تنطوي المقاربات النقدية، للأعمال والنصوص الأدبية، على تحديات مثيرة، لعلها في المستوى الأبرز ستعنى بتحقيق فهم أوسع للنصوص، ذلك أن إشكالية الفهم، سوف تحيلنا إلى المديات التي تلتزم بها ممارسة بعينها بنظرية ما، أو مفارقتها باستخدام (آليات حديثة) تتكىء في الأعم الأغلب على النصوص، دون أن تغفل إنجازات النقد البنيوي والأسلوبي، ومعطيات النقد الجديد، في مستوى معاينة النصوص الشعرية وسواها.
ففي كتابه (في تحليل النص الشعري) يقف الباحث المصري عادل ضرغام، على مسافة محسوبة من فرضيات فهم النص الأدبي، ليقارب، مستفيداً من معطيات النقد الحديث، نصوصاً دالة يخضعها لمجهر التحليل. فثمة دراسات ثلاث هي: (في كتابة الظل في قصائد الأخضر بن يوسف، في شعر سعدي يوسف، وتحولات الضمير السردي في سيفيات المتنبي، وجماليات التقرير في القصيدة الحديثة، أحمد عبد المعطي حجازي وأمل دنقل وحامد طاهر نموذجاً).
ثمة - إذاً- مقاربة بنائية، تنشغل بالتحليل والتركيب في سبر الجزئيات والسمات التي تكون الخطاب الشعري، تتكىء على متخيل حداثي وتراثي، سعياً وراء انفتاح الدلالة، على مستويين لغوي وفكري، لتثير قضايا إشكالية راهنة في الشعر العربي، منذ بدأ النقد العربي يضعها في دائرة الانتباه والتعليل، ومنها تحول الشعرية العربية المعاصرة- تحت تأثير اكتشاف الطباعة- إلى شعرية كتابية، بعيداً عن الشفهية الإنشادية، بمعنى انتباه الشعراء الحداثيين إلى مسألة الفضاء الطباعي، وتشكيل النص، ومساحات البياض، واستواء ذلك في ( الشعرية البصرية) ليعاين الكاتب مستويات الوعي بالتشكيل البصري للنص الشعري، ودورها في جعل المتلقي مشاركاً فيها، وذلك ما لاحظه الباحث في استقرائه لقصيدة سعدي يوسف وآليات كتابتها، إذ ثمة اشتغال على هندسة القصيدة وتشكيلها بشكل خاص، وتعليل اشتغال الشاعر سعدي يوسف يعود لوعيه بجزئية التشكيل الكتابي في شعره بصفة عامة، أو في قصائده الخاصة بالظل من خلال منحى فكري خاص. ويرى الباحث أن العنوان كان منطلقه الأساسي للكشف عن أشكال ذلك الظل وكيفية كتابته، أي نسق الشعر المرتبط بالظل، ونسق النثر المرتبط بالذات الإنسانية. ولعل ثنائية الظل وصوت الذات، سوف تحيل لوجود الصراع ، ليظهر الصوت الفاعل منهما في رصد الحياة. وما يلفت الباحث النظر إليه أن استثمار الفراغ يؤدي وظيفة من شأنها أن تجتذب القارىء، ليكمل النص وفق ثقافته الخاصة، وسيفيض تعليل الباحث لأنساق الصراع والشعر والتوحد والتلاشي وسواها، استقراراً لطبيعة (العلاقة الملتبسة) بين الإنسان والظل أو الشاعر...
وعلى الرغم من اعتراف الباحث أن دراسة تحولات الضمير في الشعري، ربما يكون أكثر فاعلية في دراسة النصوص الحديثة ، بإدراك الغياب ومفاعليه، يذهب إلى سيفيات المتنبي، ليقف على فاعلية الضمير بوصفه شرايين تمنح الحياة للنص الشعري، فيضيء تجليات نقدية مثل ظاهرة الالتفات وكيف عالجها البلاغيون العرب، لاسيما الضمائر السردية، فهو يستحضر نصاً قديماً، ليجلو لنا الصوت الشعري الذي يحمل النص للمتلقي، ويرى أن تحديد الضمير السارد في النص الشعري يرتبط بالبحث عن الصوت، والصوت يمكن أن يكون منطلقاً من الذات في إطار المتكلم. واعتبار النص الشعري سردياً، لم تثبت له مشروعية إلا في إطار مفاهيم سردية، لذلك فتحديد الباحث للضمير السردي الفاعل في قصائد المتنبي، يحيله إلى تأمل القصائد ليقول بأن صوته - أي الشاعر- مشدود إلى أصوات أخرى، فيحدد سماته من خلال الدلالات والتمددات التركيبية، لاسيما في قصيدة المدح في استحضارها للغياب، صورة الممدوح تجعله أقرب إلى النموذج، وهكذا ذهاباً في رصد إشكالية اعتبار النص الشعري نصاً سردياً ومشروعية ذلك الاعتبار. ولعل الظاهرة اللافتة التي يُعنى بها الباحث ما يسميها «بتخفيض اللغة الشعرية واقترابها من اللغة التقريرية» انطلاقاً من رصد حالة التغيير التي حدثت بعد تلاشي الرومانسية ووجود الواقعية كمذهب أدبي طاغ.
