Thursday, February 17, 2011

شعرية السرد في تفاحة الصحراء-القدس العربي

شعرية السرد الروائي في تفاحة الصحراء
عادل ضرغام
بعد قراءة رواية "تفاحة الصحراء" لمحمد العشري تنتاب المتلقي حالة غريبة من الفرح والغبطة والانكسار في الوقت ذاته، وسوف يجد المتلقي نفسه في حالة نشوة تتيح له استخدام ألفاظ بديعة وجديدة لوصف هذه الرواية. وسوف يحاول أن يقدم تفسيرات عديدة لتميز هذه الرواية، من هذه التفسيرات – على سبيل المثال – أنها تقدم صورة فيها نوع من الخصوصية للصحراء الغربية، ومنها - أيضاً – أنها تقدم وعياً مغايراً أو إحساساً مغايراً لوعي الكاتب بهذا العالم، ففي روايته الثانية "نبع الذهب" كان إحساس محمد العشري مشوباً بالدهشة التي هي أولى مراتب المعرفة كما يقول سقراط، أما في هذه الرواية، فقد تخلص محمد العشري من الدهشة، وحاول تقديم حالة معرفية جديدة تتيح له الإدراك الواعي بهذا العالم الصغير المتعلق بالصحراء والمرتبط – حتماً – بالعالم الكبير الذي نحيا فيه. ومنها – كذلك – لغة الرواية التي جاءت في لغة فريدة مقطرة تجمع بين الشعر والسرد الروائي، فالرواية - بالرغم من استخدامها لغة شعرية وما تتيحه من رسم صور خاصة – لم يتأثر اتساقها السردي، نتيجة لرسم الصور الشعرية المرتبطة بالشعر، فلغة الرواية يمكن أن نطلق عليها أنها تشع بجمالية التقرير، تلك الجمالية التي لا نستطيع تفسيرها، وإنما نشعر بها فقط من خلال فعل القراءة.
في رواية "تفاحة الصحراء" نجد أن الأسلوب السردي ليس أسلوباً عادياً، فهناك إطاران من السرد، أو هناك خيطان متوازيان في نسيج الرواية من البداية إلى النهاية، أو هناك عالمان مقدمان بالرغم من الفارق الزمني بينهما، ولكنهما يتواشجان فيما بينهما تواشجاً كبيراً.
ففي الإطار الأولى "إطار السرد الحياتي المعاصر"، تأتي شخصية الجيولوجي تامر الدكر الذي يعمل بالبريمة بطلاً لذلك الإطار، ومن خلال الرواية تتجلى سمات الشخصية الأساسية، فهذه الشخصية لديها وعيّ بالماضي التاريخي لهذا المكان "صحراء العلمين"، فقد كان أول ملمح يدخل إلى المتلقي عن عالم الرواية من خلال إحساس ذلك البطل الخاص بالمكان "هاجمته صورة المعركة الضارية، من مكانه شعر أن صفوفاً من الجنود والدبابات".. إن هذه الجزئية المقدمة عن إحساس البطل بالمكان وخصوصيته يحيل المتلقي إلى وعي البطل باللحظة الحضارية القديمة، ومدى تأثير هذا الوعي على إدراكه لمتغيرات الأمور في اللحظة الراهنة. وهذا الوعي الجديد قدمته الرواية في أجزاء عديدة من نصها، يتجلى ذلك في إدراكه لطبيعة وجود الإنجليز بشكل مغاير من خلال الشراكة بين المصري والأجنبي، يتجلى ذلك في الحوار بينه وبين جون:
جون: أراك تطبق دراستك للعلوم جيداً.
- أحاول أن أفهم بعض أسرار الطبيعة.
- أرضكم غنية.. فوق الأرض وتحتها كنوز لا نهاية لها.
- ابتسم موجهاً عينيه إلى عينيه مباشرة، أضفى على حديثه بعض المرح، قال: لذلك أنتم هنا.
وعلى هذا فإن الجيولوجي تامر الدكر يمثل الإنسان المثقف الذي يعي الماضي، وينطلق منه لرؤية الحاضر المعيش، ولذلك نجد الرواية تفصح عن ذلك المنحى حين تقول في ص72 "وكان تامر يشعر من آن لآخر أن عليه واجباً ما ولا بد أن يرى ما يفكر فيه هؤلاء الأجانب العاملون معه"..
إن الإطار السابق للسرد يتداخل ويتماهى مع إطار سردي آخر يمثله شخصية الشاب عبد الرحمن، والذي تحول في إطار السرد المعاصر إلى الشيخ عبد الرحمن عامل المقابر أو مساعد كيوديني الإيطالي. فهذه الشخصية أو ذلك الإطار يدخلنا إلى جزئية الحرب العالمية الثانية، وتتجاوب مع الوعي المعرفي للبطل في الإطار الأول تامر الدكر، ومع ما قدمته الرواية من خلال استخدام المذكرات التي أُفرج عنها حديثاً، لتقديم صورة عن طبيعة حياة البدو في تلك الفترة، وعن طبيعة العلاقة الناعمة بينه وبين الملازم دونا ماكسويل.
إن وجود الإطارين وتوازيهما في السرد الروائي، لا يعني – بالضرورة – إن هناك إطاراً أساسياً، وآخر يمكن أن نعده إطاراً فرعياً، فالرواية لا تنحاز لخيط دون آخر، وإنما يمتد الإطاران معاً في حالة عناق وتوازٍ دائمين، لكي يخلقا إحساساً خاصاً بالمكان. فالمكان في هذه الرواية يمكن أن نعده بطلاً أساسياً، فمن خلال الوصف أدركنا طبيعة هذه الصحراء التي تشكل صفات وملامح ساكنيها، وأدركنا طبيعتها الغولة، وأدركنا طبيعة النباتات مثل "الغرنبوس – الميدك الحولي – الترقاس"، وحية الطريشة.
ومن جزيئات المكان سوف تظهر جزئية أخرى تتعلق "بالجمل" القائد الذي يقود الجمال الأخرى في الصحراء، فهذا الجمل من خلال صورته الممتددة من بداية الرواية إلى نهايتها – والممتد عمره من الحرب العالمية الثانية إلى الوقت الحاضر – يمكن أن نعده بطلاً من أبطال الرواية، فهذا الجمل يتأمل عمال البريمة ويقارن بين سلوكهم غير المؤذي بسلوك أصحاب الحرب العالمية الثانية "يتحدث عنها كبيرها وهو يحكي عن الجنود الذين عاصرهم، وكيف كانوا يحيلون النهار إلى ليل أسود بسحبهم، والليل إلى نهار أحمر ملتهب بالنيران" أو قوله في ص18 "الجملان يتباحثان مشكلة الكائنات الغريبة".
إن الصورة النابضة والتي تحمل سمات الكائن العاقل المقدمة للجمل، والتي تجعله يقف على بساط واحد – من حيث الامتداد الزمني من الحرب العالمية الثانية إلى الوقت الحالي – مع الشيخ عبد الرحمن، سوف تجعلنا ننتبه إلى جزئية مهمة في روايات محمد العشري، الروائية بصفة عامة، وفي هذه الرواية بصفة خاصة، وهي صفة إضفاء الحياة على الماديات المحيطة، وهذه جزئية ربما نابعة من طبيعة الروائي الخاصة، التي تضفي وحدة خاصة على الأشياء، وربما تكون نابعة من طبيعة البطل وطبيعة عمله بوصفه جيولوجياً يتأمل الأحجار بشكل خاص.
تفاحة الصحراء من خلال هذا البناء السردي الخاص ترتبط بمقاربة جزئيات فكرية لها نوع من الخصوصية، خاصة في أطار اللحظة الزمنية، التي يتماهى العمل الروائي في إطارها بالرغم من الفارق الزمني بين الإطارين، أولى هذه الموضوعات يتعلق بالصراع الحضاري بين الشرق والغرب، وفي تلك الجزئية يجب ألا تخدعنا العلاقة الناعمة بين الشاب عبد الرحمن ودونا ماكسويل، والرواية في تقديمها لتلك العلاقة أفصحت عن الإعجاب الشكلي فهي بالنسبة للشاب عبد الرحمن حالة مباينة للمعهود، وغير الموجود في بيئته الصحراوية، وهو بذلك يتماس مع الوعي السائد في تلك الفترة، فالثقافة العربية في تلك الفترة كانت تمر بوعي مغاير يعبر عن الدهشة المشوبة بالإعجاب. وهي بالنسبة لدونا ماكسويل تمثل نمطاً مغايراً في حالة الحرب، فجاء الإعجاب الخارجي الذي لم يفض إلى تداخل.
ولكن الرؤية الحقيقية لصورتنا لدى الغرب تتمثل في مواقف عديدة أشارت لها الرواية، ولكننا سوف نختار منها – على سبيل المثال – موقفين، يدلان على صورتنا لدى الغرب، الموقف الأول يرتبط بمقتل البحارة الليبين بدلاً من علاجهم، حتى لا تنتشر العدوى بين جنودهم، وهذا سلوك يجعلنا أقرب إلى الحيوانات التي ليس لها وزن أو قيمة. أما الموقف الثاني فيتمثل في الوثيقة التي أخرجها مكتب الوثائق بعد فترة طويلة من الكتمان "والوثيقة عبارة عن خطة عبقرية قدمها بطل الحرب لحكومة العمال حينئذ لتحويل قارة أفريقيا إلى ثلاثة إتحادات فيدرالية يسيطر عليها البريطانيون، ووصف الأفارقة بأنهم همجيون بشكل مطلق، وغير قادرين على تطوير بلادهم".
هذه الرؤية تنطلق من رؤية متعالية للآخر، بوصفه أقل فكراً وقدرة على تسيير أمور نفسه بنفسه، فالآخر – من وجهة نظرهم – في حاجة دائماً إلى قائد يدبر له أموره.
