هل هناك كتابة نسوية؟ وهل ثمة مغايرة بين أسلوب الرجل وأسلوب المرأة في الكتابة؟ وهل يمكن الوقوف على سمات معينة للكتابة النسوية؟ إن الإجابة عن هذه الأسئلة ليست شيئاً سهلاً كما يتصور البعض، لأن الإجابة يجب أن تكون مشفوعة بأسانيد معينة تؤيدها إذا كانت بالإيجاب أو بالسلب.
إن كل هذه الأسئلة تلح على ذهن المتلقي وهو يطالع المجموعة القصصية "جمرات تأكل العتمة، للقاصة منى المديهش، فقد يلمح المتلقي من البداية انحيازاً خاصاً لقضايا المرأة بوصفها شريحة أساسية للتكوين الإنساني تنتمي الكاتبة إليها.
التركيز أو التأمل في القصص المقدمة في المجموعة قد يؤدي إلى نسق معين من الكتابة يقف عند حدود التلميح، ولا يقترب مطلقا من التصريح، وحين تعالج قضية معينة تقدمها في إطار تغييبي معين، يفتح الباب للذهن لكي يذهب فيها في مسارب عديدة، ولكنها - على الرغم من هذا التغييب الذي يبدو متعمداً فنيا - تظل في حالة من الوهج الذي لا يحد.
ففي قصة الحلوى سنجد أن القصة تعمد إلى تغييب الموضوع الأساسي الذي نشأ حوله الخلاف، بحيث يكون الحوار دائراً حول جزئية غائبة عن المتلقي، وإن استطاع بحسه أن يصل إلى حد ما إلى طبيعة الموضوع، من خلال مناقشة الساردة للأب صاحب السطوة الأولى في ضرر الحلوى الذي يرفض أكلها لإصابته بالسكري، ومن خلال هذا الرابط تبدأ في معالجة موضوعها بشكل تغييبي تام.
وتلمح التقنية ذاتها في قصة جرح وكبرياء، بحيث يدور سرد القصة حول مطلق الخديعة بين صديقتين دون تعيين لطبيعة تلك الخديعة. وهنا سوف تلح بعض الأسئلة، منها: هل الأمر له علاقة بنسق اجتماعي معين يأبى ظهور مثل هذه الموضوعات بشكل واضح وجلي؟ أم إن طبيعة الكاتبة هي التي تفرض هذا النسق، بحيث تحاول أن تلح على القضية بحد ذاتها، سواء تعلق الأمر بمطلق الجرح أو الخديعة من الصديقة أم بمطلق التعلق بالخصوصية والتمسك برأيها وبحرية الاختيار دون وصاية من أحد.
إن تأمل قصص المجموعة سوف يجعلنا ننحاز إلى الاختيار الثاني، وفي هذه الحالة سوف تعود تلك التقنية إلى طبيعة الكاتبة التي تلح على مطلق الرفض، ومطلق الخصوصية، وتلح على حقها في الاختيار بعيدا عن سلطة تمارس سطوة معينة، حتى لو كانت هذه الخصوصية تؤدي إلى زلزلة القيم، والوقوف في منتصف الدرب، بعد وفاة صاحب السطوة، كما في قصة "الراحل"، فبعد وفاة صاحب السطوة كان هناك إحساس بفقد المظلة أو السماء...
ففي قصة "ضنى" تبدو ملامح التغييب واضحة من خلال الإلماح إلى وجود تعب كبير في المخ، وبعد الفحوصات يتأكد أنه ليس هناك ورم أو أي شيء، ولكن الساردة تجيب على الطبيبة أنه ليس ورما وإنما حلم كبير... فالإجابة بهذا الشكل لا تفض الإجابات المتعلقة برأس المتلقي، لأن الحلم الكبير تتوزعه الانحناءات العديدة، ومنها ما يرتبط بالرجل، ومنها ما يرتبط بصورة المرأة المتخيلة، ومنها ما يرتبط بالنحت في القادم والتلوين في تضاريسه، وكلها في النهاية جزئيات تتعلق بالنموذج المتخيل.