والتحول الذي يرصده الباحث مثلاً في لغة شعر صلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي وحامد طاهر، هو من خلال لغة مملوءة بالاستعارات المجنحة والتهويمات اللافتة التي سادت في إبداع الرومانسيين، فضلاً عن أنها مملوءة بالتقرير والاخبار. يختار الباحث اسم (التقرير) كنسق ويبحث عن جماليته، فهو لدى عبد الصبور يعد نموذجاً فيما يخص استخدام اللغة التقريرية، أي استخدام لغة تعيد الشاعرية إلى الألفاظ المهملة.
إن محصلة استقراء الباحث عن خصائص اللغة التقريرية ستحدّد طبيعة المصطلح، أي انكسار النموذج اللغوي الرومانسي، مع بقاء شظايا من (النسق القديم) وعدم التعويل على استخدام الاستعارات البعيدة، التي تحتاج إلى إعمال الذهن، ما يعني الميل للوضوح الدلالي والاتكاء على ما يسميه الباحث بـ المشترك الإدراكي بين المبدع والمتلقي.
تلك الخصائص تمثل لدى الباحث تصوراً عن معنى اللغة التقريرية، التي تبتعد عن النسق القاموسي والاستعارات، لكنه يستدرك ليقول بأن التقريرية كمصطلح مرتبط بالحياة اليومية، لا يمكن أن يكون دالاً على الظاهرة ، لأن استخدام لغة الحياة اليومية، لم يستمر على طول رحلة الإبداع لدى كل شاعر، فستبتعد قصيدة اليومي لدى صلاح عبد الصبور لينتقل إلى قصيدة القناع. ولدى أمل دنقل سيرتبط ذلك برصد مساحات الموت المرتبطة بالسأم والقنوط، ولدى حامد طاهر سيرتبط منحاها بالموظف البسيط الذي يشعر بالقهر والاغتراب الحضاري. ذهب الباحث ليعاين ما تنطوي عليه التقريرية من وضوح تجلى في شعرية أحمد عبد المعطي حجازي الأولى، وفي التحول (من سياق فطري إلى سياق معرفي تجريبي)، لكن الإلحاح على جزئيات وثيقة الصلة بالمشترك الإبداعي سيضاعف الرهان على الاقتراب من المتلقي، بخلق حوافز جمالية (للتقريرية).
وبهذا المعنى، فإن التقريرية لا تلبث أن تكون جزءاً لا يعكس شواغل القصيدة الحداثية، فاليومي والمعيش في معادلتهما الشعرية، ليس السيطرة على الكلمات، بل الطريقة التي تكتب بها تلك الكلمات، كما الكيفية التي تتناسب بها مع الاستجابة للكلمة، وإلا فسنذهب مع تساؤل الناقد الفذّ (آي.إي ريتشاردز): ما هو القيّم في الشعر؟!
في تحليل النص الشعري، ذهاب لأكثر من محاولة بنيوية تطبيقية تستبطن حداثة الشعر، وتضرب في جذوره، ما يقربنا من جمالية التحليل بمغايرة مقصودة، برغم جزئياتها المتواترة، وكثافة أمثلتها، وفراغاتها المواربة، بحثاً عما يعمق الرؤية بإشكاليات النص الشعري الحديث وأسئلته الوجودية، ليكتسب المنحى الإجرائي مواكبة أكثر فاعلية، خصوصاً لذلك الثراء النظري الذي استهلت به النصوص المدروسة لا تغفل جدل الخاص والعام، والانفتاح على نصوص أخرى محايثة....
أحمد علي هلال
الكتاب : في تحليل النص الشعري
No comments:
Post a Comment