إن الرؤية السابقة تمارس تأثيرها ودورها في ظهور قضية جديدة عرضت لها الرواية بشكل مؤثر، وتتمثل في صورة الاستعمار الجديد، وذلك بعد انتهاء صورة الصراع التقليدي، المتمثل في الحروب والاحتلال، ويتمثل الاستعمار الجديد في الشراكة الاقتصادية بين شركات مصرية وشركات أجنبية، فالشريك الأجنبي له امتيازات ليست متاحة للمصري، ولنقارن بين موقف الشركة من جون الأجنبي، حين فقد بعض أصابعه، حيث حصل على ميلوني دولار، وبين موقفها من المصري عامل البريمة، الذي صدمته البريمة، الذي لم يحصل على شيء، بل حاول الخبثاء إسناد الخطأ إليه، حتى لا تعالجه الشركة على نفقتها، والمفارقة الواضحة بين الموقفين تتساوق مع التعنيف الشديد الذي تعرض له الجيولوجي تامر الدكر، على فعلته بخروجه مع جون للصيد.
وتتساوق مع القضية السابقة قضية الألغام التي زرعها مونتجمري في صحراء العلمين وهو في حالة فرار "فمع الهرب يلقي الهارب كلّ حمولته خلف ظهره دون أن ينظر أو يفكر في أي مكان ستقع". إن هذه الإشارة – نقصد حالة الفرار – تشير إلى عدم وجود الخرائط التي تسهل إلى حدّ كبير عملية التطهير "أكثر من مليون لغم منتشرة هنا كيف سنطهر هذا العدد الخرافي"..
إن المتأمل لهذه القضية كما عرضتها الرواية يشعر بقيمة عرض الموضوع في رواية أدبية، بعد أن تم عرضها في فيلم سينمائي حديثاً، هذا العرض يشكل حالة حضارية ملحة، لكي تتم مطالبة هذه الدول أولاً بإزالة الألغام، وثانياً بالمطالبة بتعويض لعدد كبير من المصريين الذين راحوا ضحايا للكائن الخرافي المتمثل في اللغم.
وفي هذه الجزئية سوف تصدمنا الرواية من خلال المفارقة الحادة بين نزوع الأجانب في المطالبة بحقوقهم، فجون – وهو ينتمي إلى الدولة التي زرعت الألغام – أخذ تعويضاً عن إصابته السطحية. هذه الصورة تتباين مع موقف المصريين حين يصيب اللغم أفراد البدو في ذلك المكان "إن ذلك الحادث يحدث مع البدو يومياً دون أن ينتبه أو يتحرك أحد، ويتم التعامل مع ما يقع بالتجاهل كأنه أمر طبيعي، وأنهم هم المخطئون، لأن القليل منهم يجهلون خطورة ما بين أيديهم".
يتبقى أن نشير إلى جزئية أخيرة عرضت لها الرواية في ثنايا السرد، وتتمثل في صورة الإدانة التي تقدمها الرواية للمؤسسة أو الدولة في التعامل مع هذا المكان، فالرواية تقدم المكان وكأنه كان نسياً منسياً، ولولا حرب العلمين في الماضي لما شعر المصريون بوجود ذلك الجزء من أرضهم، ولولا البترول في الحاضر – الذي يمكن أن يتماس مع عنوان الرواية – لما كان هذا الاهتمام الظاهري في الوقت الحالي.
والرواية حين تقدم هذه الإدانة إلى المؤسسة أو الدولة، تجعل الإدانة منصبة إلى عدم الرقي بالمكان وأهله اجتماعياً، يتجلى ذلك في الحوار بين الشيخ عبد الرحمن والشيخ حمد، حين تقول على شباب ذلك المكان "إن الناس لا يعرفون شكل الجنيه"، وفي الحوار الممتد بين كيوديني الإيطالي والشيخ عبد الرحمن "إن المقابر أفضل من البيوت التي تجاورها"، وفي قول راغب القابس بعد سرقته جثة عمه، ودفنها في مقابر العلمين "أخيراً سترقد في مكان يليق بك.. هيا إلى الجنة".
وحين نتأمل نزوع الأجانب مع أمواتهم في الاحتفال السنوي، لكي يقولوا لهم أننا لم ننس تضحيتكم من أجلنا، ونقارنها، بين نزوع الدولة، التي لم تحاول أن ترقى بأهل المكان اجتماعياً، مع هذا المكان سنشعر بالسخرية الممرورة.
وعلى هذا فالاهتمام بهذا المكان قائم على استخراج الثروات فقط، دون أدنى محاولة للاهتمام بهؤلاء الناس الذين هم أبناء الوطن، الذين يجب أن نرقى بهم اجتماعياً وثقافياً.
إن رواية محمد العشري "تفاحة الصحراء" تأتي في النهاية لكي تؤكد على أن مبدعها قد وصل إلى إبداع لغة شديدة الخصوصية والتميز، وشديدة التقطير، مملوءة بتجارب إنسانية لا تحصى ولا تحد، وتثبت – أيضاً – أن الكاتب وصل إلى مرحلة التوهج الفطري الذي سوف يظهر أثره أكثر وضوحاً في أعماله القادمة.

*د. عادل ضرغام
ناقد وأكاديمي مصري

No comments: