اليوم في جريدة القدس- لندن
' خيال ساخن' لمحمد العشري تغييب الحكاية بالعجائبي
عادل ضرغام
3/2/2010
' خيال ساخن' هي الرواية الخامسة للروائي الشاب محمد العشري، وهذا العدد الكبير من وجهة نظري الذي جاء في فترة ليست كبيرة، بعيداً عن فكرة القيمة، يشير إلى أن كتابة الرواية عند محمد العشري هي المشروع الأساسي، أو هي التوجه الأول لديه، في ظل وجود اهتمامات أخرى لديه، مثل كتابة قصيدة النثر، أو المتابعات النقدية. والنقطة الأهم في روايات محمد العشري، تتمثل في أن كتابته مرتبطة في الأساس بجزئيات معينة تشير إلى مناح خاصة من البداية. صحيح أنه يحدث فيها تغيير من عمل إلى عمل، ولكن هذه الجزئيات تظلّ على حضورها الدافق في أعماله، فمثلاً، ثنائية الواقع والخيال، أو الواقعي والأسطوري، التي تجلت في عمله الأول ' غادة الأساطير الحالمة' بشكل لافت، فإذا كانت الفاعلية في روايته ' غادة الأساطير الحالمة' للخيالي أو للأسطوري، فإن الفاعلية الكبرى في روايته الجديدة ' خيال ساخن'- كسراً للمتوقع - جاءت مرتبطة بالواقع.
وبداية من رواياته ' نبع الذهب'، و' تفاحة الصحراء'، و' هالة النور'، فإننا نجد عالم الصحراء يظهر بشكل واضح، ولكن مع وجود فروقات في كل رواية على حدة. ففي ' نبع الذهب' نجد أن هناك انبهاراً أو دهشة بهذا العالم، وهي أولى مراتب المعرفة. وحدث نمو ما في ' تفاحة الصحراء'، فهذه الدهشة تحولت إلى معرفة تكشف عن تساؤل بسيط يرتبط بكيفية التعامل مع الصحراء بين الماضي والآني، ليكشف السؤال عن ثبات في طريقة التعامل مع الصحراء بين الماضي والآني، وأن الغرب هو الذي يحركنا في اقترابنا أو ابتعادنا عن الصحراء، فكانت لها قيمة في القديم، لأنها كانت مكان الحرب، وفي الحديث لأنها أرض البترول، وفي الحالتين كان الغرب هو المحرك. وفي ' هالة النور' ظلّ الاهتمام حاضراً بعالم الصحراء، وإن ارتبط هذا الاهتمام بتوجه علمي خاص من خلال محاولة الكشف عن مصادر جديدة للطاقة.
ثنائية الواقع والخيال:
إذا انتقلنا للحديث عن رواية ' خيال ساخن'، فإن العنوان من البداية يجعل المتلقي موزعاً في تلقيه للرواية إلى جانبين مهمين، هما الخيال والواقع، والقارىء للرواية لا يستطيع بسهولة ان يفصل بين ما هو خيالي، وما هو واقعي، إلاّ في بعض الجزئيات التي أظن أن محمد العشري وضعها عامداً لكي يشد هذه الرواية إلى الواقع، من خلال إضافة بعض التفصيلات الحية الخاصة بالبطل في طفولته وتكوينه الخاص، وهذه الإضافة ربما كانت ذات تأثير إيجابي من ناحيتين، خاصة إذا تمت مقارنة هذه الرواية بروايته الأولى ' غادة الأساطير الحالمة'، أولاً: أنها شدت الرواية إلى أرض الواقع، فالحياة لا يمكن أن نعيش فيها مخذولين إلى الواقع، ولا يمكن أن نغادرها متدثرين بالخيال، كما ظهر في روايته الأولى، ومن ثمّ فهذا المزج بين الواقعي والخيالي أدى إلى وجود مشروعية لهذا الطرح، فكل إبداع جيد في الحياة بصفة عامة يرتبط بالخيال، يتجلى ذلك حين نقرأ هذا الحوار بين البطل وجمانة:
ـ هل تسخر مني؟
ـ لا.. لكنك لا تفرقين بين الواقع والخيال وهذا دليل خطر.