وربما يأتي موضوع النزوع إلى الحرية بوصفها موضوعاً أثيريا في كتابات المرأة، جزئية أساسية في تشكيل طبيعة هذه المجموعة القصصية، وفي تشكيل آليات السرد الخاص بها. ويتجلى ذلك في قصص عديدة. ففي قصة "الراحل" تتجلى قضية الحرية في صراعها الطويل مع الرجل بحيث يشعر المتلقي أن هناك نفورا من سطوة الأخ والمرتبطة بإصدار الأوامر وتقييد الحرية، وإعداد سيناريو الحركة واليوم بالنسبة لهن. ولكن هذا النفور يتحول بعد موت صاحب السطوة إلى إحساس خاص بفقد المظلة أو الحارس أو السماء التي تظل النساء.
وهنا يمكن أن يتساءل المتلقي عن سبب ذلك الإحساس الذي ينافي الإحساس بالنفور السابق، أهو نابع من شموخ الموت وجلاله، أم نابع من سلطة النفوذ التي تحتاج إلى مدى زمني لتنسم هواء الحرية والتعود عليه دون وصاية أو سطوة من أحد؟. إن المرأة الساردة - أو كل النساء الموجودات بالقصة - تظل بعد أن تحققت لها الحرية بالموت مشدودة إلى حنين ما، إلى عهد سابق، إلى كنف سطوة تظل متشبثة بها.
أما إذا انتقلنا إلى آليات السرد والضمائر المستخدمة، فإنه تجب الإشارة إلى أن استخدام الضمائر في السرد القصصي وثيق الصلة بوجهة النظر، وبالرؤية المقدمة في العمل القصصي. والمتأمل للمجموعة القصصية التي بين أيدينا يدرك أن معظم القصص جاءت في إطار سردي قائم على ضمير المتكلم، باستثناء قصة "طوايا القلب"، التي تعتمد على ضمير الغائب وقصة "جمرات تأكل العتمة" التي تنتهج تقنية الرسائل. ولضمير المتكلم مقدرة كبرى في إحداث التداخل بين السارد والشخصية، وكأن ضمير المتكلم يحيل إلى الذات، بينما ضمير الغياب يحيل إلى الموضوع. وهذا يشير إلى أن أغلب قصص المجموعة وثيقة الصلة بالذات المبدعة، بوصفها فرداً من جهة، وبوصفها علامة أو رمزاً لجنس تدخل في إطاره من جهة أخرى.
وفي إطار هذا الترابط بين السارد والشخصية تتعدد التقنيات الفنية بين الحلم وتيار الوعي، والتداعي. ففي قصة "طوايا القلب" يبدو تداعي الذاكرة أوضح ما يكون في جزئية البناء السردي للقصة، ففي بقايا الصوت المرتج من حفيد الحبيب، تبدأ دفقة الذكرى بالنسبة للجدة التي تسرد القصة حكايتها، للرجوع إلى الوراء ليلم المتلقي بقصة "حب"، عصف الزمان بها، فلم تتم، ولكنها ظلت ساكنة في العقل الباطن واللاشعور، تقاوم الموت والضعف الذي ألقى بظلاله على كل شيء، وكأن كل شيء - في منطق القصة يضعف وينتهي غير هذه الثلوج التي تتراكم بين حنايا القلب. وتطفو على السطح ذكريات المنع، فالأب اختار رجلاً آخر لابنته (الجدة) هل تلمح القصة - ولو من طرف خفي - إلى طبيعة المرأة الساكنة التي تسيرها الحياة كالريشة في مهب الريح، فلم يعد لها إلا الذكرى التي تصحو على عبق السنين؟.
إن السكون الذي أصبح علامة على الجدة - التي تشير إلى مدى زمني خاص بالماضي - أثر بالضرورة على توجه الساردة في قصة (جمرات تأكل العتمة)، تلك القصة التي جاءت في إطار الرسائل، ومن خلال تكامل هذه الرسائل وتكامل دلالاتها، تتكامل آليات السرد، وقد جاءت روايات عديدة في ذلك النسق الكتابي الخاص أهمها "بريد بيروت" لحنان الشيخ.
أقول إن توجه الساردة جاء مغايرا لتوجه الجدة، فقد انحازت للمكابرة والعناد، لأن زوجها اختصرها من لحظة خاصة ترتبط بعامها السادس عشر كما قال حجازي، ونتيجة لهذه المكابرة وذلك العناد لم تشعر بالحب الذي بدأ ينمو تدريجيا، وحدث الفراق، وظلت على الجانب الآخر تلعق جرحها.
Friday, July 10, 2009
الكتابة النسوية وآليات التغييب- عادل ضرغام
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment