شعرية القصيدة القصيرة
نماذج من الشعر السعودي المعاصر عادل ضرغام
يمكن للمتأمل في تاريخ الشعر العربي الحديث أن يدرك أن سمة التحول والتغير، هي السمة الفاعلة، بداية من شعر النهضة ـ بتعبير جابر عصفور ـ لدى البارودي وشوقي وحافظ، مرورا بالتجليات الإبداعية للرومانسية العربية، ممثلة في المهجر والديوان و(أبولو)، وانتهاء بالشعر التفعيلي، الذي كان التحول فيه ملموسا، لأنه لم يقف عند حدود المعاني أو الأفكار، وإنما جاء مرتبطا بخلخلة خاصة للشكل الإيقاعي المتوارث.
ولقد كان هذا التحول الأخير ذا تأثير فاعل في انفتاح الشعرية العربية، على أشكال عديدة، سواء على المستوي الجمالي أو الفني أو الأسلوبي، ولهذا لا يمكننا الإمساك بنمط ثابت أو أسلوب محدد للشعرية العربية المعاصرة، بسبب هذا التعدد.
وفي إطار هذا التعدد لم نجد أن هناك ارتكانا أو إيثارا تاما لشكل قار للقصيدة العربية، فهناك أشكال عديدة، منها القصيدة التقليدية، والقصيدة الطويلة التفعيلية، والقصيدة القصيرة، والنص البيني المتداخل، الذي لا يمكن وسمه بسهولة إلى نوع أدبي خاص. وتركيزنا في هذه الورقة سوف يرتبط ـ في الأساس ـ بتناول القصيدة القصيرة في الشعرية السعودية المعاصرة.
إن هذا التوجه البحثي، ربما يشدنا ـ بالضرورة ـ إلى أن هناك عددا من المصطلحات، قد قدمت للتعبير عن هذه الظاهرة الإبداعية، منها مصطلح التوقيعة، الذي قدمه عز الدين المناصرة سنة 1964 (فلقد كان عز الدين المناصرة أول من أطلق على القصيدة القصيرة لقبا عربيا هو التوقيعة/ التوقيعات، وهي القصيدة القصيرة المكثفة جدا. وقد بدأ في منتصف الستينات مستفيدا من نمط الشعر الياباني (الهايكو)، ومزج بين بناء الموروث ـ التوقيعات النثرية العباسية ـ ولغة الحياة اليومية الهامشية)(1) وذهب عز الدين اسماعيل في كتابه (الشعر العربي المعاصر)، إلى مقابلة القصيدة القصيرة بالقصيدة الطويلة، وسار على نهجه علي الشرع في كتابه (بنية القصيدة القصيرة في شعر أدونيس). واستخدم إحسان عباس مصطلح (القصيدة القصيرة) وقدم نزار قباني (البرقية) أو (التلكس) بعد هزيمة 1967، وقدم الشاعر السوري محمد حمدان مصطلح (البتلة أو البتيلة). واستخدم نقاد وشعراء آخرون، مصطلح الومضة، مثل الشاعر فواز حجو، والباحث عيسي قويدر العبادي، ومحمد غازي التدمري، والشاعر عبد المنعم عواد يوسف في دراسته لديوان كمال نشأت (مسافر ولا وصول)، واستخدم الباحث محمد ياسر أشرف مصطلح (النثيرة) ـ الذي يشير إلى تداخل النثري والشعري ـ في كتابه (النثيرة والقصيدة المضادة) كتاب الرياض الأدبي 1981.
ولكن تأمل هذه المصطلحات يشير إلى أن هناك اختلافا جوهريا، يتشكل في إطارين، الأول منهما: القصيدة القصيرة، والآخر يتمثل في المصطلحات الآخري مثل التوقيعة أو الومضة، أو البتيلة. والقصيدة القصيرة ـ بوصفها مصطلحا ـ لا وجود له في الشعرية العربية القديمة، فهي قصيدة إذا بلغت أبياتا سبعة، أو هي مقطوعة، وهي ـ في تحديد عز الدين اسماعيل ـ تصوير لموقف عاطفي في اتجاه واحد. أما الومضة أو التوقيعة، فهي ـ في تحديد عز الدين المناصرة ـ قصيدة مكثفة جدا.
والأمثلة ـ أو النماذج ـ التي قدمها عز الدين اسماعيل، وإحسان عباس لقصيدة القصيرة، التي قد تصل إلى صفحة أو صفحتين، لا علاقة لها بقصيدة التوقيعة أو الومضة، التي أشار إليها المناصرة 1964.
إن هذا الاختلاف الواضح بين المفهومين ـ بالرغم من الانتماء إلى مجال واحد ـ قد يشير إلى مصطلحي القصيدة القصيرة والقصيدة القصيرة جدا، وهما مصطلحان قد ولدا من التماس بين الأنواع الأدبية، ويشير ـ أيضا ـ إلى أن شعرنا الغنائي لم يعرف الشكل الشعري المغلق المحدد بعدد من المقاطع مثل (الهايكو) اليابانية المحدد بعدد معين من المقاطع في كل سطر شعري، فهي على الترتيب (5ـ7ـ5)، أو السونيت في الشعر الأوربي. وقد أحس عز الدين المناصرة بهذا الاختلاف، فقال في حوار له (كل توقيعة هي قصيدة قصيرة، ولكن ليست كل قصيدة قصيرة توقيعة )(2)
ولكن هذا الجدل، الذي قد يشير إلى فارق جوهري بين القصيدة القصيرة والومضة أو التوقيعة من جانب، ومن جانب آخر يشير إلى فوضي الاصطلاح، قد يشدنا إلى بحث الظاهرة في شكليها السابقين، فهل هي ظاهرة وثيقة الصلة بالتجريب، وببحث القصيدة الحديثة عن أشكال تخرجها من أزمتها الراهنة؟ أم إنها وثيقة الصلة بتراثنا الشعري؟
ولدينا في ذلك السياق اتجاهان، ربما لا يكشفان عن تنافر واضح، وإنما يكشفان في التجلي الأخير عن تكامل. الاتجاه الأول يري أن ظهور القصيدة القصيرة أو الومضة وثيق الصلة بالتجريب، وبالبحث عن أشكال جديدة للشعرية المعاصرة، انطلاقا مما تكفله القصيدة القصيرة من إمكانات تطويرية، فقد جعل عز الدين المناصرة من التجريب وسيلة تمهيدية إلى كتابة قصيدة التوقيعة. ويري محمد ياسر شرف أن النثيرة ولدت في شعرنا العربي من عقدين من الزمان، بتأثير من وجود حركة الشعر الحر)( 3)
يؤيد هذا الاتجاه، الذي يري أن قصيدة الومضة وثيقة الصلة بالبحث عن شكل تجريبي، أن عز الدين المناصرة أشار ـ وإن أشار إلى تأثرة بفن التوقيعات النثري في العصر العباسي ـ إلى تأثره بقصيدة الهايكو اليابانية، (وهي قصيدة عبارة عن مقطعة شعرية قصيرة تتكون من ثلاثة أبيات، أولها وآخرها خمسة مقاطع، ووسطها سبعة)(4)
أما أصحاب الاتجاه الآخر فيرون أن قصيدة الومضة، وثيقة الصلة بتراثنا الشعري، وإن وجدت تحت مسمي آخر، هو المقطوعة، يقول أحد الباحثين (ما نريد تأكيده هنا هو أن قصيدة الومضة ليست جديدة على موروثنا الشعري، بل إنها من أقدم أشكال الصياغة الشعرية مع اختلاف المسميات)( 5)
فالاقتباس السابق يستند إلى مقولات تراثية، تري أن الشعر لم يكن ـ في بدايته ـ قصائد طويلة، وإنما عبارة عن مقطعات أو أبيات يقولها الرجل لأداء وظيفة خاصة، وثيقة الصلة بلحظته الحضارية، من ذلك قول ابن سلام الجمحي (لم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبيات يقولها الرجل في حاجته)(6)، وقول ابن رشيق التيرواني (إن الشعر كله إنما كان رجزا وقطعا، وإنه إنما قصد، على عهد هاشم بن عبد مناف، وإن أول من قصد مهلهل وامرؤ القيس)(7)
والغريب في الأمر أن أصحاب هذا الاتجاه يستندون إلى المقطعة، التي كانت تؤدي دورا تواصليا في الشعر القديم، ولا يستندون إلى قاعدة مهمة في شعرنا القديم، وهي وحدة البيت، التي كانت تري أن تميز البيت الشعري يتمثل في عدم احتياجه إلى سابقه أو لاحقه، ومن هنا وجدت التسميات الفنية الدائرة في ذلك الإطار. إن التوقف عند بعض أبيات المتنبي، التي تكشف عن حكمة وتأمل واضحين، والمبنين على تجربة معيشة مسبقا، قد يكشف عن تشابه واضح مع التوقيعة في تجليها المعاصر...
والوقوف عند المقطعة بوصفها صورة من صور القصيدة القصيرة أو الومضة في شعرنا القديم، يشير إلى أن المقطعات كان لها دور واضح في شعرنا الجاهلي، لأداء دور تواصلي، ولكنها توارت ـ إلى حد ما ـ في العصر الإسلامي والأموي، وعادت للظهور في العصر العباسي استجابة للحظة حضارية، مؤداها، معاداة القديم بأنماطه، والخروج من أسر تقاليده.
إن اختيار أحد الاتجاهين لن يكون مجديا، ربما لأنه ليس هناك تنافر في أن تكون القصيدة القصيرة أو الومضة لها جذور في شعرنا القديم، سواء في المقطعة، أو في البيت الشعري المبني على الحكمة أو التأمل، أو تكون وثيقة الصلة بالتجريب الشعري المعاصر، فالواقع الإبداعي يثبت أن شعراء التفعيلة في أجيالهم المختلفة، استخدموا قصيدة الومضة أو القصيدة القصيرة، وكان لها تأثير قوي على الأجيال الجديدة، وخاصة شعراء قصيدة النثر، ربما تتمثل المغايرة في الدور الوظيفي الفني للقصيدة القصيرة، والذي تولد من جماليات خاصة لهذه القصيدة.
إن هذا الدور الوظيفي الفني، ما كان له أن يتم إلا في إطار استحضار التماهي الجنسي وذوبان الحدود بين الشعر و النثر، فمن المتعارف عليه ـ في فترات سابقة ـ أن للنثر استراتيجيات في التعبير تختلف عن استراتيجيات الشعر، فالنثر ـ على حد قول أحد الباحثين (يعتمد أساليب الحوار وتعدد الأصوات، والتقرير والبرهان والتحليل المستند إلى العقل، في حين أن الشعر يعتمد أساليب التصوير والإدهاش الناجم عن استخدام الخاص والشخصي)( 8)
ولكن هذا التحديد الصارم للشعر والنثر بمجالات وآليات محددة، أخذ يتواري بفعل الإبداع الشعري، الذي أصبح يلح على اليومي، وعلى الكلمات البعيدة عن الشعرية في تجليها القديم، ويتجلي ذلك في شعر إليوت، الذي تأثر به شعراؤنا، خاصة صلاح عبد الصبور، وقد أشار إلى ذلك التأثر في كتابه (حياتي في الشعر). ولقد تلاشي هذا التحديد الصارم بوجود كتابات تثبت الشعرية أو الأدبية للنثر أيضا، كما أسس تودروف، فأصبحنا نقرأ دراسات تحت مسمي شعرية الرواية، شعرية دستوفسكي، وبلاغة السرد.
وهكذا غدت العلاقة بين الشعر والنثر ـ حسب عز الدين اسماعيل ـ علاقة تفاعلية تقوم على الأخذ والعطاء، في جدلية تعبيرية، أنتجت شكلا جديدا وطريفا من الفن الشعري، أهم ما يميزه الحركة والحيوية، التي تميز النثر عادة، فضلا عن التكثيف والاقتصاد اللغوي والترميز الذي يميز الشعر)( 9)
إن ذوبان الحدود بين الفنون الأدبية أمر حتمي، في ظل وجود مصطلحات تشكل جنسا بينيا بين جنسين أدبيين مثل (نصوص) و(الكتابة عبر النوعية) وفي ظل غياب الإيقاع المتوارث والمقرر، لدي شعراء قصيدة النثر، وفي ظل وجود كتابات لا يمكن حسم أمرها بسهولة، فكتاب (انفعالات) لناتالي ساروت، الذي ترجمه فتحي العشري 1971، يمكن اعتباره قصائد نثر، وليس قصصا قصيرة، ذلك العنوان الذي كتبة الناشر. وقصص جبير المليحان تدخل في النسق ذاته، فهي مكثفة، ولا تعتمد على السرد التتابعي المعهود، وإنما تعتمد على السرد الذهني أو الفكري.
هذا التداخل بين القصة القصيرة في اقتصادها اللغوي، وبين القصيدة القصيرة أو الومضة لانحيازها إلى البسيط، والفكري والذهني، جعل بعض الباحثين ينتبهون لهذه العلاقة الجدلية، القائمة على الأخذ والعطاء، يقول أحد الباحثين (إن ما يقال عن القصة القصيرة يقال عن الومضة تقريبا، وكأنهما توأم تخلقتا في رحم واحد، وولدتا في وقت متقارب، وتجمعهما خصائص مشتركة، وملامح متقاربة، وربما كانا أكثر الأشكال تقاربا وتشابها، لأنهما جنسان أدبيان قابلان للاختلاط والتماهي، بحيث تمحي بينهما الفوارق، ولا تكاد تبين)( 10)
إن هذا التماهي الجنسي، وفر ـ بالضرورة ـ لكتاب القصيدة القصيرة أو الومضة، منعطفات قد تكون مهمة في تطوير القصيدة الحديثة، من حيث خصائصها وسماتها،ومن حيث بنيتها القائمة على الكثافة والاكتناز.
وقد يكون الاكتناز أو الاقتصاد اللغوي أولى سمات هذه القصيدة، فهي قصيدة فائقة الحساسية، ولا تحتمل زوائد بنائية قد تكون مؤثرة على شرط التكثيف، فالتكثيف سمة أساسية، بغض النظر عن تناولنا الذي لا يفرق بين القصيدة القصيرة التي قد تطول إلى صفحة أو صفحتين، وبين الومضة أو التوقيعة التي يعرفها عز الدين المناصرة (بأنها قصيدة قصيرة مكثفة، تتضمن حالة مفارقة إدهاشية، ولها ختام مدهش مفتوح أو قاطع أو حاسم، وقد تكون قصيدة طويلة إلى حد معين، وتكون قصيدة توقيعة إذا التزمت الكثافة والمفارقة والومضة، والقفلة المتقنة المدهشة)( 11)
وتتجلي سمة الكثافة في إبداع الشعراء السعوديين بشكل لافت، بحيث جاءت قصائدهم القصيرة مكثفة إلى حد يعيد، ولا تخرج عن نطاق الجملة، فحين يقول حسن السبع في (قصيدة إشارة)(12)
لا تصطحب
ذاكرة
زاخرة
بالضجيج
إن أنت
سافرت
إلى قرطبه
نجد أن النص يتكون من جملة شرطية، جاءت جملة الجواب مقدمة على جملة الشرط، وهي قصيدة بسيطة من الناحية التركيبية، ولكنها دلاليا قد تشير إلى مدي واسع يرتبط بالراهن أو الآني، ولا يمكن استحضار هذه الدلالة إلا بوجود متلق سريع البديهة لالتقاط الدلالة ذات الإشعاع القوي، التي تولد في منطقة اللاشعور، فتترك انطباعا لا يمحي، ولهذا سميت الومضة، لأنها تلتقط الدلالة في لحظة وميض ما.
فعدم اصطحاب الذاكرة المملوءة بالضجيج، التي تحيل إلى ماض زاهر، سوف يوفر على المخاطب ـ أو المتلقي أو العربي ـ المفارقة المميتة، التي تقارن بين الماضي الزاهر والآني المشوه والمستلب. وهي قصيدة ربما تكون قد اتكأت على قصائد مهمة سابقة في ذلك السياق، ولكنها اختارت التوجه إلى نسق بنائي خاص، لمحاولة تحقيق تواصل مع المتلقي، ومن ثم فهي ـ بالإضافة إلى الاكتناز اللغوي ـ تحاول أن ترفع المهابة البلاغية عن اللغة الشعرية، وتقدم لغة بسيطة تقوم على توليد الدهشة والدلالة المتحركة، وهذا يجعلنا نشير إلى أن خصائص أو سمات القصيدة القصيرة أو الومضة لا تتجلي وكأنها آليات منفصلة، ولكن حضور قصيدة واحدة كفيل بأن يشكل أمامنا عدة سمات متجاوبة.
فسمة الاقتصاد أو التركيز لا تتجلي بشكل منفرد، وإنما كان التوقف عند كل سمة بشكل منفرد، حتي يكون هناك إلمام بتجلياتها المختلفة، ففي بعض الأحيان- نظرا للتركيز والاقتصاد اللغوي ـ يجئ العنوان بوصفه جزئية فاعلة في تشكيل الدلالة، وتوليد الوميض في ذهن المتلقي، كاشفا عن دلالة تسهم في توجيه المتلقي، ففي قصيدة (تنسكب كليل ضفائرها)(13)، لعبد الرحمن الشهري:
لا وقت لدي،
كي أرصد بعض هدوء،
يسبقها.
نجد أن المتلقي بدون استحضار العنوان، الذي يشير إلى فعل الذكري ويقظتها في كيان السارد الفعلي في النص، بحيث تتشكل دائرة مغلقة على السارد، لا يستطيع الفكاك منها، لا يمكن أن يصل إلى فعل الوميض الدلالي الجزئي المرتبط بطبيعة الومضة الشعرية، فالعنوان يجعل المتلقي يختار المنحي الفعال لتشكيل الدلالة المرتبطة بفعل الذكري وأثرها، فالهدوء الذي يسبق انزياحات الذكري العديدة غير متاح، ومن ثم فالسارد في أفق مغلق، وليس هناك منافذ ضوء تبدد هذا الظلام.
ووقوف قصيدة الومضة عند حدود جزئيات خافتة في التجربة المعيشة، وثيق الصلة بهذا الاكتناز، لأن الشاعر السعودي المعاصر ـ وخاصة شعراء الشباب ـ لم تعد تشده الموضوعات الكبري، التي لاكتها الأقلام, وإنما أصبح الشاعر يبحث عن المهمل أو الهامش الداخلي، يحاول أن يبث فيه الجمال والشعرية.
ولكن هذا الاكتناز اللغوي، لا يقف عند حدود الدلالة الوامضة، التي يشعر بها المتلقي ويختزنها، وإنما يمتد دلاليا ـ بالرغم من هذا الاكتناز ـ لكي يشير إلى مدي دلالي واسع، قد يرتبط بالتفكير أو التأمل، والشاعر السعودي في ذلك السياق، يحاول أن يرصد مساحات التغير أو التبدل التي لحقت بالذات الفردية أو المجموع، ففي قصيدة عبد الرحمن الشهري (على بعد جيلين)(14):
هل نحن في حاجة للصور
عندما لا نكون سوي آخرين
فالقصيدة لا تزيد عن سطرين شعريين، ولكنها ـ عند التأمل ـ تعطي دلالة مرتبطة برصد مساحات التغير الخاصة بالذات الفردية، ولا تقف مساحات التغير عند حدود التغير الشكلي الحادث بين الصورة المحفوظة للسارد منذ عشرين عاما، والصورة الآنية، وإنما مساحات التغير ترتبط ـ أساسا ـ بالداخل، لأن النفس الإنسانية ـ بفعل العراك مع الخارج ـ قد تفقد منطلقاتها الأساسية، وتكتسب ـ بالضرورة ـ منطلقات جديدة، تشي بالاختلاف عن المنطلقات السابقة، التي كانت مطروحة للتحقيق سابقا.
والقصيدة لا تنتهج الشعرية الغنائية، للتعبير عن مساحة الموت لمناطق خضراء سابقة، وللإشارة إلى الموت الآني، وإنما تكتفي بهذه البنية الخاصة للإلماح إلى ذلك الموت، وذلك التغير.
إن رصد مدارات التحول في الشعرية السعودية، لا يقف عند حدود الذات، وإنما قد يكون التحول مرتبطا برصد حالة تحول عامة من جيل إلى جيل، ولا يستطيع الجيل الجديد أن يدفع هذا التحول الحاسم، وإن ظل حنينه مرتبطا بالقديم وبهائه، يتجلي ذلك حين نقف عند قصيدة محمد حبيبي (ريحانة)(15):
غرستها أمي في صحن الدار
لعروسي نذرتها
في أول أيام العرس
تورق
خمسين بلاطة.
فمعاينة القصيدة تثبت أنها قائمة على التقابل الذي يولد المفارقة في النهاية، فهناك الريحانة والأم في جانب، حيث ينتميان إلى لحظة سابقة وإلى جيل سابق، وهناك السارد الفعلي والبلاطات، التي تشير إلى توجه عصري خاص. وكل قسيم يشير إلى قيم خاصة ، فالجانب الأول (الأم والريحانة) يشير إلى قيمة الفطرة والطزاجة والبداوة، والجانب الآخر (السارد والبلاطات الخمسون) يشير إلى لحظة آنية، يفرق منها، ولكنه منغرس فيها، لا يستطيع دفعها، لأنها تشكل واقعا فعليا.
وفي إطار هذا العرض الثنائي تتشكل المفارقة، فالمفارقة ـ كما يقول د. س. ميوك (ليست مجرد قضية رؤية المعني الحقيقي، تحت السطح الزائف، ولكن من خلال رؤية العرض الثنائي في إطار واحد)*
أما السمة الثانية التي تشكل حضورا لافتا في قصيدة الومضة، أو في القصيدة القصيرة في الشعر السعودي، فهي تتمثل في جمالية التقرير، فالشاعر المعاصر يحاول إقامة نوع من التواصل مع المتلقي، ومن ثم يحاول ـ في إحيان ليست قليلة ـ رفع المهابة والجزالة عن لغتة، وهذه السمة قد تشدها إلى العفوية، التي يمكن أن تكون سببا من أسباب عذوبتها ونفاذها وثباتها، في ذاكرة المتلقي، أكثر من ثبات قصيدة طويلة. فلغة القصيدة القصيرة ـ بالرغم من اكتنازها الشديد ـ تنتهج نمطا لغويا خاصا، فهي لا تستخدم لغة مجازية تفيض عن حاجتها التواصلية، أو استعارات قد تكون خارقة للأعراف أو للمقرر، وإنما تستخدم لغة تقريرية.
والاتكاء على اللغة التقريرية، يجاوبه ـ بالضرورة ـ الإلحاح على سمات معينة، تتجلي بشكل واضح في قصائد الشعراء، منها أن الشاعر المعاصر لم يعد معنيا باستخدام التعبيرات التي تشير إلى خرق متعمد لمواضعة لغوية، وليس معني هذا أن الشاعر لم يعد يستخدم الاستعارة، وإنما معناه أن الشاعر لا يعمد بشكل مباشر إلى استخدام الاستعارات البعيدة الأطراف، وحين تأتي في شعره، فإنه يكيفها في شعره، بحيث لا يشعر المتلقي أن هناك جنوحا لبناء نسق استعاري خاص.
ويتكرر هذا المنحي الخاص المرتبط ببساطة تركيبية، والمملوء بنسق تقريري، لا يعول كثيرا على الاستعارات البعيدة الأطراف، في ديوان محمد حبيبي (أطفئ فانوس قلبي) ففي قصيدة الأولي في الديوان (مشابك) يقول (16):
نحلم
ن ح ل م، نحلم، ن ح ل م، نحلم...
في الصبح نحمل أحلامنا لنجففها
وكي لا تطير بعيدا
نثبتها بمشابك
المشابك
محض كلام.
نجد أن هذه القصيدة بسيطة تركيبا، ولا تعتمد على الاستعارات البعيدة الأطراف، التي شكل الاعتماد عليها طبيعة الشعرية العربية، ولكن هناك صورة في النص، قد تشكل معارضة لمنحي التقرير، وهي تجفيف الأحلام، وتثبيتها بمشابك، وهذه الصورة، لا تؤثر في وجود نسق استعاري سائد يمكن أن يشعر به المتلقي، نظرا لطبيعة شعر محمد حبيبي، التي تتحرك ببطء تجاه النسق الاستعاري، فشعريته تقدم هذا النسق بالتدريج، فنصه يشكل في وعي المتلقي سياقا خاصا، قبل هذه النقلة الاستعارية، وحين يصل إلى هذه النقلة، يجدها داخلة في إطار سياق دلالي يكيفها، ومن ثم لا يشعر المتلقي بأي صعوبة أو معاظلة في تلقيها، بل لا يجد ـ والحال تلك ـ مبررا للوقوف عندها واستبيان دلالتها بشكل استثنائي فردي، وإنما يجد نفسه مشدودا إلى الكيان الفكري الذي يحاول النص الشعري ارتياده.
والنص الشعري من خلال تلك البساطة التركيبية، يستدعي نسقا دلاليا مهما، فالنص الشعري، يشير إلى مناخين هما: (المساء ـ الليل)، و(الصباح ـ النهار), وكل مناخ منهما له دور فاعل في تشكيل طبيعة توجه السارد الفعلي في النص، فالمساء والليل يأتيان وكأنهما يشكلان نسق المراقبة، والتأمل للمتخيل النموذجي المرتبط بالآمال والأحلام، وكأنهما يقيسان حجم المتحقق من هذا المتخيل النموذجي في كل ليلة. أما (الصباح ـ النهار) فيأتيان بوصفهما معادل سعي، للاقتراب من هذه الأحلام والآمال، التي تشكل المتخيل النموذجي، فالإنسان فضلا عن الشاعر يضع أمامه ـ بداية من الإحساس بالوعي والالتحام بالحياة ـ متخيلا نموذجيا للوصول إليه، قد يرتبط بالأمل أو الحلم، أو بصورة خاصة للذات، وهذا النسق لا ينتهي، لأن الإنسان إذا حقق أملا، ينتقل ـ بالضرورة ـ إلى أمل آخر يحاول تحقيقة.
وفي ديوان عيد الحجيلي (قامة تتلعثم) يأتي المنحي الخاص بجمالية التقرير، المشدود حتما إلى القصيدة القصيرة، مرتبطا في الأساس بجزئية الوعي الحياتي المعيش، ودوره في التحول من شكل إبداعي يرتبط بالقصيدة الطويلة القائمة على الاستعارات البعيدة الأطراف بوصفها نسقا يتجه إليه الشاعر بشكل مباشر، إلى نسق يرتبط بالقصيدة القصيرة، المرتبط بشعرية تأملية, فقدت منطلقاتها الأساسية من خلال فقد المتخيل. فالديوان جاء مقسما إلى جزئين: الجزء الأول (أجراس الصمت)، وفيه تتجلي القصيدة الطويلة بنيتها الاستعارية اللافتة، أما الجزء الثاني (خيبات واجفة)، فيأتي مرتبطا في الأساس بالقصيدة القصيرة مقدما شعرية تبني على البساطة التركيبية، وعلى جمالية التقرير، يقول الشاعر في قصيدة (دعوة)( 17 ):
اضحكوا....اضحكوا.... اضحكوا....
فغدا ترتدون على ريش أحلامكم
جبة الذاكرة
إن الوعي الخاص رافقه تحول يرتبط بلغة الشعرية، فلم تعد استعارية، كما تجلت في الجزء الأول من الديوان، وإنما أصبحت ترتبط ـ لفقدها المتخيل أو الإيمان بمشروعية تحقيقه ـ بالتقطير الخاص، والمرتبط ـ حتما ـ بالاصطدام بالواقع، وبالانعتاق من سلطة وجود المتخيل، يتجلي ذلك في قصيدة (حصاد)(18) :
كلما نضجت فكرة
في عذوق السهر
وجد الثلج مسترخيا
في سرير الحروف.
إن الشعرية ـ هنا ـ لم تعد الشعرية الأولي، التي قدمت في الجزء الأول من الديوان، المنطلقة من الإيمان بقيمة الكلمة، ودورها في التغيير والنفاذ، وإنما هي شعرية تولدت بعد العراك، والاصطدام بالواقع، وناتجة عن الوعي والإدراك، ومن ثم جاءت شعرية ساكنة، غير قادرة على النفاذ والفعل، لأنها فقدت إيمانها بالمنطلقات الأساسية، وفقدت إيمانها بقيمة المتخيل وانتظاره.
وتتجلي جمالية التقرير ـ أيضا ـ في اتكاء القصيدة القصيرة في بعض الأحيان على الوعي الإدراكي المشترك بين المبدع والمتلقي، وهو توجه يأتي في سياق حرص الشاعر المعاصر، على التواصل مع المتلقي، ويرتبط بالإنساني في مداه الرحب، وفي ذلك السياق سوف تقابلنا قصائد لا تخرق مواضعة لغوية، ولكننا مع ذلك نشعر بجمالها، وحين نحاول تبرير هذا الجمال، لن نجد إلا مقدرة الشاعر في التقاط صورة شعرية يدركها المبدع، ويدركها المتلقي وتتحد بالإنساني، فحين يقول محمد حبيبي في قصيدة (حريم):
حريم تقاضمن
حول فناجين تفرك آذانها
ذيول العباءات تمشط
حكي الأزقة
فيما المحمص من بنهن
تطاير صوب فراغ ثنايا تمصمص غيبة
جاره
نشعر أن الصورة التي يلتقطها الشاعر، ويقدمها للمتلقي، وثيقة الصلة بالإنساني، وبالبيئة التي ينتمي إليها، فهي صورة عادية، ويدركها كل إنسان، ولكن الشاعر ـ الشاعر الحقيقي ـ هو الذي يستطيع أن يلتقطها، ويقدمها في ذلك السياق الخاص، المملوء بالبساطة والتقرير، والمهموم بالتقاط ما لا يلتقط، أو تكديس ما لا يكدس، فصورة النسوة الجالسات حول فناجين القهوة، بالإضافة إلى التحدث عن الأخريات الغائبات صورة عادية، ولكن الفن، هو الذي يغير في معالم الصورة، فيجعل الجزئيات المادية داخلة في إطار الصورة، وهي ـ أي الجزئيات المادية ـ لا تقف عند حدود الوجود المادي، وإنما تطل فاعلة، وكأنها كائن حي يشارك في الفعل.
إن القصيدة القصيرة في الاتكاء على اللغة التقريرية، لا تقف عند حدود البعد عن الاستعاري العلني، أو الارتباط بالمشترك الإدراكي بين المبدع والمتلقي، وإنما تنتهج ـ في بعض الأحيان ـ آلية وثيقة الصلة بالشعرية المعاصرة، وهي آلية الإخبار، تلك الآلية التي تجعل القصيدة القصيرة ـ بالرغم من اكتنازها اللغوي ـ منفتحة على السرد، الذي قد يبدو للوهلة الأولي ضدها، نظرا لكثافتها، وبنيتها المحدودة.
ولكن الشاعر السعودي يستخدم هذه الآلية في القصيدة القصيرة بشكل خاص، بحيث لا يطغي ما هو نثري على حرارة ما هو شعري، ولا يطغي ما هو شعري على تفاصيل مهمة في سياق إنتاج الدلالة، يتجلي ذلك واضحا في قصائد حسن السبع، ومحمد حبيبي، وعبد الرحمن الشهري، وصالح الحربي.
هذا التوجه الإبداعي القائم على الإخبار، والمنفتح على السرد، يتجلي بشكل واضح في إبداع حسن السبع، ففي قصيدة بعنوان (سأم)( 19):
كنا صغارا
وكنا نحب صديقتنا الشمس
حبا تجاوز حد الخيال
وفي رأس كل صغير سؤال
وكنا سنسألها بالتناوب
ولكن أستاذنا الفلتة الفذ
قد غلق النافذات
وراح (يعنعن) حتي
سرت في المكان.... وفينا
وفي الشرفات القريبة
عدوي التثاؤب.
فالقصيدة تبدأ من خلال الفعل (كنا)، والذي يضع الإخبار المنفتح على السرد في حيز الوجود الدلالي للنص، ويتشكل من خلال هذا النسق الإخباري، جانبان متقابلان، وكأنهما يمثلان طرفي تفيض، الجانب الأول: جانب الصغار، الذي لا يملك إلا نهمه، للمعرفة من خلال التوجه إلى الشمس لبناء الوعي الخاص، دون وسيط يعرقل هذا البناء. والجانب الآخر: الأستاذ المشدود إلى نسق خاص، منزو وراء أفق حتمي يرشد له المعرفة والإدراك، والمملوء بسلطة خاصة، تتيح له التحكم في مصادر الضوء والتواصل بالنسبة للجانب الأول.
والقصيدة في انتهاجها ذلك المنحي الإخباري المشدود إلى السرد، وإلى شخوص تشكل اتجاهات متباينة، لم تستسلم للعناصر الإخبارية أو السرد استسلاما كاملا، وإنما حافظت على الشعري، الذي يطل بالتناوب في شكل دفقات متتالية، تنقذ النص الشعري من هذا الانخراط في السردي، المشحون باليومي إلى حد ما.
إن السمة الثانية، الخاصة بالقصيدة القصيرة، والمرتبطة بالاتكاء على جماليات التقرير، جاوبتها سمة آخري مهمة، وهي سمة تغيب الإيقاع، فالإيقاع لدي الشاعر المعاصر، ليس الإيقاع الصارخ الذي يتولد تلقائيا، ويدركه المتلقي بمجرد أن يقوم بقراءة أولى للنص، وإنما هو إيقاع خاص ينطلق من محاولة تفتيت هذه البنية الإيقاعية القديمة، لكي يبني مكانها إيقاعا خاصا قائما على الفكرة.
وليس معني هذا أن الشاعر لا يستخدم البنية الإيقاعية الموروثة، وإنما المقصود أن الشاعر يبرد هذا الإيقاع، بتعبير عز الدين المناصرة، بحيث يكون التوجه الأساسي إلى الفكرة، فالنص الشعري يحاول من خلال هذا التوجه الإيقاعي توجيه المتلقي إلى الفكرة المشكلة، وإلى البناء، حيث يشكل هذا البناء إيقاع النص الخاص، ففي قصيدة علي الدميني (كان وأختها)(20):
الزمان الذي كان لي خاشعا
كان يضحك مثلي،
ويمشي ورائي،
والزمان الذي صرته راكعا
يتقدمني في الزيارات
يلبس ثوبي
ويشرب كوبي
وحين يري أصدقائي
يقبلهم واحدا واحدا
ثم يلعنهم واحدا واحدا
ثم يبكي بكائي
ففي هذه القصيدة، ندرك أن التوجه الأساسي من العنوان، لا يروم التوسل إلى المتلقي من خلال بنية إيقاعية معلنة، وإنما يحاول أن يبني إيقاعا فكريا يقوم على محاولة استبيان التطابق والتدابر، بين كان وأختها، أو بين الشاعر وزمنه، أو بين الشاعر وظله. والمدخل المناسب لا ستبيان هذه الفكرة أو إيقاع الفكرة، بين انخراط في التشابه وانخراط في الاختلاف، يبدأ من العنوان، فكان تعمل عملا محددا، وأي من أخواتها تقوم بهذا العمل، ولكن الشكل يختلف. إن مدار التشابه والاختلاف بين كان وأختها، يجعلنا نتوقف عند دلالة النص وقفة خاصة، فالقصيدة تحاول أن ترصد مدارات التشابه والاختلاف، بين الشاعر وظله، وبين الشاعر وزمنه. ففي فترة من الفترات يكون هذا التطابق موجودا بين الشاعر وزمنه، وبين الشاعر وظله، وتشير القصيدة إلى إيقاع هذا التطابق في السطور الثلاثة الأولي.
ولكن هذا التطابق يبدأ في التلاشي، بداية من السطر الرابع إلى السطر العاشر، ليحل التنافر إيقاعا فاعلا، فالزمان الذي كان في حالة توافق، أصبح يمارس دوره في انحناء السارد، والظل ـ الذي كان متطابقا ومشكلا وحدة خاصة بين الإنسان وظله ـ أصبح ذا سلطة فاعلة ومؤثرة، تقود الإنسان، يتجلي وجود هذا الظل في وجود مساحة بين الظاهر والباطن (يقبلهم واحدا واحد ـ ثم يلعنهم واحدا واحد)......
ولكن هذا الخروج المفضي إلى تباين بين الشاعر وزمنه، وبين الشاعر وظله، لا يستمر إيقاعا فاعلا، وإنما يعود التوحد بالذات، في لحظة الانكسار الأخيرة، من خلال قوله (ثم يبكي بكائي).
إن تغييب الإيقاع يمارس دوره في توجيه المتلقي نحو مدارات التجاذب والتنافر، والتحول المرحلي من لحظة إلى آخري، فالتطابق الذي ظهر في البداية، يشير إلى تطابق في التوجه بين الشاعر وظله، والتنافر الذي ظهر في المنتصف يشير إلى هزيمة الإنسان، وبقاء الظل بمفرده مؤمنا بقدرته في تثبيت وإرساء مفاهيمه الخاصة، والتطابق الأخير يشير إلى هزيمة تلقي بظلها على الإنسان وعلى الشاعر/ الظل، في وقت واحد.
ويبدو أن الشاعر المعاصر أدرك أن خفوت الإيقاع مهم، لكي يتم الشعور بمناح دلالية فكرية يركز عليها، وكأن نبرة الإيقاع الوزني العالية ـ وكذلك اللجوء إلى الاستعارة المعلنة ـ يغيب ـ من وجهة نظره ـ الدلالة الفكرية، التي يحاول تأسيس أو تفعيل تكوين المتلقي للنظر إليها. فالشاعر المعاصر لا يعمد إلى جزئيات لها حضور فاعل أو تأسيس سابق، وإنما يعتمد إلى جزئيات شديدة الخصوصية بالذات الشعرية المعذبة، جزئيات مهملة أو مهمشة، يحاول أن يزج بها في المتن، لكي يخلق لها البهاء المناسب.
وإذا كان الشعر يقوم في الأساس على أقانيم ثلاثة هي الإيقاع والصورة والفكر، فإن تغييب الإيقاع، والبعد عن الاستعارات المعلنة سوف يجاوبه ـ بالضرورة ـ اتكاء أكبر على الفكرة أو الدلالة، التي تأتي بوصفها التوجه الأساسي، الذي يتجه إليه شاعر القصيدة القصيرة.
وربما كان الشاعر حمد الفقيه شاعرا مهما في إطار تلك الجزئية، فكثير من قصائده التي احتواها ديوانه (نقف ملطخين بصحراء)، تنحو هذا المنحي الخاص، فالإيقاع في قصائده، لانكاد نشعر بوجوده، إلا إذا قام المتلقي بتقطيع السطور الشعرية تقطيعا عروضيا، يقول حمد الفقيه في قصيدة (حالة)(21):
من الغيم أشتف صورته الآن يأتي كأول طفل
ويدخل من رعشة الباب يأخذ هذا المكان
الفجائي يلمس
بعض دمي
تتهيأ كل التفاصيل
تنبت عاطفتي على الجدار
فهذه القصيدة تعتمد على بحر المتقارب المعروف بجرسه الموسيقي الصارخ، ولكن المتلقي، لا يشعر بهذا الإيقاع، لأن هناك تغيبا معتمدا للإيقاع، لكي يتم الاهتمام بالمنحي الدلالي، فالنص حالة من حالات خلق التذكر، وهذا الخلق أو تكوين التذكر لا يتم في لحظة واحدة، وإنما يتم على مراحل متوالية، وكل مرحلة من مراحل استيلاد هذا التكوين، تبدأ بالفعل (أشتف ـ يدخل ـ يلمس ـ تتهيأ ـ تنبت)، فكل فعل من هذه الأفعال يشكل مرحلة من مراحل هذا التكوين القائم على الذكري.
فالفعل (أشتف) المرتبط بالغيم، يشير إلى نسق غير متحقق واقعا، ويشير إلى مسافة زمنية تفصل السارد في النص عن هذا الأمر، بينما يشير الفعل يدخل إلى انتهاء فعل التكوين، وإلى بث الحركة والحياة، ويشير الفعل يلمس إلى تأثير هذا الحضور على الذات الشاعرة، وهو تأثير خاص، لأنه يلمس الدم، ومن ثم تتهيأ التفاصيل للاحتفاء بهذا القادم، الذي يعلن عن نفسه حضورا كاملا، ومن ثم تنبت العاطفة في النهاية.
ولكن هذا التفصيل الخاص لمراحل تكوين فعل التذكر واستيلاده أو تكوينه لم يفض إلى تحديد توجه النص دلاليا، ولكن كلمتي الطفل في السطر الأول، والعاطفة في السطر الأخير تشيران إلى لحظة الحب الأولي، التي تظل عالقة بذهن الإنسان، وتلح عليه في أحيان ليست قليلة، وفي لحظات خاصة، مرتبطة بالعصف والحساب، وهذا التوجه الفكري، ربما تجلي بشكل واضح، في قصيدتين لصلاح عبد الصبور، هما (الطفل) و(العائد)، ولكن حمد الفقيه لا يعتمد الغنائية، التي اعتمد عليها صلاح عبد الصبور في نصيه، وإنما يعتمد على تصوير حالة شديدة الخصوصية بمراحلها العديدة، التي أشرنا إليها.
أشكال القصيدة القصيرة:
أشرنا ـ سابقا ـ إلى أن الشكل المحدد، ليس له وجود فعال في شعرنا العربي قديما وحديثا، كما تجلت هذه الأشكال في الآداب الأجنبية، وعلى هذا الأساس، فالحديث عن شكل ثابت للقصيدة القصيرة، يعد عملا ليس له ما يبرره منطقيا.
وفي إطار هذا التوجه، الذي يشير إلى أن القصيدة القصيرة، لم تتبع شكلا واحدا، وإنما تجلت في أشكال مختلفة، فيمكن الإشارة إلى أن هذه القصيدة، (ظلت تتمحور ـ كما يقول حنا عبود ـ حول بضعة أسطر شعرية قد تزيد أو تقل، وذات انطباع واحد)( 22).
ويمكن للباحث أن يشير ـ في ذلك الإطار ـ إلى شكلين من أشكال القصيدة، كما تجلت لدي الشعراء السعوديين المعاصرين، وهما: الشكل الأول: القصيدة القصيرة القائمة بذاتها،مجموعة سطور قد تزيد أو تنقص. والشكل الأخير: القصيدة القصيرة المكونة من مقاطع، ويمكن أن نسميها الشكل المركب، الذي قد يشير إلى أن هناك سمة الاستقلال، وسمة الإطار العام التركيبي، مشكلة في النهاية بنية جزئية للانفصال، وبنية كلية للاتصال.
الشكل الأول: القصيدة القصيرة القائمة بذاتها:
تقوم القصيدة القصيرة في إطار ذلك الشكل على بنية متجاوبة، ومتكاملة كالمبتدأ والخبر، فالسطور متشابكة تركيبيا ودلاليا، مما يخلق في النهاية تدويرا خاصا،لا ينتهي إلا بنهاية القصيدة ففي قصيدة (هو) لعيد الحجيلي(23):
بعدما ضاقت ثيابي
غرق العشب بحلقي
جف قنديلي
توارت جبهتي
قذفتني الريح
في بطن السهوب الحجرية
يدرك المتلقي، أن هناك ارتباط خاصا بين السطور الشعرية، والقصيدة في النهاية تشكل جملة واحدة، شبيهة إلى حد بعيد، بالشرط وجوابه، بالفعل ورد الفعل، فالقصيدة تبدأ (بعدما)، التي هي ـ في اصطلاح النحويين ـ تربط حدثين معا، وهي تدور دلاليا حول النمو الجسدي، الذي ينفتح ـ بالضرورة ـ حول النمو المعرفي، الذي يهشم طبيعة الأشياء، ولا يجعلها تقف عند تحديدها الصارم الفطري، ومن ثم كانت النتيجة مملوءة بالتحول من خلال (جف قنديلي ـ توارت جبهتي ـ قذفتني الريح).
والبحث في جمالية هذا الشكل الشعري، من القصيدة القصيرة، يتمثل في النظر إلى الشكل البنائي، الذي يتحرك تدريجيا من البداية إلى النهاية، وهذا قد يشير إلى قيمة الخاتمة أو النهاية، وهي نهاية تسمي ـ باصطلاح علم الأسلوب ـ المفاجأة الأسلوبية أو خيبة الانتظار.
والخاتمة ـ في ذلك السياق التي تأتي نتيجة لتبلور الرؤية الشعرية ـ هي التتويج البنائي، ففيها الكثافة والتوهج، والميل إلى الامتلاء الشعري، فالنهاية ـ أو ذروة الختام ـ ليست ـ كما تقول بشري موسي صالح ـ (ذروة فقط، بل لحظة تنوير أو محور أو بؤرة، فالنهاية هي لحظة الشعرية فيها)(24)
والقصيدة القصيرة ـ في ذلك الإطار الشكلي ـ لا تنبع نمطا واحدا، وإنما تأخذ أنماطا عديدة، ولكنها في النهاية داخلة في ذلك الإطار العام:
النمط الأول يتمثل في الاعتماد على بنية التقابل، الذي يفضي في النهاية إلى المفارقة، والمفارقة هي التي تولد هذه اللحظة الشعرية المكثفة، ويعتبر هذا النمط أكثر الأنماط ورودا في الشعر السعودي المعاصر، يقول محمد حبيبي (25) في قصيدة (حمام):
في باحة الدار
كنت أربي الحمام
ذات قيظ
تطاير حتي تجاوز صندوق جاري
فأدركت أن الحمام يحب الهواء نقيا
وأني اختنقت بجو القفص
أن هذا النص ينتهج التعبير البسيط، لكي يكون خيوط الرؤية الشعرية تدريجيا، لكي يلفحنا بالحقيقة المرة، في ضربة النهاية أو الخاتمة، التي تفضي إلى خلخلة في النسق المعروف بين الحر والسجين.
إن شعر محمد حبيبي، يقوم على شعرية المفارقة، وكأنه يؤمن بمقولة كلينث بروكس ـ في معرض حديثه عن أحد الشعراء ـ إن لغة الشعر هي لغة المفارقة، ومن ثم يأتي هذا النسق واضحا في شعره بصفة عامة، وفي قصائده القصيرة بصفة خاصة ، يقول في قصيدة (حياة)(26):
بحياة تسرقهم حلموا
... وكأوراق خريف يصحو
دلوا أيديهم بالأغصان
لأول ريح.
فالمفارقة الشعرية ـ هنا ـ تتشكل في إطار التقابل بين قسيمين، بحيث يأتي القسيم الأول المتحقق في السطر الأول، للدلالة على المتخيل النموذجي، الذي يتشكل تدريجيا بالمحو والإثبات، ويأتي القسيم الآخر ـ الذي يشير إلى الواقع ـ متجليا في سطور ثلاثة شعرية، تعبر عن الصفرة والخريف والسقوط.
أما النمط الثاني، فيتمثل في قصائد قصيرة، تتحرك من البداية إلى النهاية، لا لكي تخلق المفارقة، بوصفها بؤرة الرؤية الشعرية، وإنما لكي تشير إلى منحي فكري خاص، فقصائد هذا النمط، تشكل بنية منفتحة، ونامية من البداية إلى النهاية، ولكنها تستعيض عن المفارقة بمحاولة تشكيل رؤية تأملية فكرية، ذات خصوصية، ففي قصيدة (غياب) للشاعر حسن السبع(27):
ذات نوار
كانت تطرز لي الوقت
في رحلة
من حرير ومرمر
واختفت
صرت لا أدخل الشعر إلا لأبحث عنها
غير أني اكتشفت
أنها دائما في الكلام الذي قد تعذر.
نشعر أن هناك بنيتين متقابلتين تتمثلان في الحضور والغياب، المرتبطين بالمرأة النموذج، ولكن القصيدة لا تنتهج تنمية هذا التقابل، وإنما تنطلق منه، لكي تؤسس لمنحي فكري يرتبط بالإبداع، وقدرة هذا الإبداع في اقتلاع جذوة الشعور التي يعانيها الشاعر، فبعد التعبير عنها في الحالتين يظل أفق الحضور واضحا، ومتأبيا عن التحقيق، مما يكشف في النهاية عن غياب، وكأن الإبداع الشعري، يظل بعيدا عن الوصول إلى هذا الأفق الخاص بالنموذج، الذي يكونه الشاعر تدريجيا.
أما النمط الثالث فهو نمط القصيدة القصيرة المكونة من صور مجهرية مشدودة إلى ضربة الختام، وكأن هذه الصور المجهرية، تتجاوب فيما بينها للإشارة إلى الحالة العامة، المرتبطة بضربة الختام، يقول أحمد إبراهيم البوق، في قصيدة (مرة واحده)(28):
مرة واحده
يأتي سحاب داكن
يأتي مطر
تأتي رعشة في الحقل
تنفض عشبة للتو
يخفق طائر في الجو
أبهجه الحيا،
تأتي هيا
مرة واحده
سأعيش.
فالصور المجهرية بداية من السحاب الداكن، الذي يشير إلى الامتلاء، المفضي إلى المطر، والذي يؤثر في الحقل، لإيجاد عملية الإنبات والنمو، توازيها الضربة الأخيرة الممثلة في مجئ المرأة، وكأن الصور المجهرية، التي جاءت في نسق متوال بدون وجود رابط لغوي، تشير إلى التحرك العفوي التراتبي من جانب، وتشير إلى تواز آخر، يتمثل في تأثير تلك المرأة في عملية الخلق الداخلي وعودة الروح، وكأنها تشكل ناموسا خاصا.
وهذا النمط من خلال اعتماده، على الصور المجهرية، والمرتبطة دلاليا في إطار متنام أو متقابل، قد يتجلي بشكل آخر، من خلال الاعتماد على بنية نمطية جاهزة، مما يولد في النهاية نسق التكرار الجزئي، ففي قصيدة (احتضار)(29)، لأحمد البوق:
على مهل يكحل عينها الصبح
على وجع يجئ الصيف
يا صيف
على موال أغنية
باب نصف مفتوح
ممرضة تمر الآن
تحمل حقنة التخدير
تغمض جفنها وتطير
فالنص الشعري، ينتهج تقنية الاعتماد على بنية جاهزة في كل سطر شعري، في قوله (على....)، وكأنها تشكل بداية كل توجه، بداية من التعب، ومرورا بالوجع والموال، وانتهاء بالمهل، وكل كلمة من هذه الكلمات تشير إلى حالة خاصة من حالات المعاناة، التي تبدأ بالتعب، ثم ارتفاع الوتيرة إلى الوجع، ثم استدامة هذا الوجع، التي تتحول إلى موال، ثم الهدوء المريح في قوله على مهل.
أما النمط الأخير، فربما يتكئ على بنية التكرار السابقة أو الصور المجهرية، ولكنه لا يحاول إقامة بناء يصب في النهاية إلى ضربة الخاتمة، وإنما ينتهج تقنية إخبارية منفتحة على السردي واليومي والمعيش، يتجلي ذلك في قصائد عديدة مثل (لا أبدو مهتما)(30) لعبد الرحمن الشهري، وقصيدة (صالحة) لمحمد حبيبي (31)، والشاعر في مثل هذه القصائد، يقدم عوالم متناهية في الصغر، بحيث يندمج الشعري مع السردي، فتتحول القصيدة إلى سردية تحكمها الخاتمة الأخيرة، بحيث تجعلنا هذه الخاتمة تعيد قراءتها وفق توجه جديد.
الشكل الثاني : دائرة الانفصال والاتصال:
والمتأمل للشعر العربي السعودي المعاصر يدرك أن هناك شكلا من أشكال القصيدة القصيرة، وهو شكل القصيدة الطويلة التي تحتوي على عدد من القصائد القصيرة، بحيث تغدو القصيدة في ذلك الإطار ذات وحدة خاصة، ولكنها منفتحة ـ في الوقت ذاته ـ إلى أجزاء آخرى، فهي قصيدة مشدودة إلى إطارها الذاتي، ومشدودة إلى الإطار العام.
ويتجلي هذا الشكل لدي شعراء معاصرين كثيرين، مثل حسن السبع، في ديوانه (زيتها وضوء القناديل)، في قصيدة انطفاءات اللون، وديوان (حديقة الزمن الآتي)، في قصيدة (دندنات)، ومحمد حبيبي في ديوانيه (انكسرت وحيدا) و(أطفئ فانوس قلبي)، وأحمد البوق في ديوانه (أحاميم).
وأول شئ يمكن أن يلفت نظر المتلقي في قصائد هذا النمط أو هذا الشكل، أن الاهتمام بالقفلة أو ضربة الخاتمة يقل، تلك الخاتمة التي تجعل المتلقي يعيد قراءة القصيدة واستبيان دلالتها، ويحل مكان هذا الاهتمام توجه نحو الدلالة النامية، المنفتحة على أجزاء أخري، وكان سمة البنية القائمة بذاتها قد جرحت، من خلال هذا التعدد البنائي.
ومن خلال استقراء النصوص نجد أن هناك نمطين لهذه القصيدة المنفصلة، والمتصلة، في آن، وهما نمطان لا يختلفان كثيرا عن بعضهما، النمط الأول يقسم الشاعر قصيدته التي تشكل الكيان الأكبر إلى أرقام (1ـ2ـ3)، أما النمط الثاني فإن الشاعر يضع عنوانا عاما للقصيدة، ثم يضع عنوانا لكل قصيدة صغري داخلة في النطاق الأكبر، وليس هناك فارق جوهري بين النمطين، إلا أن الفكرة الشعرية قد تكون أكثر وضوحا واكتمالا لدي شعراء النمط الثاني، فالعنوان الجزئي لكل قصيدة قصيرة ربما يشير إلى أن المنحي الفكري قد تشكل بشكل واضح، أما الأرقام فإنها تشير إلى انفتاح إلى القصيدة الطويلة، وتشير ـ أيضا ـ إلى الدلالة الفكرية مازالت في طور البناء والتكوين.
وسوف نكتفي بنموذج لكل نمط، لكي نشير إلى مدارات الشد والجذب بين الانفصال والاتصال، والتشابه والاختلاف، يقول أحمد البوق في قصيدة (مواعيد الفنادق)(32):
(1)
السماء تضئ
والبرق فيها كبسمة طفل
سحاب كثيف يغطي السماء
شيئا فشيئا تبدد
لست عجولا
ليأتي المطر
(2)
واجهة غرفتي من زجاج
في الطابق العاشر، بفندق الكونكورد
والمدينة تحتي
ضوء الشوارع خافت
لافتات النيون: لا تذكرني بالبرق
فالبرق أعلى
البرق خاطف
من يطرق الباب
ربما: مواعيد الفنادق
ربما: صدفة في الممر
ربما:
ربما:
ربما: النادل
ففي الجزء الأول الذي يحمل الرقم (1)، نجد أن النص يبدأ بصور مجهرية (السماء تضئ) و(البرق كبسمة طفل) و(سحاب كثيف)، وهي كلها صور مجهرية، ربما تسهم في شحن الدلالة الشعرية بالعطاء أو الحضور، خاصة إذا أدركنا أن القصيدة بجزئيها تعمل على دال الانتظار، وما يشيعه في الحياة من اخضرار واستمرار، لارتباطه بالتعلق بالقادم، ويتوزع إلى يقين بحضور المنتظر، وشك في الحضور، ويقين بالغياب.
فهذا الوعد بالري أو المطر، بدأ في السطر الرابع في التبدد، والكشف عن بداية التململ في حضور المنتظر، ولكن النص الشعري يفصح في النهاية عن إيمانه، فما زال مؤمنا بجدوي الانتظار والحضور، فالجزء الأول يشير إلى خضرة الانتظار، ولكنه، في النهاية يبدو موزعا بين يقين الحضور, ويقين الغياب.
أما الجزء الثاني، فإنه ينطلق من معاينة الذات، ووصف الإطار المحيط بها، ولكن النسق الذي رأيناه واضحا في الجزء الأول، يبدأ في الظهور في السطر الخامس، من خلال كلمة البرق، وكأنه مفتاح للهطول أو للحضور، ولكن هذا التيقن يبدأ في التبدد تدريجيا من خلال التعدد، الذي أشار إليه، وكأن قائمة الانتظار حين تتوزع إلى فصائل عديدة، تطمس مشروعية الانتظار.
فهذا التعدد البنائي ـ لتوزع البنية إلى جزئيات ـ قد أثر إلى حد بعيد، على قيمة الخاتمة أو الضربة الأخيرة، بوصفها لحظة تنوير.
أما في تناول النمط الثاني، فيمكننا الوقوف عند قصيدة للشاعر حسن السبع (دندنات) (33):
(لغة)
ما دام كل همنا التنقيب
عن بعض حروف العطف والعلة،
والإشارة
ماذا سيبقي عندنا من جوهر العبارة
(كلام)
تخض دمي همسة واعده
ولكن
ألاحظت كيف نثرثر دهرا
ونهدر فوق القراطيس حبرا
فلا الكرم ماد بأعنابه
ولا افتر ثغر الكوي الموصده
ففي الجزء الأول (لغة)، نجد أن النص الشعري يتوقف عن حالين، أو يقارن بين توجهين في استخدام اللغة، ففي التوجه الأول يتم الاهتمام بالعرضي، وركز النص الشعري على جزئيات ليست قائمة بذاتها، وإنما هي أدوات للإشارة إلى التوجه الأول، أما التوجه الثاني، فيشير إلى العجز عن القدرة في تفعيل اللغة، لكي ترتبط بجوهر الأشياء.
إن هذه الدلالة الأولي، التي تشكلت في إطار النص الأول، ليست بعيدة عن النص الثاني، فهناك حالة من التماس، أو الدوائر الدلالية المشتركة، فإذا كان الاهتمام بالعرضي في استخدام اللغة واضحا في النص الأول، فإن النص الثاني (كلام) ـ الذي يشير إلى الاستخدام الفعلي ـ يأتي كاشفا عن البرودة، وعدم القدرة على الفعل والنفاذ.
الهوامش:
(1) حفناوي بعلي: شعرية التوقيعة في شعر عز الدين المناصرة، الموقف الأدبي، عدد 413، أيلول 2005.
(2) عز الدين المناصرة: حوار في دروب.
(3) محمد ياسر أشرف: النثيرة والقصيدة المضادة، كتاب الرياض الأدبي، 1981, ص25
(4) حفناوي بعلي: السابق.
(5) عيسي قويدرالعبادي: قصيدة الومضة، الموقف الأدبي، عدد 377, 2000.
(6) ابن سلام: طبقات فحول الشعراء، ج (1), ص26.
(7) ابن رشيق القيرواني: العمدة، تحقيق، محي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة، القاهرة، 1963, ص189.
(8) محمد راتب الحلاق: عن الشعر والنثر مرة آخري، الموقف الأدبي، تشرين الثاني، 427, 2006.
(9) محمد راتب الحلاق: السابق.
(10) فواز حجو: الومضة الشعرية مجلة الموقف الأدبي، العدد 373, أيار، 2002.
(11) عز الدين المناصرة: السابق.
(12) حسن السبع : زيتها وضوء القناديل، وزارة الإعلام السعودية، ط(1)، 1992, ص48.
(13) عبد الرحمن الشهري : أسمر كرغيف، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 2004، ص51
(14) عبد الرحمن الشهري: السابق، ص41
(15) محمد حبيبي : انكسرت وحيدا، دار الجديد، لبنان، 1996، ص57.
D. C.Muecke:Irony And Ironic,Mithuen,New Yourk,1982,p.45. *
(16) محمد حبيبي: أطفئ فانوس قلبي، نادي جيزان الأدبي، ط(1)، 2004, ص9.
(17) عيد الحجيلي: قامة تتلعثم، دار شرقيات القاهرة، 2004، ص67
(18) عيد الحجيلي: السابق، ص63
(19) حسن السبع: حديقة الزمن الآتي، دار الكنوز الأدبية، بيروت، ص36.
(20) علي الدميني: بأجنحتها تدق أجراس النافذة، دار الكنور الأدبية، ط(1)،1999، ص32.
(21) حمد الفقيه: نقف ملطخين بصحراء، دار الجديد، بيروت، ط(1)، 1996، ص33.
(22) حنا عبود: الأشكال الطافية في الشعر السوري الحديث، مجلة الموقف الأدبي، عدد 116, ديسمبر 1980.
(23) عيد الحجيلي: السابق، ص49.
(24) بشري موسي صالح: المفارقة في الشعر العراقي الحديث.
(25) محمد حبيبي: انكسرت وحيدا، السابق، ص33.
(26) محمد حبيبي: انكسرت وحيدا، السابق، ص62.
(27) حسن السبع: زيتها وضوء القناديل، السابق، ص15.
(28) أحمد البوق: أحاميم, دار الجديد، لبنان، 1994، ص30.
(29) أحمد البوق: السابق، ص27.
(30) عبد الرحمن الشهري: السابق، 50.
(31) محمد حبيبي: أطفئ فانوس قلبي، السابق، ص40.
(32)أحمد البوق: السابق،ص 42.
(33)حسن السبع: حديقة الزمن الآتي، السابق. ص 35.
1 comment:
هل تحلم بعودة مظهرك الشبابي؟ تتسائل عن تكلفة زراعة الشعر في تركيا.. اليك خدماتنا افضل مركز زراعة شعر في تركيا بأيدي خبراء محترفيين يضمنون لك أفضل مظهر ترغب به بزراعة الشعر و بأسعار خاصة جدا
Post a Comment