ـ وما العيب في ذلك طالما أنك قادر على صنع حياة خاصة بك، تشكلها كما تريد، لا كما يريد الآخرون، حتى لو كانوا أقرب الناس إليك؟
هذا التوجه في المزج بين ما هو خيالي وما هو واقعي، أدى إلى وجود سمة إيجابية أخرى تتعلق باللغة، فاللغة في هذه الرواية جاءت محافظة على أناقتها المقطرة بعيداً عن الفائض المجنح كما ظهر في روايته الأولى ' غادة الأساطير الحالمة'.
إن هذه الثنائية ربما تجلت في إطارها ثنائية أخرى ترتبط بطبقة عليا وطبقة دنيا، قد مارست تأثيرها في تكوين بعض الشخصيات وظهور التناقض الحاد، خاصة شخصية والد الفتاة، الذي يظهر في بعض الأحيان مرتبطاً بالآخرين ومترفعاً عنهم في آن، ويظهر في بعض الأحيان في ثوب الفنان، ويظهر في أحيان أخرى - وقد ألحت الرواية على ذلك - في ثياب رجل مادي إلى أقصى درجة.
وقد ساعد هذا التوجه - أي محاولة ربط الرواية وشدها إلى الواقع - إلى وجود إشارات لا تخلو من دلالات أو حمولات سياسية أو اجتماعية ترتبط بطبيعة الشخصية المصرية، التي ركنت إلى الخنوع والبعد عن محاولة الفعل، يتجلى ذلك في حديث الرواية عن الأثر السلبي للنيل في تكوين سمات فاعلة في طبيعة الشخصية المصرية، أهمها الخنوع والتسليم بالواقع دون أدنى محاولة لتغييره.. ' ربما تغيرت طبائعهم إلى غير ما هي عليه الآن من فتور ورضى بالأمر الواقع، دون أن يثور الدم في عروقهم والحياة تتبدل من حولهم، وهم لا حول لهم ولا قوة شائخون تماماً مثل النيل'. وصورة التنين الذي خرج من اللوحة وتقديمه نصائح للحيوانات للثورة ضد الإنسان لا يمكن فصلها عن وجهة النظر السابقة، وهي في ذلك السياق ليست عارية من الدلالة، وإنما هي تشير إلى محاولة تأطير المجتمع إلى نسقين: نسق عالٍ ونسق متدن.
الأسطورة:
قارىء الرواية سوف يدرك أن هناك أحداثاً كثيرة لا تستند إلى منطق واقعي، والرواية في ذلك السياق تلح على أساطير عديدة، بل تحاول في بعض الأحيان ممارسة نوع من أسطرة الواقع وفق فهمها الخاص لتقديم تفسير معاصر لتشكلها النهائي، مثل وادي الحيتان- بحيرة قارون، بحر يوسف. والرواية في تقديم ذلك النسق إلى المتلقي، لا تقف عند حدود الأسطورة الأساسية التي انبنت عليها الرواية، وإنما تحاول تقديم فاعلية للإنسان على الجماد، وكأن الإنسان وفق هذا التصور، إذا اكتشف قدرته الذاتية يصبح فاعلاً في تغيير طبيعة الأشياء. يقول في صفحة 13 ' تلين تحت لمسته'، ويقول على لسان جمانة ' حتى خيل إليها إن الحجر يلين'..
إن هذه الإشارات لا تستند إلى منطق واقعي، وإنما تستند إلى منطق خاص يكيف هذه الفكرة، وهذا المنطق الخاص ينطلق من فكرة الإيمان بقيمة الذات وقدرتها على الفعل..
أما الأسطورة الأساسية التي بنيت عليها الرواية فهي أسطورة الروح الإنسانية التي خلقت منذ الأزل ناقصة، ومن ثمّ فهي في حنين دائم للوصول إلى الجزء الذي يجعلها مكتملة قادرة على الفعل والنفاذ، ومن ثمّ يكون هناك إصرار خاص للوصول إلى هذا الجزء والقتال من أجل استمراره موجود، فإذا كان الواقع أقوى كما تجلى في نص الرواية فإنها تفتح لها نافذة روحية تكتمل من خلالها، فمن خلال هذه النافذة، تغادر الذات الإنسانية طبيعتها المادية، وتصبح قادرة على تحقيق ما تصبو إليه..
تغييب الحكاية:
يجب أن يمارس قارىء هذه الرواية نوعاً من القراءة يمكن أن نسميه إعادة ترتيب الرواية، حتى يستطيع أن يلمّ بأطراف الحكاية. وإعادة الترتيب لا تتولد صعوبته من طغيان الجانب الأسطوري أو اللامنطقي فقط، وإنما - أيضاً - لأن الرواية في بنائها لا تنتهج منهجاً تراتبياً معيناً، وإنما تقدم جوانبها السردية وفق منهجها الخاص، وهذه الجوانب السردية لا تكتمل في جزء معين من الرواية، وإنما تظلّ ناقصة حتى نهاية الرواية. وهذا البناء السردي الخاص ربما أوجد نوعاً من الإغراء بالقراءة من خلال إضفاء عنصر التشويق فعلى سبيل المثال، التأكد من أن البطل هو ابن ساهر لم تشر إليه الرواية إلاّ في الجزء الرابع، وإن كانت هناك مرشدات لهذا الفهم، أهمها إقبال جمانة عليه بشكل خاص. وفي إطار ذلك السياق، يتولد السؤال الآتي، الذي يتمثل في أيهما كان الأساس في الرواية، الجانب الأسطوري أم الجانب الخاص بالحكاية، التي جاءت بشكل ينم عن التغييب، من خلال وضعها في جزئيات بسيطة وخافتة، وذلك حين يقارن بالسياق الأسطوري أو العجائبي.
إن الإجابة عن هذا السؤال ليست سهلة، لأنه ليس لدينا نموذج كتابي عن الحكاية في شكلها الأسطوري فقط، وليس لدينا نموذج كتابي عن الحكاية بشكل خاص، وإنما يستطيع القارىء للرواية أن يدرك أن الحكاية الموجودة في الرواية لا تخلو من جانب سير ذاتي يرتبط بالكاتب، الذي حاول من خلاله هذه الإطار الأسطوري أن يغيب ملامح هذه الحكاية، أو على الأقل يهشم الملامح التي تشير إلى هذا الترابط، فهو على سبيل المثال جعل البطل يعمل في وظيفة معلم، بعيداً عن وظيفة الجيولوجي التي تجلت في هالة النور وتفاحة الصحراء. وهذا التوجه في مقاربة الحكاية ومحاولة ربطها بتوجه سير ذاتي، ربما تجعلنا نشير إلى أن هذه الرواية مرتبطة ارتباطاً شديداً بروايته الأولى ' غادة الأساطير الحالمة'، أو على الأقل هي إكمال لمنطلقاتها الأساسية، وتوجهها العجائبي، يكمن الفارق بينهما في أن الراوية الأولى كتبت في ' مقام الهيام 'عنوان الفصل الثاني من هذه الرواية، بينما كتبت ' خيال ساخن' في مقام العناق، شريطة أن نفهم العناق - الذي كنت أتمنى أن يسميه التلاشي- في مكانه التراتبي بعد النافذة، أي في سياق الخيال بعيداً عن الواقع الملموس.
التقسيم الرباعي:
سوف يدرك قارىء الرواية أن الرواية مقسمة إلى أقسام أربعة، وهذا التقسيم الرباعي الخاص، لا يخلو من دلالة خاصة إذا ارتبط هذا التقسيم بتجربة حب شديدة الخصوصية، تبدأ بالأمل أو التمسك به، ويأتي الهيام الذي يشكل مرحلة أعلى من الأولى، ثمّ تأتي النافذة، وتختتم المراحل الأربعة بالعناق. وهذه المراحل الأربعة ربما تتشابه إلى حدّ بعيد مع فصول السنة المعهودة 'الربيع- الصيف- الخريف- الشتاء'. فالجزء الأول ' الأمل' يأتي مرتبطاً ببداية الشعور بهذا الحب، وشكل وجوده في البداية تمثالاً، ذلك التمثال الذي يصنعه كلّ واحد منا بخياله. فكل إنسان بالضرورة له تمثاله أو صنمه الذي يصنعه ليلاً. وهذا التمثال لا يتكون تكوناً نهائياً، لأنه في معرض دائم للحذف والإضافة نظراً لطبيعة الفعل والانفعال مع هذا الواقع. أما الهيام الذي يشير إلى مرحلة الاحتدام والمشاركة بفضل اندماج شخصين أو وعيين في فضاء واحد، فنجد أن هذا الجزء يجعل المتلقي يتقدم خطوة أخرى في جعله مرتبطاً بالصيف للإشارة إلى احتدام العاطفة ونموها بين الطرفين. الجزء الثالث النافذة التي تأتي في ذلك السياق بوصفها أداة فاصلة بين عالمي الواقع والخيال، فهي بوجودها الخاص تربط بين عالمين أحدهما مكبل بقواعد وأسس اجتماعية، والآخر غير مشدود إلى هذه القواعد وهذه الأسس، بل يحتوي على براح خاص. والنافذة في الرواية كانت وسيلة للاندماج مع الآخر، في لحظة الجفاف التي يسدلها الواقع فوجود الأسئلة الكثيرة التي تحاول تفسير طبيعة العلاقة بالإضافة إلى الخلافات مؤشر مهم للإشارة إلى أن سكرة الهيام لم تعد كافية لحل كلّ العقبات والمشاكل.
والجزء الرابع: العناق وهو عنوان مهم ومناسب شريطة أن نفهم العناق في إطاره التراتبي، بعد جزئية النافذة، ودورها في استمرار العلاقة في نسق خاص مرتبط بالخيال، فالعناق في هذا الجزء وثيق ببراح النافذة المرتبط بالخيال بعيداً عن الإطار الواقعي الملموس.
تتبقى جزئية وحيدة ترتبط بالضمير السردي الخاص، ففي الأجزاء الثلاثة الأول والثاني والرابع استخدم العشري ضمير الغائب، وفي الجزء الثالث استخدم ضمير المتكلم، واستخدام ضمير المتكلم في الجزء الثالث، النافذة، لا يخلو من دلالة، خاصة إذا كان هذا الجزء وثيق الصلة بتصوير وجهات النظر المتباينة، وتصوير بوادر الخلاف التي ظهرت في الصفحة الأولى من هذا الجزء، فوجود المتكلم في هذا الجزء ربما يكون ضرورياً بعيداً عن ضمير الغياب الذي يجعل وجهة النظر موضوعية، فكأن الكاتب يحتمي بهذا الضمير لعرض وجهة نظره، ولكي يقنعنا بصدقه، ولكي يمارس نوعاً من المصادرة على الآخرين.
' خيال ساخن' لمحمد العشري تغييب الحكاية بالعجائبي
عادل ضرغام
3/2/2010
' خيال ساخن' هي الرواية الخامسة للروائي الشاب محمد العشري، وهذا العدد الكبير من وجهة نظري الذي جاء في فترة ليست كبيرة، بعيداً عن فكرة القيمة، يشير إلى أن كتابة الرواية عند محمد العشري هي المشروع الأساسي، أو هي التوجه الأول لديه، في ظل وجود اهتمامات أخرى لديه، مثل كتابة قصيدة النثر، أو المتابعات النقدية. والنقطة الأهم في روايات محمد العشري، تتمثل في أن كتابته مرتبطة في الأساس بجزئيات معينة تشير إلى مناح خاصة من البداية. صحيح أنه يحدث فيها تغيير من عمل إلى عمل، ولكن هذه الجزئيات تظلّ على حضورها الدافق في أعماله، فمثلاً، ثنائية الواقع والخيال، أو الواقعي والأسطوري، التي تجلت في عمله الأول ' غادة الأساطير الحالمة' بشكل لافت، فإذا كانت الفاعلية في روايته ' غادة الأساطير الحالمة' للخيالي أو للأسطوري، فإن الفاعلية الكبرى في روايته الجديدة ' خيال ساخن'- كسراً للمتوقع - جاءت مرتبطة بالواقع.
وبداية من رواياته ' نبع الذهب'، و' تفاحة الصحراء'، و' هالة النور'، فإننا نجد عالم الصحراء يظهر بشكل واضح، ولكن مع وجود فروقات في كل رواية على حدة. ففي ' نبع الذهب' نجد أن هناك انبهاراً أو دهشة بهذا العالم، وهي أولى مراتب المعرفة. وحدث نمو ما في ' تفاحة الصحراء'، فهذه الدهشة تحولت إلى معرفة تكشف عن تساؤل بسيط يرتبط بكيفية التعامل مع الصحراء بين الماضي والآني، ليكشف السؤال عن ثبات في طريقة التعامل مع الصحراء بين الماضي والآني، وأن الغرب هو الذي يحركنا في اقترابنا أو ابتعادنا عن الصحراء، فكانت لها قيمة في القديم، لأنها كانت مكان الحرب، وفي الحديث لأنها أرض البترول، وفي الحالتين كان الغرب هو المحرك. وفي ' هالة النور' ظلّ الاهتمام حاضراً بعالم الصحراء، وإن ارتبط هذا الاهتمام بتوجه علمي خاص من خلال محاولة الكشف عن مصادر جديدة للطاقة.
ثنائية الواقع والخيال:
إذا انتقلنا للحديث عن رواية ' خيال ساخن'، فإن العنوان من البداية يجعل المتلقي موزعاً في تلقيه للرواية إلى جانبين مهمين، هما الخيال والواقع، والقارىء للرواية لا يستطيع بسهولة ان يفصل بين ما هو خيالي، وما هو واقعي، إلاّ في بعض الجزئيات التي أظن أن محمد العشري وضعها عامداً لكي يشد هذه الرواية إلى الواقع، من خلال إضافة بعض التفصيلات الحية الخاصة بالبطل في طفولته وتكوينه الخاص، وهذه الإضافة ربما كانت ذات تأثير إيجابي من ناحيتين، خاصة إذا تمت مقارنة هذه الرواية بروايته الأولى ' غادة الأساطير الحالمة'، أولاً: أنها شدت الرواية إلى أرض الواقع، فالحياة لا يمكن أن نعيش فيها مخذولين إلى الواقع، ولا يمكن أن نغادرها متدثرين بالخيال، كما ظهر في روايته الأولى، ومن ثمّ فهذا المزج بين الواقعي والخيالي أدى إلى وجود مشروعية لهذا الطرح، فكل إبداع جيد في الحياة بصفة عامة يرتبط بالخيال، يتجلى ذلك حين نقرأ هذا الحوار بين البطل وجمانة:
ـ هل تسخر مني؟
ـ لا.. لكنك لا تفرقين بين الواقع والخيال وهذا دليل خطر.
ـ وما العيب في ذلك طالما أنك قادر على صنع حياة خاصة بك، تشكلها كما تريد، لا كما يريد الآخرون، حتى لو كانوا أقرب الناس إليك؟
هذا التوجه في المزج بين ما هو خيالي وما هو واقعي، أدى إلى وجود سمة إيجابية أخرى تتعلق باللغة، فاللغة في هذه الرواية جاءت محافظة على أناقتها المقطرة بعيداً عن الفائض المجنح كما ظهر في روايته الأولى ' غادة الأساطير الحالمة'.
إن هذه الثنائية ربما تجلت في إطارها ثنائية أخرى ترتبط بطبقة عليا وطبقة دنيا، قد مارست تأثيرها في تكوين بعض الشخصيات وظهور التناقض الحاد، خاصة شخصية والد الفتاة، الذي يظهر في بعض الأحيان مرتبطاً بالآخرين ومترفعاً عنهم في آن، ويظهر في بعض الأحيان في ثوب الفنان، ويظهر في أحيان أخرى - وقد ألحت الرواية على ذلك - في ثياب رجل مادي إلى أقصى درجة.
وقد ساعد هذا التوجه - أي محاولة ربط الرواية وشدها إلى الواقع - إلى وجود إشارات لا تخلو من دلالات أو حمولات سياسية أو اجتماعية ترتبط بطبيعة الشخصية المصرية، التي ركنت إلى الخنوع والبعد عن محاولة الفعل، يتجلى ذلك في حديث الرواية عن الأثر السلبي للنيل في تكوين سمات فاعلة في طبيعة الشخصية المصرية، أهمها الخنوع والتسليم بالواقع دون أدنى محاولة لتغييره.. ' ربما تغيرت طبائعهم إلى غير ما هي عليه الآن من فتور ورضى بالأمر الواقع، دون أن يثور الدم في عروقهم والحياة تتبدل من حولهم، وهم لا حول لهم ولا قوة شائخون تماماً مثل النيل'. وصورة التنين الذي خرج من اللوحة وتقديمه نصائح للحيوانات للثورة ضد الإنسان لا يمكن فصلها عن وجهة النظر السابقة، وهي في ذلك السياق ليست عارية من الدلالة، وإنما هي تشير إلى محاولة تأطير المجتمع إلى نسقين: نسق عالٍ ونسق متدن.
الأسطورة:
قارىء الرواية سوف يدرك أن هناك أحداثاً كثيرة لا تستند إلى منطق واقعي، والرواية في ذلك السياق تلح على أساطير عديدة، بل تحاول في بعض الأحيان ممارسة نوع من أسطرة الواقع وفق فهمها الخاص لتقديم تفسير معاصر لتشكلها النهائي، مثل وادي الحيتان- بحيرة قارون، بحر يوسف. والرواية في تقديم ذلك النسق إلى المتلقي، لا تقف عند حدود الأسطورة الأساسية التي انبنت عليها الرواية، وإنما تحاول تقديم فاعلية للإنسان على الجماد، وكأن الإنسان وفق هذا التصور، إذا اكتشف قدرته الذاتية يصبح فاعلاً في تغيير طبيعة الأشياء. يقول في صفحة 13 ' تلين تحت لمسته'، ويقول على لسان جمانة ' حتى خيل إليها إن الحجر يلين'..
إن هذه الإشارات لا تستند إلى منطق واقعي، وإنما تستند إلى منطق خاص يكيف هذه الفكرة، وهذا المنطق الخاص ينطلق من فكرة الإيمان بقيمة الذات وقدرتها على الفعل..
أما الأسطورة الأساسية التي بنيت عليها الرواية فهي أسطورة الروح الإنسانية التي خلقت منذ الأزل ناقصة، ومن ثمّ فهي في حنين دائم للوصول إلى الجزء الذي يجعلها مكتملة قادرة على الفعل والنفاذ، ومن ثمّ يكون هناك إصرار خاص للوصول إلى هذا الجزء والقتال من أجل استمراره موجود، فإذا كان الواقع أقوى كما تجلى في نص الرواية فإنها تفتح لها نافذة روحية تكتمل من خلالها، فمن خلال هذه النافذة، تغادر الذات الإنسانية طبيعتها المادية، وتصبح قادرة على تحقيق ما تصبو إليه..
تغييب الحكاية:
يجب أن يمارس قارىء هذه الرواية نوعاً من القراءة يمكن أن نسميه إعادة ترتيب الرواية، حتى يستطيع أن يلمّ بأطراف الحكاية. وإعادة الترتيب لا تتولد صعوبته من طغيان الجانب الأسطوري أو اللامنطقي فقط، وإنما - أيضاً - لأن الرواية في بنائها لا تنتهج منهجاً تراتبياً معيناً، وإنما تقدم جوانبها السردية وفق منهجها الخاص، وهذه الجوانب السردية لا تكتمل في جزء معين من الرواية، وإنما تظلّ ناقصة حتى نهاية الرواية. وهذا البناء السردي الخاص ربما أوجد نوعاً من الإغراء بالقراءة من خلال إضفاء عنصر التشويق فعلى سبيل المثال، التأكد من أن البطل هو ابن ساهر لم تشر إليه الرواية إلاّ في الجزء الرابع، وإن كانت هناك مرشدات لهذا الفهم، أهمها إقبال جمانة عليه بشكل خاص. وفي إطار ذلك السياق، يتولد السؤال الآتي، الذي يتمثل في أيهما كان الأساس في الرواية، الجانب الأسطوري أم الجانب الخاص بالحكاية، التي جاءت بشكل ينم عن التغييب، من خلال وضعها في جزئيات بسيطة وخافتة، وذلك حين يقارن بالسياق الأسطوري أو العجائبي.
إن الإجابة عن هذا السؤال ليست سهلة، لأنه ليس لدينا نموذج كتابي عن الحكاية في شكلها الأسطوري فقط، وليس لدينا نموذج كتابي عن الحكاية بشكل خاص، وإنما يستطيع القارىء للرواية أن يدرك أن الحكاية الموجودة في الرواية لا تخلو من جانب سير ذاتي يرتبط بالكاتب، الذي حاول من خلاله هذه الإطار الأسطوري أن يغيب ملامح هذه الحكاية، أو على الأقل يهشم الملامح التي تشير إلى هذا الترابط، فهو على سبيل المثال جعل البطل يعمل في وظيفة معلم، بعيداً عن وظيفة الجيولوجي التي تجلت في هالة النور وتفاحة الصحراء. وهذا التوجه في مقاربة الحكاية ومحاولة ربطها بتوجه سير ذاتي، ربما تجعلنا نشير إلى أن هذه الرواية مرتبطة ارتباطاً شديداً بروايته الأولى ' غادة الأساطير الحالمة'، أو على الأقل هي إكمال لمنطلقاتها الأساسية، وتوجهها العجائبي، يكمن الفارق بينهما في أن الراوية الأولى كتبت في ' مقام الهيام 'عنوان الفصل الثاني من هذه الرواية، بينما كتبت ' خيال ساخن' في مقام العناق، شريطة أن نفهم العناق - الذي كنت أتمنى أن يسميه التلاشي- في مكانه التراتبي بعد النافذة، أي في سياق الخيال بعيداً عن الواقع الملموس.
التقسيم الرباعي:
سوف يدرك قارىء الرواية أن الرواية مقسمة إلى أقسام أربعة، وهذا التقسيم الرباعي الخاص، لا يخلو من دلالة خاصة إذا ارتبط هذا التقسيم بتجربة حب شديدة الخصوصية، تبدأ بالأمل أو التمسك به، ويأتي الهيام الذي يشكل مرحلة أعلى من الأولى، ثمّ تأتي النافذة، وتختتم المراحل الأربعة بالعناق. وهذه المراحل الأربعة ربما تتشابه إلى حدّ بعيد مع فصول السنة المعهودة 'الربيع- الصيف- الخريف- الشتاء'. فالجزء الأول ' الأمل' يأتي مرتبطاً ببداية الشعور بهذا الحب، وشكل وجوده في البداية تمثالاً، ذلك التمثال الذي يصنعه كلّ واحد منا بخياله. فكل إنسان بالضرورة له تمثاله أو صنمه الذي يصنعه ليلاً. وهذا التمثال لا يتكون تكوناً نهائياً، لأنه في معرض دائم للحذف والإضافة نظراً لطبيعة الفعل والانفعال مع هذا الواقع. أما الهيام الذي يشير إلى مرحلة الاحتدام والمشاركة بفضل اندماج شخصين أو وعيين في فضاء واحد، فنجد أن هذا الجزء يجعل المتلقي يتقدم خطوة أخرى في جعله مرتبطاً بالصيف للإشارة إلى احتدام العاطفة ونموها بين الطرفين. الجزء الثالث النافذة التي تأتي في ذلك السياق بوصفها أداة فاصلة بين عالمي الواقع والخيال، فهي بوجودها الخاص تربط بين عالمين أحدهما مكبل بقواعد وأسس اجتماعية، والآخر غير مشدود إلى هذه القواعد وهذه الأسس، بل يحتوي على براح خاص. والنافذة في الرواية كانت وسيلة للاندماج مع الآخر، في لحظة الجفاف التي يسدلها الواقع فوجود الأسئلة الكثيرة التي تحاول تفسير طبيعة العلاقة بالإضافة إلى الخلافات مؤشر مهم للإشارة إلى أن سكرة الهيام لم تعد كافية لحل كلّ العقبات والمشاكل.
والجزء الرابع: العناق وهو عنوان مهم ومناسب شريطة أن نفهم العناق في إطاره التراتبي، بعد جزئية النافذة، ودورها في استمرار العلاقة في نسق خاص مرتبط بالخيال، فالعناق في هذا الجزء وثيق ببراح النافذة المرتبط بالخيال بعيداً عن الإطار الواقعي الملموس.
تتبقى جزئية وحيدة ترتبط بالضمير السردي الخاص، ففي الأجزاء الثلاثة الأول والثاني والرابع استخدم العشري ضمير الغائب، وفي الجزء الثالث استخدم ضمير المتكلم، واستخدام ضمير المتكلم في الجزء الثالث، النافذة، لا يخلو من دلالة، خاصة إذا كان هذا الجزء وثيق الصلة بتصوير وجهات النظر المتباينة، وتصوير بوادر الخلاف التي ظهرت في الصفحة الأولى من هذا الجزء، فوجود المتكلم في هذا الجزء ربما يكون ضرورياً بعيداً عن ضمير الغياب الذي يجعل وجهة النظر موضوعية، فكأن الكاتب يحتمي بهذا الضمير لعرض وجهة نظره، ولكي يقنعنا بصدقه، ولكي يمارس نوعاً من المصادرة على الآخرين.
No comments:
Post a Comment