؤسس بنيتها الخاصة، ولكنها في الوقت ذاته لا تحيل على شيء يمكن للناقد الإمساك به، لأن لغته منسربة تحاول الإيهام بالبعد عن الحادثة، وإذا حاول الناقد أن يطوعها لأدواته التي لا تصل إلى فضاءاتها الخاصة، فسنشعر بالفارق النوعي بين النص الشعري والكتابة النقدية. وملامح الخصوصية وإن كانت تنبع من اللغة الشفافة، فإنها ليست الملمح الأخير, فهناك ملامح خصوصية تنبع من تقنية البناء، الذي يحاول أن يجسد أو يجذر تجربة الحب شديدة الخصوصية التي يقدمها الديوان إلى المتلقي. ففي الجزء الأول من الديوان, والذي جاء تحت عنوان "جمر يغفو وامرأة تهب" سنشعر بأن هذا الجزء من الديوان يقدم لنا التجربة كاملة بلحظتها الآنية الجافة, وماضيها الخاص المترع بكل آليات الجمال, وإذا كان هذا الجزء ينطلق من لحظة الجفاف, فإنه يقدم ملامح التوحد في لحظات سابقة, ففي الجزء الأول "تبذرنا شمس آب" سنجد أن الشمس ربما تكون بداية مرحلة ما تتصل بالميلاد والطفولة, ومن ثم يكون جمع الاثنين منطقيا, فالشمس في ذلك السياق إشارة للوجود والوعي والنمو. ومن هنا يأتي الخطاب الشعري معبرا عن التوحد القديم في لحظة الطفولة: يا حبيبة مري على الغيم- دعينا نطوف بالأمنيات على مفرق السهل/ حين ولدنا/ كما العشب بين صخور التلال القريبة/ كنا قريبين من سرنا/ قاب قوسين من منتهى الأمنيات/ التي يأسر الناي غربتها في أنين القصب/ كان طفل هوانا ندى وشذى ممكنا". فالمتأمل لهذا الجزء يدرك أن اللحظة الجافة الآنية هي التي تحرك حركة المعنى في النص، وهي الفاعلة، ومن ثم كان التدثر بصور قديمة موروثة "مري على الغيم" التي تحيلنا إلى الحب العذري القديم، وإلى عادة البدوي القديم الذي كان إذا رأى الغيم وثق بالمطر.إن هذه اللحظة تمارس تأثيرها على حركة السرد في القصيدة وعلى التمدد التركيبي الذي يتكون أمامنا في النص، ومن هنا يأتي الارتداد إلى لحظة سابقة، كان الوعي فيها ساكنا، والخوف من المستقبل غير موجود,وهي لحظة الطفولة، التي كانا فيها كالعشب حين يوجد وجودا طبيعيا, مكونا وحدة خاصة، والإشارة في قوله "قاب قوسين "تحيلنا إلى حالة صفاء وجودي واكتمال بين نسقين. ولكن هذه اللحظة الماضية والمرتبطة بحالة توحد خاص، سرعان ما تتبدل وتتحول إلى لحظة آنية نابعة من ويل القناصة الذين ينثرون سهامهم: أرخي العنان لخيل هواك/ لنفلت من ويل قناصة ينثرون/ سهامهم حول تلك التلال القريبة/ دعي الخيل تشرع من رغبة في جناح قوائمها / كي تعانق من غربة في دمي وطنا. إن المتأمل لهذا الجزء من النص ويقارنه بالجزء السابق سيدرك أن مكان التوحد ومكان التشتت واحد، يتمثل في تلك التلال القريبة، والفارق ماثل فقط في الصفاء والأمن في الحالة الأولى، ووجود القناصة في اللقطة الثانية، ومن هنا كان الانتقال إلى رمز وثيق الصلة بالأدب العربي، وهو رمز الخيل، والخيل في النص ليست الخيل المعهودة، وإنما هي خيول الحلم، التي تنبثق أساسا من جفاف اللحظة الحاضرة، ولهذا جاء الحديث في المقطع التالي مرتبطا بحديث خاص للريح والغيم "دعيني أجرب حظي مع الريح/ حين تهب على عشبنا الحر "إنه حنين للحظة ماضية تبددت بفعل لحظة آنية. إن الفارق الواضح بين الواقع والحلم يمارس تأثيره في تشكيل ملامح الخصوصية اللغوية لدى علي الحازمي، وفي تشكيل طبيعة البناء الشعري. فإذا كان الجزء السابق من النص مازال مؤمنا بمشروعية التوحد السابق, ولو عن طريق الحلم، فإننا سنجد في الجزء التالي من القصيدة "نخلة تسند العمر" أن هناك ملامح وحدة بديلة عن التوحد السابق الذي رأيناه خيالا في الجزء الأول، وذلك حين يقول "لنا الله/ حين يلف اليباب حقولا من الحلم/ رحنا نربي فصولها في الفصول العصية "فسلطة الواقع في ذلك الجزء متجلية ومتجذرة بشكل قوي، فخيله - الحلم - تمثل سباحة ضد التيار المؤسس الذي يروضها، ومن ثم سنجد ألفاظا في النص الشعري تؤسس لتلك الوحدة مثل الخريف والهجير، ولم يتبق له إلا الغياب الذي يؤسس لهذه الشعرية منطلقها وحلمها الصاعد تدريجيا بخيوله. إن هذه الوحدة التي تصدرت النص الشعري في النص بداية من الجزء الثاني، تفتح الباب لخطوة أخرى تنبني بشكل تراتبي على الوحدة السابقة، وتتمثل في حالة انعزاله أمام تمثاله الذي صنعه من الورق، ففي الجزء الثالث من النص نقرأ قوله "تجلس الذكرى أمام النبع تروي للغزالة/ قصة العطش المقيم على الضفاف/ وكيف لاح الغيم في خجل على الماضي/ ليزهر غصن قامتك النحيل " ويبدأ هذا التوجه في النمو، من خلال الجزء الرابع "غصن وحيد للغناء ", وتتحول المحبوبة إلى رمز خاص في الجزء الخامس "عائشة ", ذلك الرمز الذي أسسه البياتي، وجعله منفتحا على دلالات عديدة ترتبط بالفردي والوطني والوجودي. ويختم البناء النصي من خلال الجزء الأخير "جناح المخيلة "الذي يرتبط بالخيل، والغزالة التي تغادر طبيعتها المادية وتنفتح على مجالات عديدة، منها ما هو ذاتي، ومنها ما هو مرهون بالإبداع الشعري حين يلتحم بالخيال والمجاز.
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment